هدهدات
2009-11-02
غنِّ لي
أغنيةً لا أستنفرُ لها البعيد والقريب
لأفهمها .
أغنيةً لا تحتها نور يحتاج للكشف
ولا ضوء فوقها يضيء زجاجتَه
وزيتُه في الظلام .
قصيدةً أقرؤها بشفتيّ كما لو كنت أسمعها ،
أراها بعينيّ كما أرى كأس ماء
إن عطشتُ شربتُه
وإن شئتُ بلّلت وجهي
أو أسكبه على حجر وأتابع كيف
ينشّي سطحَها لدقائق
وتعود إلى لونها دون تأثّر .
لا أريد شعرا لعقلي
فالمدارس ستتخمه ،
أريد شعرا لقلبي
كما لو ضحكتْ لي طفلةٌ
ولعواطفي كما لو رأيت غائبا
في أحضان أمّه .
شعرا في الحب الذي لا هجران فيه
لا بكاء ولا عذابات ،
غنائياً كشعر شاعرٍ كتبه لترقص عليه
حبيبته .
دعني من الحكمة فالفلسفة تكفي ،
دعني من الخيال فالوحدة في العتَمَة
آنس من نار الشتاء .
أعماقُكَ غامضةٌ فلا تتعبني بأسرارها .
أعماقي بسيطةٌ كدمية .
إن رأيتُ البحرَ لا أسبح في أعماقه
وإن مررتُ بنهرٍ اكتفي بصوت جريانه
وإن مررتُ ببئر لا تَطالُ ماءها يدي
أقول عنها جافّة .
وإن رأيتُ أزهاراً على شجرةٍ سامقة
لا أجهد عينيّ بالنظر إليها ،
أنحني إلى التراب وأجمع ما تساقط تحتها
فإنْ كنَّ ما زلن محتفظاتٍ ولو بالقليل من روائحهن
أحملهن إلى سريري ،
وإن كان التراب غلب عليهن برائحته
أحمل حفنة من التراب
أشمّها وأقول :
هي ذي كانت زهورا من قبل
وستكون سامقة لا تطال غدا .
وعندما أضحك من طفولة أفكاري
أتذكّر أمّي وأقول :
أحبّها فقط
لا لأفكّر كيف حملتني ولا كيف ولدتني . .
لا بحليبها ولا بمعاناتها
بل لأني أحبها كما أحب الشعر
ببساطة
مثلما تحضنني بين ساعة
وأخرى دون أن أفارقها .
هكذا غنِّ. . . يا جَـدّ
غنِّ لي كما تقبّلني أمّي وأنا نائم
لأحلمَ _ إنْ حلمتُ _ بقُبَلِها
بعد أن تنام .
* * *
2
_ سأغنّي لكَ اليوم أغنية جديدة
تهيّأ يا حبيبي
كن معي قليلا
لن أطيلَ
لن أثقلَ عليك ببحرها الشعريّ
ولا بإيقاع صوتٍ مزعج
لا أشغلُك بمعانيها
ففي كل كلمة معنى واحد فحسب
وإن شئت فدع المعنى نهائيا
اسمعها ككلمة
مثلا :
كلمة (جواد) يعني أنت
وكلمة (جَدّ)
يعني شخص
لا تفنِ مالك وعمرك لتحمل معنى اسمك
كالذي أفناهما ليصير (جَدّ)
لا تشغل بالك في المعاني
هي لا تثبت على حال
تتغيّر مع الزمن
ما أن تصل إليها حتى يأتي من يغيّرها
فتُضيعَ من عمرك الكثير وأنت تجهد
لتقبض عليها
وتجدَ أنها غير ما سعيتَ إليه .
تمسّك بأبسط الكلمات
التي لا يختلف عليها الناس
ككلمة ماما أو بابا
دون أن تفكّر بمعناهما
وعندما يصير لك حفيد
علّمه أن يكون كذلك
فما عادت الكلمات بمعانيها التي كانت
والآن سأغنّي لك يا جواد
كما حدّثتك
أغنيةً دون حزن
دون ثقلٍ
خفيفةً خفيفة
أخفّ من الفرح
وأبسط من بسمتك
لا تزعجْ سمْعَ أحد
لأننا سنغنّيها بشفاهنا دون صوت
وبأعيينا دون نشيش دمع
فغنِّ معي . . . غنِّ يا (جواد):
……………………
………………….
…………………
………………..
……………….
………………
……………..
…………….
……………
…………..
………….
…………
………..
……….
………
_ هل غفوتَ يا (جَـدّ) ؟
أتعبك الغناء ؟
وأنت الذي لم تعتد عليه صامتاً .
……..
…….
……
…..
….
…
..
.
* * *
3
جوادُ كان سارح العينين في السرير
وقطّةٌ شقراءُ في غرفتِهِ
شقراءُ مثلُ أمِّه
ماءت له لم ينتبهْ
رمتْ عليه ذيلَها
أحسَّ كفَّ أمِّهِ تهدهدُهْ
تبسّمتْ شفاهُهُ
أجال حول رأسِه
رأى حراكَ ذيلِها
فظنَّ أن أمَّه تدغدغُهْ
بخصلةٍ من شعرهِا
فماءتِ القطّة صوتاً ناعماً
ما شكّ أنَّ أمَّه تلاعبُه
فقلّد المواءَ مثل صوتِها
وردّت القطّةُ بالمُواء
فماءَ أيضا مثلَها
وأُشعلَ الحنين في قطّتنا الشقراء
وردّتِ المُواءْ
وردَّدَ المُواءْ
لساعةٍ قطّية أو ساعةٍ طفليةٍ
وعندما أُخرجتِ القطةُ من غرفته
أراد أن يبكيَ لكنْ خانه البكاء
فهدهدته أمُّه بصوتها
…………………..
أدار عنها وجهه وعاود المواء .
………………….
* * *
4
انظر يا جواد
لا أحمل ساعة
هل أحمل الذي يسلب
مني دقائق
وساعات
وأياما
والعمر كله
الوقت وحش جائع
يأكلني بخفاء
لا أريد أن أراه
ولا أن أشعر به ينهشني .
عندما بُشِّرتُ بولادتك
كنتُ
( كمعصوب العينين ورُفِعتْ الضمادات عنهما )
لأراك .
عيناك تدوران كعقارب ساعة
والوقتُ منهما
يرفع القناع عن وجهه
يعبرني
يشطرني ثلمين
كسِكّة المحراث
ثلم ما قبل ولادتك
وثلم ما بعدها .
أنا أحبّك يا جواد
لا لتسألني عيناك كم بقي لديك من الوقت ؟
بل لتصيرا فرجارا يغلق عليّ دائرة الزمن
مهما صرّ الوقتُ
لا يستطيع فتح قفلها
وأعود إليك
إليك
إلى الوراء .
* * *
5
هل ستحب يا جواد
الفتيات . .
وما بعد
النساء ؟
هل ستتزوج وتنجب ؟
هل ستجمع مالا وتسرف بتبذيره ؟
هل ستضيّع كلّ شيء
المالَ والنساءَ والزوجة والأولاد ؟
سأحكي لك يا بني :
كلّها دوائر لا مغزى لها
إن صرت شاعرا
لا تدع الندم يعذّبك
فالشاعر لا يربح إلا إذا خسر كل الأشياء .
***
افترض حبلا ممدودا بين الأرض والسماء
علّق ذكرياتك عليه حتى تجف
وإذا نسيت تماما تماما
أغمض عينيك
وافتح هاتفك
دقّ رقما لا تحفظه
إنْ ردّ عليك صوت
ممتلئ بالذكريات
ابتلع مرارة الخطأ
وأدر رقما آخر
ورقما
ورقما
ورقما
فلا بد أن يجيبك صوتٌ بعيد عن الشبهة . .
للضرورة الشعرية تخيّله صوت امرأة .
افتح صفحة في حاسوبك الجديد
واكتب له هذه القصيدة :
موس ذو حدّين في الحلق
الذاكرة
والنسيان .
* * *
6
وحدي أيضا
لكنّي لا أهوّم تهويما
الحزن يصبح كذبا إن بكيناه بالمجاز
كل معاناة تصير شجرة وارفة
إن سقيناها بالماء أو بالدموع
من يعتزل ويستوحش من عزلته
ليكسرها
ما أكثر مجالس اللهو
والفارغين للتفاهات .
أشتاق لكل من ملأن قلبي ذات زمن
أين هن الآن ؟
هل يشتقن إليّ ؟
أم منشغلات بالزوج والأبناء ؟
ألستُ زوجا ولي مثلهن !
ما الذي يجعلني وحيدا
كلما دخل ليلٌ أستقبله بالبكاء .
* * *
7
آه يا جَـدّ
أنت أيضا بعيدٌ
لأنّك لا تعرف القراءة أكتبُ لك
لأنك لا تميز الشعر من النار
الدمع من الحليب
سأمزج لك هذه الكلمات بزجاجتك
وأُرضِعُك
أمّك لن ترضى بذلك
لن أدعها تراني . . بالطبع
لكن يا حبيبي أين منّي أمّك
هي غائبة مثل زجاجة حليبك عنّي
وأنت أيضا اخترت زجاجتك الحاضرة
عن جـدّ غائب .
* * *
8
افترضت أنّك اليوم ستدخل المدرسة
ومعك قلم رصاص
ومبراة
وممحاة
قلم الرصاص يا بنيّ
كم كتبتُ به من أيامٍ في دفاتر الزمن
والمبراة ماتت شفرتها
ممحاتُك هذه تغريني هاتها
أمامك سنوات طويلة لتتعلّم المحو
_ ماذا ستمحو يا جَـدّ
_ سأمحو أول ما سأمحو
من ذاكرتي
الزوج
والأب
انظر للكلمتين يا بنيّ
فجوة مليئة بالقيح
وخلايا متيبّسة كجلدٍ جرب
لا تكفي ممحاة بل أحتاج إلى مجحفة
وهذه
وتلك
وغيرهما
سأ َجْحفُ وأمحو حتى تعود الذاكرة
إلى مرحلة ما قبل الجنين
_ ( يسألني ) وكيف ستكون بعد ذلك ؟
_ ( أجيبه ) أعود إلى مرحلة النقاء أو العماء إن شئت
_ ولكن كيف ستعرفني آنئذ ؟
أعدت له الممحاة وبكيت
بكيت حتى انمحى افتراضي
أنه اليوم سيدخل المدرسة .
* * *
شاهر خضرة
08-أيار-2021
08-تشرين الثاني-2010 | |
02-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |