منذر يرد.. الشعر العربي الآن لا شيء يموج على صفحته، ولا شيء يغضّن جبينه.
خاص ألف
2010-01-18
تجاوب معنا منذر المصري، مع أنه يبدو قد أخذ موقفا مني شخصيا، فهو يرسل مادته هذه إلى إيميلي ولكنه يخاطب القائمين على موقع ألف، ولا يخاطبني شخصيا. قبلت ذلك منه بمحبة، لأن عليَّ دائما أن أدفع ثمن ديموقراطيتي. يقول في الإيميل" لأصدقاء المشرفون على موقع ألف
تحية
بناء على طلبكم ... أرسل لكم مقدمة الكتاب .. عسى تهدئ روع الشباب الذين يعتبرون أني لم قمت بعملية سطو مسلح على كنوزهم الشعرية المقدسة
--
سلامي للجميع"
وهو الذي يعرف أن لا غيري من يحرر الموقع بمساندة من هيئة التحرير وليس بالعمل الحقيقي والدؤوب. أقول أنني تقبلت ذلك منه، وهو الصديق القديم، قِدُمنا معا.
ما همني هو أن ما جاء في تقديمه للكتاب فكرة جديدة وجدية ومقنعة حد المتعة، ولو أن علي حميشة، والمعلقين على ما جاء في مقالتيه، انتظروا قليلا ليقرأوا مقدمته التي تلي لفكروا عشرات المرات قبل أن يكتبوا ما كتبوه.
المهم ليس شيئا رديئا أن نعلن رأينا ونسمع رأي الآخر .. ولو لم يثر حميشه القضية لما قدر لنا أن أن نقرأ بمتعة مقدمة منذر لكتابه "منذر مصري وشركاه" قبل أن يطبع.
الآن أصبح للجميع الحق بأن يطلبوا من منذر حذف قصائدهم من الكتاب، ولا أظن أحدا سيفعل بعد أن يشاهد صورته على الغلاف، ويتأكد من حفظ حقه فيما كتب
سحبان السواح
دبّورٌ يَجني رحيقَ الأزهارِ ليصنعَ العسل
إضاءات :
1- ياسر سكيف/السفير الثقافي/2005: في العود إلى البدء، الشك في المعطى المعرفي والجمالي وحتى الحسّي، يرتسم الطريق إلى ( إيثاكا )، ( إيثاكا ) منذر مصري. حيث المعرفة ليست في التجربة، بل في مكابدة المحو، في لذة الاكتشاف المركب، اكتشاف الذات في تجربة الآخر.
2- عباس بيضون/السفير الثقافي/2005 : سنجد مفاجأة أكبر حين نرى أن منذر مصري، اشتغل على شعره وشعر غيره، بدقّة صائغ يتظاهر بأنّه لاعب أكروبات.
3- ناظم السيد/القدس العربي/2008: هذه دربة، حنكة لم تأت منذر مصري عفواً بل نتيجة مراس... نقاشات وسجالات وحوارات بين الذات والذات، وبين الأنا والآخر.
كنت، لسنوات كثيرة خلت، أثناء قراءتي الشعر، ضمن مجموعات مطبوعة، أو مخطوطات معدّة للنشر، منها ما صدر لاحقاً بعد سنين، ومنها ما لم ولن يصدر أبداً!، أو قصائد منشورة في مجلات وجرائد، أو مجرّد مسودات، كنت أضع خطوطاً تحت الجمل والمقاطع الّتي لفتت انتباهي لهذا السبب أو ذاك، ليس فقط، كدليل على مروري عليها، بل أيضاً استجابة لتوقع مبهم بأنّي يوماً سأعود إليها، ومن الجيّد وقتها، أن أعرف ما كان قد أثار اهتمامي وراقني منها. كما أنّي لمزيد من ترك الأثر، الأمر الذي أعاني منه مرضاً نفسياً لشدّة تحكّمه بي، غالباً ما كنت أضع علامات متنوعة على هوامش الصفحات، أو أكتب رقم الصفحة الّتي ورد فيها هذا السطر وذاك، وغالباً أيضاً ما كنت أكتبها هي ذاتها على الصفحة الأخيرة للمجموعة الشعرية، مضيفاً عليها بعض الأفكار والانطباعات الآنية الّتي خطرت لي أثناء قراءتها. الأمر الذي ساعدني كثيراً، كلّما رغبت بإلقاء نظرة على إحدى هذه المجموعات، أن أستعيد بسهولة وسرعة أكثر انطباعاتي ومشاعري حولها.
إلاّ أنّي، أثناء إعدادي لمجموعتي الشعرية الرابعة (دعوة خاصة للجميع)، لتصدر ضمن الجزء الأوّل من أعمالي الشعرية (المجموعات الأربع الأولى-2006) خطر لي، نتيجة صغر حجمها، بالنسبة للحجم المعتاد لمجموعاتي السابقة واللاحقة، أن أزيد عليها عدداً من القصائد، كنت قد كتبتها كمسودات، باستخدام تلك السطور والمقاطع من أشعار الأصدقاء. ما اضطرّني، وأنا أعيد العمل بها بجدية أكبر، أن أعود لما لدي من مجموعات قديمة وجديدة للشعراء السوريين، إلى صفحاتها الأخيرة، بادئ ذي بدء، ثمّ إلى صفحاتها الداخلية، لأنبشها وأستخرج هذه السطور. فكان نتيجة ذلك، أنّي وجدت نفسي متورّطاً في تجربة شعرية كاملة، لا عهد لي بمثيلها، مؤسّسة على كتابة قصائد مأخوذة من قصائد شركائي الشعراء السوريين. السوريين، لأنّه صدف وأنّي سوري، ولدت وعشت وسأموت في سوريا، متقاعساً عن أي فرصة تتيح لي الحصول على وطن آخر سواها، مع أنّي، يوماً، لم يطب لي أن أرتدي ثياباً تطابق ألوان علمها، أو أن أحفظ ما يزيد عن سطر أو سطرين من نشيدها الوطني، وعندما شكّك بحبّي لها، قلت: (سوريا بلدي كما خالدية أمي)، ماذا يريدون أكثر لأثبت وطنيتي؟. ولأنّه صدف وأنّ هؤلاء الشعراء يشاركونني بها، بل بعضهم يضيق علي ويقاسمني مدينتي وحارتي وبيتي .. وأمي، ولأنهم يرسلون لي مجموعاتهم الجديدة بواسطة البريد، أو مع أصدقاء، وعلى صفحاتها الأولى كلماتهم وتواقيعهم: (..أعِد له الحياة ثانية)، وأحياناً يتكبّدون السفر الطويل من مدنهم وقراهم البعيدة ويطرقون باب مرسمي، لا لشيء سوى أن يلتقوا هذا المنزوي في الطرف القصي من سورياهم ويقدّموا له مجموعاتهم الشعرية الساخنة، وكأنها خارجة لتوّها من الفرن. قلت قصائد مقتبسة، مأخوذة، مصنوعة، من قصائدهم، وذلك لأنّي كنت أنتقي، في البدء سطوراً أو مقاطع منها، ثم أعدّل بها وأحذف، وأقدّم وأؤخّر، وأحياناً نادرة أضيف، على النحو الذي تفرضه علي فرضاً، الجريمة!، أقصد القصيدة. ولكن لماذا ليس أقول الجريمة؟، فمن هذا الشعور جاء اسم مرتكبيها: (منذر مصري وشركاه).
ومن هنا، أيضاً، تتأتّى الشبهة الّتي يحملها هذا العنوان، كونه سيبدو للبعض استعراضياً ونرجسياً، ليس بسبب اسمي فيه فحسب، بل أيضاً لأنّي وضعته في بدايته. والحقيقة، رغم رغبتي الشديدة بتجنّب ذلك، تعذّر عليّ العكس، أي أن أذكر أسماء جميع شعراء الكتاب، أو حتّى أنتقي بعضهم، كما حين خطر لي أن يكون العنوان: (هالا ونوري وحكم وحازم وعابد ولينا وعبد السلام وبشير وأكرم وعلي و .. وشريكهم). الأمر الذي أفكّر الآن بوضعه، في الغلاف الخلفي للكتاب. أمّا الغلاف الأوّل، الذي عملت به لأكثر من شهرين، فهو توليف لصور وجوه ما يقارب السبعين شاعراً من شركائي بأنواعهم، بعد قصّها ومعالجتها لتلائم تصميم الغلاف، منها صور التقطتها لهم في مناسبات متفرقة وأحتفظ بها في ألبومات صوري، ومنها ما أرسله لي الشعراء أنفسهم أو بالاستعانة بأصدقائهم وأبنائهم، ومنها ما بحثت عنه وسحبته من شبكة الانترنيت، أمّا صورة بركات لطيف فقد التقطتها مؤخراً عن شاشة قناة تلفزيونية سورية في حوار أجري معه يتحدث فيه عن ذكرياته كسائق قطار دون أدنى ذكر لكونه شاعراً، ولكنّ من سوف يمعن النظر في الغلاف ولا يجد صورته، فذلك، بسبب تعذّر حصولي عليها بأيّة طريقة ممكنة، ما عدا السفر مئات الكيلومترات والحصول عليها منه مباشرة. بين هذه الوجوه الستة والستين، بعد كثير من التردّد، وضعت صورتي، لا أظنّ أحداً سيستكثر علي هذا مهما كان موقفه، كما أنّي بعد كثير من التفكّر، وضعت تحت عنوان كلّ قصيدة، بين قوسين، اسم الشاعر، تثبيتاً لأحقيّته فيها، وإقراراً مني بعائديتها له، يتبعه اسمي: ( ...... - منذر مصري)، إقراراً آخر بأنّه أنا من يتحمّل مسؤولية ما آلت إليه القصيدة في خاتمة المطاف. إضافة إلى أنّي، رغم محاولاتي الكثيرة، لاستبعاد ذكر أي اسم في العنوان، اسمي على وجه الخصوص، أنا الذي يلجأ إليه أصدقاؤه وغير أصدقائه لاختيار عناوين كتبهم، لم أستطع أن أتوصّل إلى عنوان آخر لهذه التجربة أشدّ ملاءمة وأشدّ طرافة بآن.
قصائد من قصائد الشعراء السوريين النثريين، السوريين ما عدا العراقي مهدي محمّد علي الذي جعل من حلب بصرته، ونضال حمارنة العالقة بالشام للأبد، وأحمد جان عثمان الصيني الذي بعد خمس وعشرين سنة عاشها في سوريا، زوجاً لامرأة سورية وأباً لثلاثة أطفال سوريين، وشاعراً بثلاث مجموعات باللغة السورية، أقصد العربية، أعطيت له مهلة أسبوع واحد، لكي يحشو حياته كلّها في حقيبة واحدة، ويغادر سورياه بلا رجعة، ولا أحد يعلم السبب!؟، أمّا ناظم السيد، فلا أدري ما الذي أوقع في روعي أنه سوري اضطر للعيش في لبنان تهرباً من الخدمة العسكرية!. النثريين ما عدا شاعرين أو ثلاثة، فلست عدوّاً لشعراء الوزن والقافية على نحو إطلاقي. ولكن ليس كلّ الشعراء النثريين السوريين، وليس من يعتبرهم البعض أهمّهم، وليس من هم أقربهم إليّ وأحبّهم إلى قلبي، رغم أن الكثيرين منهم حقّاً كذلك. وبالمقابل، هناك بين شركائي شعراء لا أعرفهم إلاّ بالاسم والشعر. ما أقصده، هو أنّه لم يكن هناك اختيار بمعنى الكلمة، ولكن عموماً، الشعراء السوريين النثريين الذين توفّرت لديّ أعمالهم، والذين ما أن طلبت منهم، أو سمعوا بمشروعي هذا، حتّى راحوا يرسلون لي مجموعاتهم الصادرة، أو مخطوطاتهم الّتي أعدوها للنشر، ولم يحزموا أمرهم بنشرها بعد، أو قصائد متفرقة مكتوبة بخطّ اليد، أو حتّى مسوّدات قصائد. وأهم من هذا كلّه، الذين شعرت بقدرتي على التواصل مع قصائدهم، على إقامة علاقة مع كلماتهم وأفكارهم، واستطعت، في النهاية، كتابة هذه القصائد بمشاركتهم، الأمر الذي بدا في أغلب الأحيان وكأنه لا حيلة لي فيه، فإمّا أن تنجح عملية التهجين، بسهولة أحياناً، وبعسر شديد أحياناً أخرى، وإمّا لا.. حتّى بدا لي وكأنّه من المستحيل أن أكتب قصيدة من شعر صديقي الراحل محمّد سيدة، أو أختي مرام، اللذين أحفظ شعرهما غيباً، أو شاعرة، لا يمكن لي أن أفوّتها لو باختياري، كدعد حداد، أو شاعر خاص كمحمّد عضيمة لديه أكثر من عشر مجموعات شعرية مليئة بالطرائف، أهداني إياها جميعها دفعة واحدة، أو محمّد خير علاء الدين الذي يقولون إني أقحم أسمه في كلّ شيء، أو نزيه أبو عفش وعادل محمود وبندر عبد الحميد، الذين شكّلت معهم عصابة الفرسان الأربعة في كتاب محمّد جمال باروت (الشعر يكتب اسمه – 1981)، وشعرت وأنا أكتب عنهم في الجزء الثالث من أنطلوجيا الشعر السوري (انعطافة السبعينات) أنّه آن الأوان لأشبّ وأقطع رباطي المقدس معهم. والكثيرين من شعراء الأجيال الّتي تلاحقت بعد ذلك. كما أنّي حذفت عدداً لا بأس به من القصائد بعد أن كنت ضمّنتها المجموعة، على أن أعيد النظر بها مستقبلاً. عندما يصدق أنسي الحاج ويعطيني ما وعد به الجميع: (سوفَ يكونُ للجميعِ وقتٌ، فاصبروا)، وعندما سأكون في المزاج. المزاج الذي سمح لي، أوّل ما أخذت الفكرة على محمل الجد، أن أكتب كلّ يوم قصيدة، أو على الأقل قصيدتين، ثلاث، في الأسبوع، المزاج نفسه، مقلوباً على وجهه المعتم، منعني من متابعتها سنين، وبتّ لا أعود إليها إلاّ في مناسبات متفرقة، كان آخرها، كما تدلّ تواريخ أحدث قصائدها، عام /2007/، وكما أفعل الآن، وأنا ألقي عليها النظرة الأخيرة قبل إصدارها، فأحذف وأضيف وأعدّل وأنا في حالة شديدة من الارتباك والإثارة. حينها لن يكون هناك، ما هو أسهل عليّ من كتابة مجموعة أخرى بمشاركتهم. أعني بمشاركة قصائدهم ونصوصهم، بمشاركة كلماتهم وأفكارهم وأحاسيسهم، لأن معظم شركائي هؤلاء، غالباً ما كانوا غائبين كلياً عني، كأشخاص وكأبدان، ولكنّهم في أشد حالات الحضور سطوة، كنصّ وكمعنى وكروح، حتّى أولئك الذين يحيون قربي، وربّما لا يمرّ يوم دون أن أراهم أو أسمع صوتهم، لم أجد أنه من دواعي عملي أن أطلعهم على ما طلعت به من قصائدهم، وذلك أسوة بشركائي البعيدين، ماعدا قلّة منهم حدث وأن أرسلت لهم صورة عن قصيدتنا المشتركة، أسألهم رأيهم في هذه الجملة أو تلك، وأحياناً، لا لغاية محددة، كنت أطلب منهم موافقتهم. الأمر الذي أوصلني لقناعة بأنه من الصعب، عموماً، على صاحب النصّ بالذات أن يتقبل تقطيع أوصال قصائده، ثم نزعها من هيئتها الطبيعية، وإعادة إلصاقها لتؤلّف كائناً شعرياً آخر، ربّما، أقرب إلى المسخ بنظره، وأكثر من أي شيء آخر، عليها بصمات شاعر سواه!. بينما لا يجد القارئ العادي مشكلة في استقبال النص كما هو، فلا خلفية هناك تمنعه من الحكم على القصيدة بذائقته الحرة، هذا ما أريد أن ألفت إليه نظر شركائي وأطمئنهم عليه. غير أنّي أيضاً رحت أكتب قصائد مستخدماً مصادر أخرى من كتابات الآخرين، كالرسائل الشخصية، والقصة القصيرة، أو الخواطر الأدبية، أو أي نوع من الكتابات الّتي يمكن أن تتوفّر لي، وأجد بها ما يمكنني اقتباسه وتحويره وتوليده قصيدة هجينة أخرى.
كلّ من يعرفني، يعلم أنّني أتيت للشعر من خارجه، فكثيراً ما ذكرت بأنّي يوماً أعددت الكاملة لأكون رساماً، وعندما كانوا يسألونني: (ماذا تعني بقولك إنّك أعددت العدة الكاملة!؟)، كنت أتفاصح وأجيب: أقصد أنّي قمت بالتوهم المطلوب كاملاً!؟ وهكذا، أنا، من هذه الزاوية، أحد أولئك الزوّار ذوي الحقائب الكبيرة، إلاّ أنّي، أقسم، أتيت ولا أحمل معي أيّ حقيبة على الإطلاق، رغم أنّي بدوت، وكأن خطّتي المضمرة، كانت أن أبقى. وهذا ليس صحيحاً، بدليل أن إقامتي ظلت شديدة الاضطراب. فبقدر ما حصل مراراً، أن أهبّ، فجأة، وأجمع حوائجي معلناً قراري النهائي، بالمغادرة: (هذا الصَباحُ ... يا لروعتِه/ استيقظتُ/ وكانَ الوحلُ فِراشي والريحُ لِحافي/ بالتأكيد هذا ليسَ حُلماً من أحلامي/ وذلكَ بفضلِكم/ وهوَ/ بكافَّةِ الأحوال/ كلُّ ما تستطيعونَ أن تفعلوه لأجلي/ ثَمنَ عِنادي أن أبقى/ منكم). و(أجملُ ما عندي أخرِجُهُ لكم/ وأنتُم تظُنّونَ العكس/ وكنتُ سابقاً أعتمِدُ على ذلك/ لكنّي اليومَ لا أخجلُ من شيء/ هذا كلُّ ما أستطيعُه/ وهوَ أفضلُ ما لَديكم)، و. بقدر ما كنت أخترع المبررات لمكوثي الدائم وتصرّفي وكأنّي أحد أهل البيت: (ساعدوني وساعدوا أنفسَكم/ بأن تقتربوا بلِصقي/ وتَجعلوها سهلةً/ أدخلُ وأخرجُ فيكم/ ولا ألطِمُ رأسي). مطلقاً العنان لجزيل وعودي: (أنا أنتُم جَميعاً لِوَحدي/ كونوا لي/ أنا لكم/ ومعاً معي/ لن نكونَ لأحد). غير أن لا هذا ولا ذاك قد حصل، لم أبن بيتاً وحوله حديقة، لنفسي، ولكنّي لم أغادر لمكان آخر بالمقابل، مرضت وكبرت بالسن، ولكنّي لم أمت، لم أفعل شيئاً ذا بال، كنت وسأبقى شاعراً غير معترف به، إلاّ في حدود ضيقة، وفي دائرته الخاصة غير المنتظمة الحواف. وإذا كان البعض يصدّق أنّه عندي موهبة ما أو قدرات معينة، فقد أسأت التصرف بها، أفسدتها، عن قصد ودون قصد، حتّى باتت غير مؤكدة. رغم أنّه، أعترف، أتيح لي من الفرص ، ربّما، ما لم يتح سوى للقليلين.
هي تجربة، تجربة قراءة الشعر بالشعر، نتج عنها كتابة مجموعة شعرية كاملة: (منذر مصري وشركاه). وربّما، إذا أتيح لي الوقت، ها أنذا أعدكم، مجموعتين شعريتين، لأنه، يا لنا من مجانين شعر، نحن السوريين، فها هي أمامي، رفّ كامل من المجموعات الشعرية الجديدة، غير تلك الّتي وضعتها منذ أيام بجانبي، تنتظر أن أعمل عملي بها مستدركاً من لا يمكن أن أهمله من شركائي، ومعظمها باكورات شعراء ولدوا البارحة، أو أوّل البارحة على أبعد تقدير، فيا له من رحم لا يعرف الرحمة للشعراء هذه سوريا. ما كان لأحد أن يفهم كيف يولد الشعراء السوريون بهذا المعدل من الخصوبة، من الخوف، ومن اليأس، ومن الرجاء، ومن الفرح، ومن الرغبة بمقاومة العدم، ومن الحب، من الحبّ أكثر من أي شيء آخر في العالم، يولد الشعراء السوريون، وكأن الشعر عندهم، يعود لأصله الأول، لغة الحب.
تجربة لم يسبق لي أن خضت مثيلاً لها في حياتي ، ليس فقط الكتابة بأساليب الآخرين وأدواتهم، بل بكلماتهم وأحاسيسهم وأفكارهم. هي تجربة التعامل مع تجارب الآخرين، ليس لكونها تعنيك وتهمّك فحسب، بل لأنّها حقّاً، كما يدّعون، كتبت لتخصّك وتصير لك. أو كما كتب ياسر اسكيف في معرض مقاله عن (الشاي ليس بطيئاً): (لذّة الاكتشاف المركّب، اكتشاف الذات في تجربة الآخر).كما عندما كتب بيتهوفن، بدون تشابيه، تنويعاته على أعمال موزارت وساليري، وفان كوخ في نقله لأعمال ميليه متلمساً فيها أسلوبه الخاص، وبيكاسو في رسمه لعشرات الاسكتشات واللوحات المستمدّة من لوحة (الغداء على العشب) لمانيه، ولوحات أخرى لفيلاسكيز وسيزان، ونزار صابور في إحيائه (أبو صبحي التيناوي) في تجربته الأخيرة (عنترة زماننا)، وإصدار جوني كاش خمس ألبومات بعنوان (The American) يغني بها ما يزيد عن مئة أغنية شعبية أمريكية ختاماً لحياته الفنية الصاخبة، وتخصيص بوب ديلان ألبوماً مزدوجاً، لغناء العديد من الأغنيات الّتي ليست من تأليفه، ويسميه دون سواه من ألبوماته الّتي كتب ولحن كلّ أغانيها: (Self Portrait-صورة شخصية)، كما لم يضرّ أليوت أن يأخذ سطراً كاملاً لشكسبير: (آلات عزفٍ محطمة، غنت عليها الطيور الأثيرة ذات يوم) ويجعله السطر الأخير من سونيت /73/ مضيفاً على الآلات صفة (عارية)!، وغيرهم الكثيرين. الأمر الذي يأتي من تأثرهم بالعمل وإعجابهم به، لحدّ الرغبة بإعادة كتابته، أو عزفه، أو رسمه، بأساليبهم وأدواتهم الخاصّة والمختلفة. إنه نوع من التأكيد على خصوبة العمل وغناه، بسماحه إعادة إنتاجه في ظرف غير ظرفه، وبفلسفة غير فلسفته، نجحوا بمحاولاتهم أم فشلوا. النظرة الّتي آمل أن ينظر بها لما قمت به في هذه التجربة. كوني، كما شبّهني أحدهم، أشبه بدبّور يجني رحيق الأزهار ليصنع عسله، أو لأعود وأقول: منذر مصري يمتصّ روح القصائد ليكتب شعره، تأكيداً لشعوري وأنا أعيد تصفّحها من حين لآخر، بأنّها تتضمّن القصائد التي كنت أحلم بكتابتها، والقصائد التي لم أكن أحلم بكتابتها .. ولأن هذا يصبُ في شعر الآخرين أكثر شعري، فها أنا أجد الحق في أن أقول إنها أفضل ما استطعت تقديمه خلال تجربتي الطويلة، وربّما أفضل شعر قرأته طوال حياتي.
لا أدري أي رغبة تدفعني لتقديم كلّ هذه التبريرات والتوضيحات، وكأنّي أقوم مسبقاً بالإجابة على، بمصادرة، أي سؤال أو احتجاج يمكن لقارئ ما أن يثيره، أثناء أو بعد قراءة المجموعة!. هكذا أرجو أن تفهم هذه المقدمة المسهبة الّتي بدأت الكتاب بها، أنا الذي لا أكره في الكتب أكثر من مقدماتها، أيّ نوع من الكتب، وأيّ نوع من المقدمات، فما بالك بكتب الشعر!؟ حتى إني أعترف لم أقرأ مقدمة (لن) لأنسي الحاج الّتي تعتبر أوّل بيان عربي لقصيدة النثر. إلا بعد سنوات من قراءتي قصائد الكتاب.
ولكن بما أنّي انتهجت هذا الطريق، فلا بدّ لي من أن أغزّ السير فيه وهو يضيق ويضيق حتى يصل إلى رأس الدبّوس، تلك النقطة الّتي يبدو أنها تختم كلّ شيء، وأنّه لا شيء بعدها. وذلك على الرغم من معرفتي كم في هذا المنظور الهندسي البسيط من وهم. إلا أنّه الوهم ذاته الذي دفعني عندما أعدت نشر (الشاي ليس بطيئاً) في موقعي على شبكة الانترنيت، أن أقدّم لكلّ قسم فيه، شارحاً وموضّحاً. فقد وقع في روعي، أن ما يتحدثون عنه من هوّة بين الشعر الحديث والناس، يمكن ردمها بمحاولات من هذا النوع. أي بالمقدمات والشروح وتبيان أسباب النزول، وما إلى ذلك!.
وهكذا لا أجد بدّاً الآن، وأنا أقدّم مبررات لتقديمي مبررات، وإيضاحات لتقديمي إيضاحات، من توضيح أمر قد يراه البعض ليس بحاجة لتوضيح، ولكنّي أظنّه لا يقلّ عن كلّ ما ذكرته التباساً وإشكالية، وهو تقسيمي، شبه القسري، قليل الدقة، الكتاب إلى أقسام ذات عناوين وذات تصنيفات ومواضيع، كلّ منها يتضمّن عدداً من الشعراء يزيد وينقص، ينقص حتّى يقتصر على شاعر واحد، ويزيد حتى يبلغ الثمانية عشر شاعراً، منهم من لا ينطبق عليه عنوان القسم إلاّ بتساهل مفرط، وذلك لأنّي لم أجد له قسماً آخر أشدّ ملاءمة، ومنهم من له أكثر من قصيدة في قسم واحد، ومنهم أيضاً من يتكرّر اسمه في أكثر من قسم، وذلك لكونه، مثلاً، من (أخوتي في الرِضاعة)، ومن (سُلالةُ الغزاة) بآن، أو من شعراء (استيفاءً لشروطِ الحديقة) وهو في إقامة دائمة في بيروت: (ولِدتَ في القامشلي وستموتُ في أمستردام). وأجد أنّه من البديهي القول، إنّي لم أختر شركائي من الشعراء وسواهم، أو أكتب هذه القصائد، وهي موزعة في ذهني على هذا النحو، فالأمر، لا أكثر ولا أقلّ، من طريقة سبق وانتهجتها في كلّ مجموعاتي الشعرية، منذ (آمال شاقة) إلى (الشاي ليس بطيئاً)، عبّر عنها ياسر اسكيف في مقاله ذاك: (.. فالمقطع في النصّ، والنصّ في القسم، والقسم في الكتاب، اتّخذت جميعها مواقع قدرية). وكما للمجموعة برمّتها مقدّمة عامّة، لهذه الأقسام مقدّمات خاصّة، تطول وتقصر، تسهب وتلمّح، كنت قد كتبتها عندما نشرت بعضها في الصحف والمجلات. أمّا الّتي لا مقدمات لها، سوى بعض أسطر لا تفي بالغرض: (لا شيءَ يَمنَعُ القِططَ منَ المَواء) و(استيفاءً لشُروطِ الحديقة) و(إلصاقُ نُتَفِ صوَرٍ مُمزَّقة)، فليس لسبب، سوى أنّي تركتها هكذا، ناقصة، كما المجموعة، كما الغلاف، كما كلّ شيء قمت به في حياتي.
أمّا بالنسبة للشعر العربي، فأعتقد أنّه بات، ومنذ عقدين من السنين أو أكثر، من الركود للحدّ الذي لا شيء يموج على صفحته، ولا شيء يغضّن جبينه.
ـــــــــــــــ اللاذقية-27/5/2009
×××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
20-تموز-2019 | |
30-أيلول-2017 | |
03-أيلول-2016 | |
10-تشرين الثاني-2010 | |
منذر يرد.. الشعر العربي الآن لا شيء يموج على صفحته، ولا شيء يغضّن جبينه. |
18-كانون الثاني-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |