كيفك بلُّود ؟
خاص ألف
2009-11-25
كيفك بلُّود ؟
استوقفني هذا السؤال الترحيبي ووضعني في خانة عميقة من التأمل لواقع الحال الذي نعيشه، وجعل من تفكيري لوحة لا ترقى لأن تصل حتى إلى مرحلة التفكير.
قال العبارة أحدهم طالباً من الآخر بناء آلاف الجدران بينهما، وفي حين أنه لم يقصد أي مدينة دون تلك أو سار بمفرده دون الحاجة إليه، لكنه تجاهل الآلية التي تتعامل بها كائنات القرن العشرين، وبذلك دهس صاحبنا هذا رأس "مارشال ماكلوهان" مدمّراً قريته الكونية الصغيرة.
في الكون الآن نعيش نحن ويعيش هم وهذا لا غبار عليه، وفي الكون ثمة تقسيمات أفضت إلى تلوين الكرة الأرضية بملايين البقع السوداء والبيضاء، ومن هذه الملايين كانت الأمزجة المتعددة في نهاية المطاف .
وحتى أبقى داخل مطافنا وحتى أبدو كونياً جداً، سأضرب مثالاً على بقعتنا التي لاتزال تصبر على أخطائنا إلى هذه اللحظة، ليأتي ابن إحدى المحافظات قائلاً لابن مدينته: "مرحبا بلُّود"، والبلُود هنا مشتق من البلد الذي يعيش فيه الاثنان، ولكم نشعر بالحزن عندما تضيق هذه المصطلحات وبالتالي الفجوة حين نسمع من يقول: " كيفك ضيعة؟"، والأنكى من ذلك "كيفك حارة؟".
الملاحظة تبقى نفسها في كل حالة، لكن شدة تضييقها بين التقسيمات الإدارية للمدن والمناطق تجعلنا "نترحّم" على مصطلح "بلُّود" بعد "الحارة".
لا أريد الدوران في فُلك الفكرة الواحدة أو عدة أفكار دون رابط بينها، وهذا جلي، فطبيعة الفكرة متدرّجة بين البسيطة والمركبة في مجتمعنا السوري الذي لايزال يلهث بمعظمه نحو تقديس عدة مفاهيم من هذا النوع البليد، وحتى أبدو أكثر محلية أقول:
- 14 محافظة يجب ألا تنتج 14 فكرة مختلفة فقط، بل 14 مليون فكرة.
- البلد والضيعة والحارة لن تنتج سوى فكرة واحدة هي اللافكرة.
قد تزداد حالات التشبث بمفاهيم كثيرة كهذه في أوقات معينة أو مراحل معينة يمر بها الشخص ويكون بحاجة إلى حماية نفسه، وكأنه يعيش في غابة، من أبناء محافظة ثانية قد يشتمونه، فلا يجد سبباً للدفاع إلا بالانضمام خلف "بلاليده" وتشكيل كتيبة مقاتلة علّها تستطيع رد اعتبارها إن جاز القول.
لا أدري إن قلتُ شيئاً أو أصبتُ الهدف إلى الآن ؟
أجل، الفرصة غير مهيأة لحرب باردة بين المحافظات، ولن تكون هناك حرباً عالمية بالتأكيد، وأقصى ما ستصل إليه الأحوال هو اشتباكات بين عادات سلبية قديمة يلزمها سلاح الحوار.
بالحوار وحده نقضي على فكرة "البلُّود".
المسألة تتعقد عندما يُقترن سلوك الشخص ببنية بيئته، أي بمعنى أن الإنسان ابن البيئة التي عاش ويعيش فيها، وبالتالي تكوين صورة ذهنية، علماً أن المجتمعات البدائية تكون فرص ظهور الصورة النمطية فيها أوفر حظاً من غيرها المتقدمة، وهذه الصورة تبقى ملتصقة ومحنّطة، كمن يطلق الأحكام على غيره لأنه من هذه المدينة أو سواها، أي الربط بين السبب والنتيجة لكن بطريقة غير علمية.
لن أدور بأفكاري هذه دون وقائع :
- ما الدليل الذي يُثبت فكاهة وغشمنة "الحماصنة" ؟
- ما مدى صحة مقولة "حلبي بندوق"؟
- أين أنت يا ابن المنطقة الشمالية الشرقية لتقرأ نفسك في ذاكرتهم وإرثهم ؟
ليس من الضروري أن يكون"الشامي دمه حامي"، والحلبي "بندوق" والحمصي "غشيم" والحموي "بدائي" والديري "مشكلجي" والشاوي "ملوّث" واللاذقاني "شرّيب متّة"، والإدلبي كذا وكذا ....
كثيراًُ ما أسمع من أصدقائي نكاتاً تضع كل محافظة سورية في نقطة انطلاق واستقرار مختلفة، ولطالما جعلوا من أهالي حمص مادة غنية لنكاتهم، وكذلك ربطوا بين ابن المنطقة الشرقية والجهل، والشمالية بالتجارة والوسطى – السلميّة - بالثقافة وووو ...
المهم، بل الأسوأ هو تقسيم سوريا إلى جغرافيات منمّطة، فهنالك الشمالية الشرقية والشرقية والساحلية، وهناك الشمالية والداخلية، وهناك الداخلية والجنوبية، وبين هذه وتلك ثمة بلدان وضيع وحارات .
وجاءت الكارثة عندما بنى كل واحد جمهوريته وفقاً لمنطق حارته، ليس لشيء بل ليقول لابن حارته فيما بعد "كيفك حارة ؟"، ويتدرج في النهاية إلى "كيفك ضيعة ؟"،كصيغة راقية للتطور .
حتى لا يطرق التشاؤم باب مقالتي هذه، قد تُصهر الحارة العديد من قيم الاختلاف وتحولها باتجاه التكامل عبر إنتاج وفير من الثقافات المتعددة ترضي الجميع.
وما يقلقني أكثر هو أن تُمسي المحافظة الواحدة يداً واحدة بوجه الأخرى التي هي أيضاً واحدة، واليد الواحدة لا تصفق إلا هنا، ولكن ماذا لو اتحد اليدان وأكملا بعضهما وأبعدا عن فلسفتهما التعارك والتدمير قليلاً ؟
وحتى لا نطيل الحديث في التدمير، وقف أحدهم ذات مرة في كراج البولمان قارئاً لوحة إحدى الباصات " دمشق - تدمر - دير الزور"، لكنه نسي أن يقرأ العبارة دون تشديد ميم "تدمر"، إذ ظن أن دمشق ستدمّر دير الزور .
لم لا ؟
- لم لا تدمّر كل محافظة أخرى بما تمتلكه ؟
- لم لا تدمّر حلب ما حولها بصناعتها وتجارتها وعبقها ؟
- لم لا تدمّر دمشق ما حولها بثقافتها وإرثها ؟
- لم لا تُغرق اللاذقية ما حولها ببحرها ورطوبتها ؟
- لم لا تمنحنا فلورنسا سوريا "السلمية" عظيم أدبها وفنها، رغم أنها منحتنا إياهما حتى التُخمة .
لم لا ؟ ولم لا ؟
التدمير بحد ذاته يصبح تكاملاً وأُلفة ومحبة ويخلق في ذات الوقت أوعية من التنوع وخطوطاً هلامية لكنها ملموسة بين كل الحارات، وتخلق التفاهم وليس الصراع اللاشيئي "العضلاتي" بين حارتي "الضبع"و"أبو النار" .
من هنا، عندما يسير أحد "الديريّين" في دمشق يجب ألا يُقترن ذلك بمصطلح "شاوي"، أليس الشاوي أصل للديري ؟
للعلم فقط، حتى الآن عندما يسير إنكليزي في أحد أحياء فرنسا، فأنه يُعرف من مشيته، ولطالما يتعرض للتعليق .
يجب ألا يغلي دمنا عندما نرى "ابن بلدنا" فقط، يجب أن يغلي عند رؤيتهم جميعهم .
آلجي حسين
[email protected]
08-أيار-2021
31-آذار-2013 | |
05-كانون الثاني-2013 | |
11-أيلول-2012 | |
06-كانون الثاني-2012 | |
16-أيلول-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |