رؤية معاصرة / أبو الطيب المتنبي : حياته و موته
خاص ألف
2010-01-05
يقدم لنا الشعر العربي بعض النماذج المبكرة االتي يمكن اعتبارها من فصيلة ( الفرسان ) ، أو الرموز الحاملة لقيم وجودية أصيلة . و من بين هؤلاء الملك الضليل امرؤ القيس ، فهو خير من يرسم صورة العلاقة الغريبة و المضحكة بين الإنسان و السلطة من طرف ، ثم الإنسان و ذاته الغائبة و الغامضة من طرف آخر.
و الفتى القتيل طرفة بن العبد الذي حمل لواء التمرد و العدمية. كان طرفة بأضعف تقدير البطل الغائب في رواية ( آباء و بنون ) لتورغنيف ، ثم إنه الصورة المبكرة لجو من العنف و التدمير الموجه نحو الطاقة الذاتية ، الطاقة التي يرادف نشاطها أساليب التحويل و الترميز ، و حيث تكون خبايا النفس هي الواقع الموضوعي ، و دائرة الأحلام و الرغبات.
و أخير أبو الطيب المتنبي ، الشاعر المغامر الذي اكتفى بوظيفة شعرية واحدة هي ( الإنشاد ) ، و لم يتخطاها إلى وظيفة ( التفكير ).
كان أبو الطيب المتنبي في معظم حياته شاعرا مستترا ، بمعنى أنه تحرك بلاغيا و اجتماعيا في المجالات الرمادية حيث يصعب حسم الخيارات أو اتخاذ أي قرار.
و أعتقد أن مثال فرويد عن ( عسر الحضارة ) ينطبق عليه تماما ، فقد تحمل أعباء سرد الحضارة العربية من لحظة التبشير بالرسالة ، و من لحظة تأسيس البيت ( السلطة و الدولة ، العرش و البلاط ، إلخ ) ، و حتى لحظة السقوط ، أو ما اصطلحنا على تسميته بعصر الانحطاط ، حينما تراجعت شمس الرسالة الخالدة ، و هو ما يطلق عليه الإغريق اسم النموذج ، أو الاسم فقط مع ( أل ) التعريف ، باعتبار أنه مصدر ، و منه يمكن اشتقاق المعاني و المواقف.
و قد توافقت هذه اللحظة لديه مع تكنيك إسدال الستار أو الموت.
و بهدف المزيد من التوضيح يمكن لنا أن نميز في سيرة المتنبي 3 محطات أساسية :
1 – التأسيس و الرحيل إلى بلاد الشام للبحث عن مصادره ، ثم العودة إلى بادية السماوة للتبشير بدعوته الجديدة ، و التي اختزلها حسب رواية ابن جني في قصيدة ختمها بقوله :
أنا في أمة تداركها اللـــــــــــــــــــــــــــــــــه غريبٌ كصالح في ثمود
ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام الشيخ بين االيهود ( الديوان – ص 21 )
و تمتد هذه الفترة بين 935 – 945 م . و هي نفس الفترة التي كانت فيها ماكينة الدولة الإمبريالية تعاني من العسر الحضاري ، و إن تحرينا الدقة من التفكيك و التجزؤ و الخروج من مضمار الجوهر الواحدي إلى دائرة ( النفوس المعقدة ) التي تشكو من جميع أنواع العلل : المعرفي و العقائدي مثل البارانويا و العصاب و الذهان و التطرف و ما إلى ذلك..
و ينسب للمتنبي أنه كان يتلو على أتباعه و مريديه و لا سيما من أفراد بني كلب آيات من كتابه المقدس و التي في جملتها قوله : ( و النجم السيار . و الفلك الدوار . و الليل و النهار . إن الكافر لفي أخطار ... إلخ – الدعاة لوجيه فارس الكيلاني ص 90 ).
و لكن الأرجح أن دعوته لم تكن إلى رسالة سماوية ، و إنما إلى إنشاء دولة صغيرة أو إمارة مستقلة بشكل كونتون كونفدرالي و تعاوني ، على غرار دولة الأنصار في المدينة المنورة ، و ربما بصورة دمج ذكي و من غير محاكاة بين عسكرتاريا أسبارطة و مشروع أثينا.
2 - الترحال. و كان المتنبي طوال هذه الفترة الممتدة بين لقائه مع سيف الدولة ملك حلب عام 948 ، و حتى انسحابه من بلاط كافور الإخشيدي ملك مصر عام 962 قلقا ، و يمتاز بأعراض مرض يانوس أو الشخصية المانوية المجزأة وفق معيار 1 : 1 ، خير : شر ، أهداف سرية : برنامج علني ، و ما شابه ، و التي تتوازى مع حالة الجنون الثنائي folie a’ deux ( موسوعة علم النفس لأسعد رزوق ص 101 ).
و من الواضح أن الشخصية التي تنتمي لهذا النمط دائما تكون تحت تأثير تفاصيل البنية الأوديبية ، و لكن مع بعض التعديلات التي يفرضها الصراع مع الواقع و الظروف ، ثم مبدأ التصعيد الفرويدي.
و لم يأل أبو الطيب خلال هذا العقد و نيف ( 14 عاما ) جهدا للاستئثار بإحدى الوظائف البيروقراطية في جهاز دولة تعتمد على الترويج لمفاهيم التحول الرأسمالي و الكومبرادوري. و قد استعان لتحقيق ذلك بأداتين هما في صلب الأفكار الرومنسية التي لها جذور عقل حديث و مغامر ، و هما : السيف و ركوب المخاطر ، ثم البلاغة و البيان الشعري . و في هذا المضمار استطاع أن ينصب لنفسه تمثالا له بعدان : الواقع الخؤون و المسموم و الذي تكالبت عليه جميع أشكال التآمر و الجماعات الروتارية السرية و عوامل الحت النفسي بالتآزر مع التعرية الوجدانية. ثم الخيال البلاغي و التصوري و الذي اعتمد فيه على قدراته الفذة في التجريد و الكناية. و من الأمثلة على ذلك قوله بين يدي سيف الدولة :
أتحسب بيض الهند أصلك أصلها و أنك منها ؟ ساء ما تتوهم
إذا نحن سميناك خلنا سيوفنا من التيه في أغمادها تتبسم ( الديوان ص 241 )
و قوله في رثاء والدة سيف الدولة :
و ما التأنيث لاسم الشمس عيب و لا التذكير فخر للهلال ( الديوان ص 213 )
أو هذه اللوحة اللغوية للقلم التي يرسم بها صورة سريالية مغرقة في التجريد:
يمج ظلاما في نهار لسانه و يُفهم عمن قال ما ليس يُسمع ( الديوان ص 29 )
3 – المنفى الاختياري و الصمت. و خلال هذه الفترة الأخيرة و التي انتهت بموته عام 965 م في مغامرة فروسية غير متكافئة مع فاتك أبي جهل الأسدي عمد المتنبي إلى الانسحاب من جولته الخاسرة على جميع الجبهات باستثناء فن الإنشاد. و تحول إلى المديح و الهجاء على حساب الفخر بالذات و الدعوة لها ، و هذا هو معراجه الوحيد على الأرض ، و يمثل بالنسبة له قطاعات الانتاج العاطفي و فيض الوجدان و التحرر من أغلال الصورة و المادة حتى الوصول إلى الروح و الجوهر.
و هنا كان أداؤه كلاسيكيا و قريبا بمعناه و تكنيكه من الاتجاه العام للمرحلة ، أقصد الدخول بالشعر إلى مجال النشاط السلعي و استجابته لقوانين العرض و الطلب.
إن هذه المحنة البلاغية و الوجدانية التي استطاعت أن تروض ( نفس ) المتنبي ( الكبيرة ) آذنت ( لصورته ، بمفرداته جسمه ) أن ( يستريح ).
و بقراءة معاكسة لمعادلته الخاصة بالعلل و النتائج : مراد النفوس الكبيرة ، ثم شقاء و تعب الأجسام ، كان لا بد لجميع المبادئ الأخرى أن تتحول ( بتكنيك كافكاوي : مسخ و ارتداد ) :
- من الدعوة إلى الرسالة نحو مرحلة السبات ثم التفكك ( فينومينا تقشير النفس ).
- بعد ذلك من احتضار الجانب الرومنسي و الكنائي لمصلحة خطاب كلاسيكي من غير إيديولوجيا ، شعاره موت الإنسان و نهاية التاريخ.
- و في النهاية من اندحار مبدأ الحياة إلى المباشرة في مرحلة من الخمود و الموت و الغياب.
ختاما ، أعتقد أن أبا الطيب المتنبي هو شاعر كوزموبوليتاني بامتياز ، عاش طوال حياته ليلاحق عالما وهميا ، و كان مثل سرديات شعرية أخرى ( لها نفس المواصفات : القلق و تعريف العدالة و عدم التصالح ) يبحث عن ظله. و في أفضل الأحوال عن القسط الوجودي المشكوك به من الذات . فهو لم يرتبط مع الخطوط المعرفية لعصر الانحطاط ، و لا حتى مع الأحفورات الذهنية التي لها رصيد محلي ، و أيضا كان إشارة عن حصار مجتمعاني ضد ذاته المفصولة عن الخطاب السائد و معايير التداول ، حيث أن طلب العز يرتبط باللظى ( اطلب العز في لظى ) و صعود الحظ بالهمة ( نجمي في نحوس و همتي في سعود ) ، و حيث يتعاكس شكل الوفرة مع معنى الإحاطة ( يفنى الكلام و لا يحيط بفضلكم ) ، تماما مثل تعاكس المتناهي مع غير المتناهي ( أيحيط ما يفنى بما لا ينفد ) و غير ذلك مما يأتي في باب الطباق و التضاد.
و بصيغة أخرى و مختصرة كان المتنبي في وجوده المتعين ( و هذه استعارة مباشرة من عراب الوجودية هيدغر ) يعكس قوانين الشعرية و ليس نظم القصائد ، و الحساسية الفنية و ليس الشكل أو التقنية فقط.
2009
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |