عبد اللطيف اللعبي يحصد الغونكور
2009-12-11
اللعبي
وأخيرا "أزهرت شجرة الحديد". تفتحت غونكور على عبد اللطيف اللعبي. على إسم مغربي عَــرَّشَ في مداه الكوني. وصار علامة على قصيدة تنعجن بطين الواقع قبل أن تستوي وردة في مزهريتها الأخيرة. أثرا يدل على مناضل ذاق عذابات الاعتقال وظل واقفا كالشجرة لم تُــحْــنِه رياح التغيير ولم يُسقط يده في الماء. وشارة على حكي ينزف من جرح التجربة دافئا في صدقه، ويتناسل من عمق الذاكرة طازجا ملبوسا بحس الطفولة، منقوعا في رشفة البدايات.
هذا عبد اللطيف اللعبي، المناضل الذي خاتل النظام، وطارح الاستبداد في عقر سطوته. ودفع الضريبة ثمان سنوات من حريته في أقبية الجحيم. هذا هو. اليساري الذي دافع عن مبدأ الاختلاف والتعدد. شخص يضج بالأغيار. "مفرد بصيغة الجمع" بالتعبير الشهير لأدونيس. خرج على مشهد السكون والاستقرار الثقافي في مغرب الستينيات ب"أنفاس" التغيير والتجديد، وكان صاحب مشروع جذري يفجر أقفال التقليد، ويبني لغد الاختلاف. لحداثة لها ما بعدها.
كان شاعرا أولا وأخيرا. وظلت تلك هويته الأم. وكان مناضلا نقيا في الجهة اليسرى من القلب. لم ينكسر عكس كثيرين من رفاق الطريق. وقد عرف كيف يؤالف فيه بين أكثر من صوت ولغة وجهة ونبض. تنبه دائم. قلق. توتر. ونص ينبجس من صخرة العناد. يخلق لنفسه كل ما يحتاج ليبقى. هذا العنفوان في الكتابة. في التحرك اليقظ بين الشعر وأجناس أخرى مثل الرواية والمسرح والترجمة. في رفع الصوت أعلى من سماء سابعة، هو ميسم شخصية نذرت وجودها لأجل حرية تقف على شفير المصادرة، لأجل عدالة اجتماعية مهددة بالسلب والاغتيال.
هذا الوقوف على ربوة الكلمة الملتزمة لم يبق حبيس جدران الوطن، بل فتح الأفق نحو الجرح الفلسطيني. والشاهد "أنطولوجيا شعر المقاومة الفلسطيني" التي نقل فيها اللعبي إلى الفرنسية أهم الأصوات الشعرية بالأرض المحتلة. والمدى الإنساني، الذي صار الوطنَ الحقيقي لصاحب "احتضان العالم" هو ما دفعه أيضا للذهاب نحو الآخر بوردة التآخي والاعتراف، فكانت ترجمة البياتي وزريقة وحنا مينه وآخرين. وكانت "أنطولوجيا الشعر المغربي الحديث" في تنوع تجلياته.
والحال، أنه بعد كل ما طال الشاعر من تبدلات. من انفتاح أكبر بعد تجربتي السجن والمنفى، ومن انهيارات قيم مست العالم وقلب كثيرون إثرها معاطفهم، لم تزل جمرة الماركسية متوقدة في أحشاء اللعبي. بها يستضيء. وهي ما يمده بجذوة الجدل المادي الذي يستقرىء به شروط واقعه. ومع ذلك، فالرؤية اتسعت أكثر، وما ضاقت العبارة. استحال الصوت الشعري الجهير في "عهد البربرية" و"قصائد تحت الكمامة" همسا لا يخلو من أسى ومن تأمل وحكمة في "شجون الدار البيضاء" و"شذرات من سفر تكوين منسي".
تحول غمس الريشة في جرح التجربة المؤلمة كما الحال في "يوميات قلعة المنفى" و"مجنون الأمل" إلى امتياح من ماء الطفولة، واستغراق في سديم الذاكرة" مثلما تجلى في "احتضان العالم" و"قاع الخابية"، وفي الانحياز لأدب الناشئين. وفي كلا المنحيين كتب اللعبي. دون سيرة الألم الشخصي والجماعي معا. وبقي صاحب قضية. انشغل بالجمالي حقا، لكنه لم يتخل عن الوجه الآخر، عن الصوت الأعمق فيه. لأنه لم ينهر. أعلى من أمله في أن يرى ديوقراطية معافاة ببلده. وغنى لرقصة الحلم بكل فائض الحياة. ثم اتكأ على أفق يمتد إلى ما لا ينتهي.
ف"مجنون الأمل" صاحب ثوابت لم تنهد أو تميد : الحرية والمساواة. وهما مدخلان رئيسيان لمعاينة الذات في جنوحها/جموحها نحو الأساسي في الإنسان، ولإضاءة "نصف القمر المحتجب" بتعبيره البليغ ذات بوح. المرأة. هذا الكائن الآخر. الموصوف باللطافة، المنظور إليه من عين المناضل الرائية، الحصيفة على أنه الترمومتر الحقيقي لقياس منسوب الديموقراطية ومدى التحرر والتحضر في مجتمع ما.
واللعبي أيضا هو هذا الوعي النقدي الحاد المنحوت بما يُولّد باستمرار من أسئلة حارقة، تنبثق من تفاصيل الواقع اليومي، ولا تخبو عند تخوم المخيلة. كل ذلك في جدل مخصب يربط هذا بذاك، وينتصر في العمق للمعنى، للإدارة، ولممكن الفعل الإبداعي الخلاق، مديرا الظهر لأي منزع عبثي، أو سقوط في ما هو من صميم العدم.
اللعبي في الأخير لا الآخر، هو هذا اللعبي المدان ب"ارتكاب الكثير من الحرية"، والتحليق في سماوات الحلم والإبداع أبعد من نجمة الجنوب. فسلاما أيها الشاعر الأكبر من أي جائزة، وليشربوا البحار.
عبد العالي دمياني
08-أيار-2021
02-أيار-2010 | |
20-آذار-2010 | |
06-آذار-2010 | |
20-كانون الأول-2009 | |
11-كانون الأول-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |