رحيــــل
2009-11-01
في الغرفة لا معالم حياة، الأقفاص التي كان يتعهد فيها الطيور هُجرَت مع موج رياح المغيب. حتى الأكواريوم التي طالما تفاخر بها، تلك التي أهداه إياها عمه عماد عند تخرجه من كلية الآداب، هي الأخرى سقط سمكها طافيا فوق ماء تدنس...
لا شيء غير دقات الساعة الحائطية المنهكة تجدف بإجهاد نحو لحظة الصفر.
"ما عدتُ أحتمل يا أمي، أضعت كرامتي على الأرصفة و لمَْ يتبقَ في ذاكرتي غيرك و لهفة رحيل"
لا شيء.. غير صدى آخر الرصاصات التي لمْ تخطئ هدفها، لا زال يحتفظ بالألم و أوجاع الذكرى.
لا شيء...
ربما أضاع كرامته و هو يناور لأجل الدقيق و السكر، ربما.. مع الكرامة كان يفقد الإحساس بالنخوة و اعتزازه بالأنا و الأرض، ربما...
ومن منكم يستطيع أن يقول أن الخبز لا يقتل الكرامة، من؟
حتى أنا ضجرت من كلماتكم، سئمت ألفاظ المثقفين ، سئمت أحلامهم و هزائمكم و نفسي.
ماذا بعد الوطن؟
" ماذا بعد الكرامة يا أمي ؟"
الرقاص بطيئا يتحرك. لا شيء بالجوار، الليل الوديع يحط كجيش هُزم و لم يعُد له غير الرايات البيض، و البرد كنزيف الحروف يرسم خرائط آلام و نكبة، ومن النافذة الوضيعة يتسلل اللون الأسود...
هو قلب الليل إذن يواصل التخلص من خفقان الهزيع يحث نحو المجهول..
من قال إن فجر الشرق يأتي بنور الصباح؟ من قال أن هزائم الليل تبشر بطلائع النهار؟
أمس، و هو يكافح الجوعَ على ناصية طريق، كان المطر ينزل كالشكوى وكان البؤس الطافح من عينيه يجفف الأرض من آخر قطرات الأمل، صادروا عربة الخضار ثم ألقوه من المخفر إلى الشارع.
قيل له:
ـ إن عدت عدنا.
كان جسده باردا و أصابع يديه و رجليه متجمدتين.
" فقدتُ رغبة العيش يا أمي و ما عدت أحتمل ذل الرغيف"
رتب كل شيء، أحكم إغلاق الباب و وضع الكرسي الذي قضى عليه ليالي الدراسة على الطاولة حتى يكون أبعد من الأرض بما يلزم.
" لا تحزني يا أمي، سأظل جوارك دون أن أكون مرغما على أكل رغيف مسموم، لا تحزني.."
أخذ قراره، ألقى النظرات الأخيرة على الهنا، تذكر اللحظات الحلوة التي عاشها، القبلة التي ظفر بها من خد حسناء و هو يحصد أعلى العلامات في أول دورة جامعية، و صورة ماضِ باسمة تلاشت و أحلام المستقبل الواعد. أخذ نفسا عميقا ثم أغمض عينيه.
الفجر.. ضجت السماء بتكبيرات المآذن، و قفز ضوء خافت، جهة الشرق، فوق أسطح المنازل..
" من يعيد بغداد لذاكرتها، و للأسوار ماضيها، من.. يا ولدي"
صوت كلثوم، نبراتها عادت لتترك على لسانه طَعم حليب ثديها، و زقزقة عصفور عاد، على النافذة...
فتح عينيه، الأسماك في الأكواريوم لا زالت تتحرك، لم تمت بعد، تقاوم الماء العكر و الحرمان، و من بعيد بدت الحياة عنيدة تقاوم متسلقة خيوط الفجر.
محسن الوكيلي
كاتب مغربي
2009/09/04
08-أيار-2021
06-كانون الثاني-2010 | |
01-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |