قصة / شفقة مستطيل الطريق
2009-10-12
وأذكر، هل تكون زوجتي التي سأتزوّجها في هذه البلدة أيضاً، نحيلة أو نحيفة مثل ورق النباتات وسيقانها؟ لكنّني أبقى محتارا، لأنّ تلك النباتات كانت في ذلك الوقت طويلة القامة، مثل فتيات فقيرات لكن نحيفات، ولكن حيّات، أقصد مليئات بالحياة. الأخضر، بيوت الشيوعيين، أرض الشيوعيين، ماء. بيوت الشيوعيين ثانية، ليس بالاسمنت إنّما من التراب. الشمس في تلك النواحي تسطع بقوّتها على الزبل المستطيل وليس المتكوّم، حيث التراكتورات أو الجرّارات لا قوّة ولا حول لها على أن تكوّم الزبل على بعضه، فتتركه يتسلسل ويشكّل بهذا سلسلة تصبح بعدها سلسلة قليلة الارتفاع، منخفضة المنحدرات وتبقى نارٌ مشتعلة في قلب الأزبال. أقول، للزبل ظلّه، ولماذا لا ينطفئ الظلّ؟ كيف ينطفئ الشيء المكوّن للظلّ ويبقى الظلّ، إنّه منحلّ، إنّه يترقرق ببطء إلى الأعلى، هو المتفاعل مع شيئه المكوّن له.
داومت على البحث مثل صيف قائظ يبحث عن مدينة يحلّ فيها. هل تكره المدينة الصغيرة التي فيها القليل من الأشجار، الصيف الصغير القائظ الذي يبحث عنها؟ لا أظنّ أنّ المدينة تبالي به. هناك بعض الظلال الصغيرة، نعم الظلال الصغيرة. بالطبع، للأشياء الكبيرة ظلال كبيرة. لشجرة كبيرة ظلٌّ كبير. لتراكتورات نقل الزبل والانتهاء منه على أطراف البلدة، حيث يحرق، ظلالها، ولاحتراق النفايات والزبل أيضا ظلّها. أهو ظلٌّ أم دخان؟ لا، هو دخان، ولكن دخان الحريق هو ظلّه. كما أنني لا أذهب إلى أيّ مكان بدون ظلّي، كذلك هو الحرق، حرق الأزبال على طرف المدينة. أقول طرف وليس أطراف المدينة، حيث رأيت الحرق فقط في طرف واحد. بالتأكيد هناك أطراف أخرى لاشعال النار في القاذورات، وبذلك القضاء عليها، لكنني لم أتعرّف الى تلك الأطراف. هل رأيتم الدخان الذي يتصاعد من حريق هكذا؟ بعد أن يتمّ الحرق، تبقى بقايا ما لم يحترق وهي بقايا ليست بالقليلة، حيث تشكّل مع مرور السنين سلسلة من التلال المنخفضة. تلال لونها بنيّ أو هي على الأصحّ مرتفعات بنيّة وقد تكون سوداء. أنظر إلى الدّخان وهو دخان ينبعث تقريبا بشكل دائم من تلك القاذورات، وتشرق شمس تكسح بنورها كامل المنطقة، منطقة تجميع النفايات وحرقها، وهي ليست نفايات سامّة البتة، فقط ما تخلّص منه أهالي البلدة التي ليس فيها معمل واحد، ولن يكون فيها معمل قطّ، حتّى بعد عدد من القرون. أحيانا كثيرة أحسست بشفقة عليه، بشفقة معه، مع ذلك المترقرق الدائم، مع أنّ الشمس مشرقة وهو يترنّح إلى الأعلى وأرى نفسه تتلجلج مع الهواء. لم أعرف مصدر الشفقة على ذلك الزبل المحترق، أكان ما يرفّ هو روح النفاية تصعد؟
لِمَ أشعر بالحنان والشفقة وما شابه هذه العواطف الحنونة مع ظلّ احتراق النفايات؟ حينما كنت أنظر، كنتُ أنسى أنّ هنا، على مبعدة أمتار عدة، كانت تقام أعياد النوروز ومهرجاناته. كنتُ أنسى أنني في الحقيقة جئت إلى هنا بحثاً عن الحبّ. أبدأ في الانشراح الشفقي، نسبة إلى الشفقة وربّما نسبة إلى الشفق، والشفق هنا أفضل، وحتّى الآن لم أكن لاحظتُ أنّ الشفقة مشتقة لغويّا من الشفق. ولو كان الشفق نفسه مشتقا من الشفقة لجاز أيضا بحسب تفكيري في الآن ذاك. والغسق والشفق هما أيضا مشتقّان من النور، والنيران من النور، والنور لا يُحرِق، والنيران تفعل. إذاً، ذلك السديم المتصاعد من أعمق حشايا الأزبال، هو من رقرقني، ودماغي ترقرق مذاك مع ذلك الهواء الدافئ الصاعد من بين حشاياه، ولم يعد من الأهميّة بمكان، مَن هو هذا الهوَ. حيث بحثي لم يعد يبحث عن ضالّته تلك، بلى، عن ضالّته المؤنّثة، ولا من شخص وبشريّ يجدّ في البحث حيث لا يجب، حيث هنا بمعنى المكان. أمّا الأمكنة التي بحثتُ فيها عن الضالة فهي عديدة جدّا، وحينما كانتِ الضالة قريبة، نأيتُ بنفسي عن الضالّة. وعنيتُ أنّ ما أستطيع من تفكّر في رقة نفس النفايات، هو مخصوص لي بالكلية ولا شأن حتى لأعمق شخص، وأعمق أو أرفع سطح في البلدة أن يستغوره أو يسبره بمسبار من المسامير. المهمّ، كنتُ أبحث بهذه الطريقة السطحيّة وأقف أمام الأشياء بهذا الشكل الآنف، والشكل الآنف تعجبه أنفته، أي افتخاره على الأشياء. ولو أنّني في تلك الرقعة من السطوح لم أكن منحصرا على ذلك النظر فحسب. كنتُ أنظر إلى بيت يبعد عن الطريق الذي هو نحيل ويرتفع قليلا عن المنحدر إلى جانبيه، وإلى جانبيه البيوت الوحليّة، تقريبا يملك كلّ بيت شجرة، أو شجيرة ورد، الشجرة أكبر وتضع بعض أغصانها على البيوت. هكذا تغطّي النافذة. البيوت التي لا تشرق عليها الشمس، ليست مصدر احساسي. البيت الذي ابتعد عن الطريق مسافة خمسين مترا، سكنت فيه عائلة، كانت للعائلة بنت تلبس فستانا ذا لون أفقع من كلّ ما رأيت في الجوار، فلم أنسه، والشجيرات القليلة في البيت الذي يقع أقرب منّي شجيرات صغيرة ولكنّها قويّة. في هذا البيت القريب امرأة ولها أولاد، أحسّ بفقر العائلة كثيرا، وجهها أبيض، هي امرأة شابّة، متزوّجة حديثا. كما سمعتُ، هل سمعتُ، هل عرفت؟ اذاً كما لم أسمع وكما لم أعرف، كانت تلك المرأة الشابّة قد تم خطفها أو تهريبها كما يقال عندنا، طبعا بكامل رضاها وربّما بإلحاحها أن تهرَّب. كما يهرَّب التبغ المهرَّب وكما يُشرب الشاي المهرَّب الأسود، كذلك كان يدخّنها زوجها ذلك التدخين الذي يشبه الامتصاص والمصّ، ويمصّها كما يشبه امتصاصه للشاي وابتلاعه له، فتشحب زوجته، أمّ أولاده الفقراء، وتصبح على الدوام هكذا فأحسّ معها بذلك الشفق المترقرق في نفسي هذه المرّة.
إن أقيم معملاً، فإنّ الأهالي سيقومون بعد ستّة أشهر من إقامته بالثورة، تفكّر حكومتنا بهذه الطريقة. أي سيزداد الوعي الطبقي ويقوم العمّال ولن يقعدوا أبدا وليس لديهم إلاّ الزبل ليخسروه. عندما تشرق الشمس في تلك الناحية، أنسى قضايا العمال وكدح العمال وبيوت شيوعيي البلدة نسياناً شبه مطلق، وهذا النسيان ليس نسيانا سهلا البتة، ففي تلك الناحية بيوت الشيوعيين، عددهم ليس بالقليل، ولهم أيضا أراض في تلك الناحية، أراضٍ ليست كبيرة المساحة على كل حال. وهم يعتنون بأرضهم تلك الصغيرة، تنبت الأرضُ نباتها الأخضر اليانع، فيه الماء الحيّ الذي يعطي الأخضر الذي يتكوّن من الشمس الوافرة. نعم، ماء يُرى في تلك السيقان النحيفة.
جريدة النهار-
الأحد 11 تشرين الأول 2009
08-أيار-2021
14-تشرين الثاني-2010 | |
23-حزيران-2010 | |
19-نيسان-2010 | |
05-نيسان-2010 | |
09-كانون الثاني-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |