اللوحة للفنانة سمرة شمة

خاص ألف
ما قبل الحكاية
إنه قد جاءَ في سفر تكوين الرغبات..
إنّ الريحَ عبرتْ من ثقوب الوقت, فكان النغمُ قبل أنْ يكونَ الكلام, وصارَ الناي سيدَ الكلام.. وقيل إنّ جنيّة مرتْ بعاشقين يتبادلان النجوى فأصابتها الغيرة, وسحرتهما حبلا ووترا وعلقتهما على جذع شجرة مرّ بها العازفُ, فسمعَ نغما لم ينفخه في الناي من قبلُ, لملمَ النغم وأودعه صندوقَ الحكايات, وشدَّ الحبلَ على القوس, وشدَّ الوترَ من طرفيه, فكانت الربابة, وكانت الحكاية

- 1 -
مَنْ منا حبل القوس؟ ومَن منا الوتر؟
هل ترانا الأسيرين بينَ أنامل العازف, يوزعنا نغما مع غواية حَزّ القوس على وجهِ الوتر!!
والمواويلُ مستودعُ الحكايات, فهل يدرك العازفُ - يا صاحبتي - أني وأنتِ قد سكنا صندوق الربابة قبل مولد الأصوات على ألسنة البشر..
اسألي العازفَ عني؟ أم تراه مثلنا يشربُ من ماء السراب.. يغذّ الخطى.. يقطعُ المسافاتِ لهاثا, والعتمة مخملٌ يحجبُ ضوءَ القمر, تغري بالمسير نحو ومض مستحيل..
هل تومض في مخمل العتمة قناديل الصور؟؟
وعلى أي المرايا تنبض في حناياك عذابات الوتر..
جلدي تقرّحَ يا صاحبتي من حبل القوس.. هل يطلق العازفُ أنغامَه من جلدي, أم من وجه الوتر!!
لا تعذليني
فالذي بيننا أبعدُ من بوح الكلام..
هل يدرك مَن غربنا أنّ نزفَ البوح فينا سكن الآه قبل الآه.. قبل انتشار أوجاع الشجن في البدن
وهل ما زلتْ وحدي الساكن في صدرك.. وهل ما زالتِ في طقس الذهول تترنمين بعذابك؟؟
" أتمعّنُ الثلج المتكدس في رضابك
إيماءات أصابعكَ..
عينيكَ..
الخريف لم يقتل بهاءكَ
ها هو الموسم الخامس
وأنا غارقة فيكَ..
لا أقوى على الخروج منكَ
لكنك غادرت.. رحلت
يا ليتك يوم الرحيل أغلقت في وجهي أبوابك.. "
- 2 -

من منا حبل القوس يا صاحبي ومن منا الوتر؟؟
هل يشيخ الوقتُ؟ وهل أفرغ العازفُ صندوقَ الربابة من مواويل الانتظار.. وتركنا للريح تبعثرنا مع نوّات الأعاصير, لا ندري إلى أين المسير, وإلى أين المصير..
داهمني العيدُ هذا الموسم يا بعيدي بآهة أغلقت عليَّ منافذ الروح, لذت بأوهام الصبابة.. طرت إلى البحر, ربما يرتسم وجهك لي بعد غياب!!
في بيروت أنظرُ للنوارس كيف تقبّلُ جلدَ الماء , تنثر القبلَ في الفضاء, تأخذ راحة فوق صخرة العشاق وتطلق فراخها إلى شرفة معلقة ترصدُ حالَ البحر, يسكنها سيدة لم يسرق الوقتُ منها علاماتِ البهاء, تجالس كهلا يطالعُ جريدته يقرأ عمرَه على صفحة وجهها, ويحتسيها مع قهوة الصباح.. في لحظة شوق حطّ فرخُ نور هبط على الشرفة, التقط بعضَ زاد, قبل أنْ يعودَ إلى الصخرة .. هبط على رأسي لحظة.. وشوشني:
" لماذا أتيت هنا وحيدة؟
إنه في آخر الليل
يطبع قبلته على وجنتها
ويحتضن روحها.."
واصل الفرخ الطيران.. وتركني مع حيرتي
لا عسقلان متاحة للبحر ولا بغداد جالسة على ضفتي النهر, وأنا هنا يقذفني العيدُ إلى حجرة عارية من الدفء باع فيها التاريخُ إرثه.. ليس لي غير..
" قبلة..
يطبعها الصمتُ..
احتضن وجهك.
أردد تقاسيم ناي بعيد..
وتحلم بفجر لا تضيعني آثاره.."
تاهت الأيامُ مني, وتاه العيدُ, فهل تعودُ مع حبل قوس الربابة تمسّد وتر روحي مع نغم جديد!!
- 3 -

من منا حبل القوس, ومن منا الوتر؟؟
إن تميزنا يفقد الشوق مداه, يصبحُ الوهمُ ظلَّ الحقيقة.. والحقيقة أننا سكنا نبضَ الحكاية, نرتدي زيّ الفصول أهات بعد آهات للوصول إلى فصلنا الخامس, نحسمُ الأمرَ عندَ اختلاف الفصول.. أنتِ في تمر العراق إكسير حياة, وأنا في نبيذ الجليل وكروم الخليل.. هل تعلمين يا صاحبتي أنه عندما نادتك صخرة العشاق في بيروت ذات عيد..كنت قد تناسخت في روح فرخ نورس راح ينثر من حولك غبار الذاكرة, كي يفسحَ لي دربا للحضور, حتى أفقت من غيبوبة الفقد.. لا أدري إن كنتِ نحتِ أو صدحتِ نُحتِ:
" وأنا الغارقة فيكَ
لا أقوى على الخروج منكَ
أدوي قروح السلاسل
اردد ألحانك.."
ها نحن نعيشُ خارجَ الوقت على أمل اللقاء عندَ محطة الرؤيا.. نلحقُ بقطار الأمنيات.. ندخلُ صدفة اللوعة نشعلُ بقايا قبلتنا الأخيرة قنديل ضياء, نقتلُ العتمة على نغم بعيد يخرج من صندوق الحكاية, يسكن لحظة تماسّ حبل القوس معَ جلد الوتر.. يخرجُ من مفصل الموت موالٌ ينتظره العاشقون..
يقدح في حناياهم شرر الحنين
لا تخذليني يا صاحبتي فأنا على العهد الأمين, قد علقتك قنديلا على عين فؤادي..
لا تطفئيه..
- 4 -

من منا حبل القوس, ومن منا الوتر؟؟
لِمَ يا صاحبي تفترشُ بياضَ العمر, يبعث إعصارك في روحي السكون؟ وكيف لي أنْ أتذوقَ طعمَ الهدوء في أتون العاصفة!!
هل يحملني طيرك السحريُّ من حالي إلى خمائلك البعيدة..أدخلُ بلورة الوجد, وأعيشُ الهيام قبل ميلاد الكلام, حتى إذا ما الفجر ماتَ قبلَ قدوم الشمس أصحو, يؤرّقني السؤالُ:
هل عدت من متاهاتك, أم كنت في فضاء الأمنيات؟..وهل دخلنا بعض وقت في بلورة تعرض علينا ما تختزنه من عجائب الرغبات وخرجنا على شبع إلى حدّ التخمة بالأسئلة..
قل لي..
كيف بإمكانك وأنت البعيد
أن تبقيني طيرا مسجونا
خلفَ قضبانك
وكيفَ يرسمنا الكونُ؟
وماذا تسمّي ما أمر به :
تمزقٌ أم هوسُ جنون؟!!
أنامُ على وجعي معلقة في خاصرتك منذ ألف عام أو يزيد, هل أنتَ السندباد يا صاحبي؟ أم أنتَ المطارد من قراصنة الزمان؟!!
يصلني همسُ ريح.. صونك يسري في دمي:
- لا تطفئي القنديلَ في صدري.. إنه وقتُ الهزائم, الغانمون فيها أشباه الرجال, والغانمات شظايا من نساء غافلات
- اعبرْ بي يا صاحبي الى بيتي هناك
- انتظريني في الوقت المحايد
متى يرتدي الزمنُ لباس الحياد, يقفُ ما بينَ وهج الشمس وأسراب العتمة, متى تطل مع وجه الحقيقة, تفصل السواد عن البياض..
منذ عقود يا صاحبي والليل يعدني بريح قطبية تطفئ فيَّ نار المنافي, يعدني بشعاع شمس يصهر قطرات الجليد, ويفسح الوقت لميلاد قزح جديد أكونُ وإياك فيه طيفا ثامنا
منذ ضياع أحلم
(أني أراقصُ الأقمار في النهر)
أطفو على غلالة الليل
يشاركني الغناء ناي وحيد
تعب مثلي من السفر..
منذ مئة اغتراب خلق الله الألوانَ سبعة أطياف أودعها قوس قزح, تتمايز عندما تنفذ الشمس من بلورات ماء الغيوم الخيِّرات, وأن الله ميزنا - أنت وأنا - طيفا ثامنا يلوّنُ الروح ببهاء النغم.. يومها دخلت الموجدات طقس بهجة..
وأخبروني عن بهاء وجهك الجميل
وعن طيور تسكن الهواء
فوق حقول عباد الشمس
عن لقالق ونوارس تولد على رمال شواطئك

***
ما بعد الحكاية
.. وقد جاءَ في الحكاية, أنّ الجنية ندمتْ على فعلتها, لتناسل العشاق من بني البشر, ما أغرى عشيقها الجني بمطاردة العاشقات من نساء الإنس, لكنها لم تستطع فكَّ السحر لأنها نسيت مَنْ منهما سحرته حبلا ومَن منهما سحرته وترا
ولا زالَ الأمرُ سرا في صندوق الربابة!!
ولا زالَ النغم..