فصل من رواية/ رواية عودة منصور اللداوي – 1 -
2010-01-24
خاص ألف
بوابة بين الدنيا والدنيا
مفاجأة محسوبة، اعتقدت أني قد تهيأت لها، وتزودت بما يقيني شرها، ودربت أعصابي على التعامل معها.. " يوهمونك أنهم يعرفون كل شئ، يرمون أمامك طعوماً.. لا تلتقطها دعهم يتحدثون واصمت، قنن الإجابات ما استطعت، وأنت رجل الاقتصاد والإدارة، اقتصد ما أمكن، لا تبادر بالحوار.. كن طرفاً محايداً وإن أجبرت حاور بما تريد أن تقوله أنت "
ابتسم الضابط ، لم أصدق أن الإسرائيليين يجيدون الابتسام ، لم يكن عسكرياً جهماً ، مدني قميصه مفتوح عن صدر عفي ، سلسلة لامعة تستريح على وسادة من شعر أشقر ضارب إلى الحمرة المحنّاة ، يتآلف بريقها مع لمعان السلسلة ، توقعت أن يكون النقش على القلادة نجمة سداسية ، لكنها لم تكن .. شئ من لغة غريبة محفورة، ربما العبرية القديمة .
ظل مبتسماً، ونظر إلى لوحة الكمبيوتر، تعمد أن يحرف وضع الجهاز حتى أرى من موضعي صورتي وكامل البيانات، أحسست بأني قد اختزلت، ضُغطت ودخلت الصندوق واشتعلت على الشاشة المضيئة.. ماذا لو انقطع التيار الكهربي وماتت اللوحة، هل أتلاشى وأموت، ويصير الصندوق تابوتا يضمني وآلاف الناس من قبلي وبعدي ..؟!
هل يستطيع هذا الجهاز اللعين شطبنا في لحظة غي سلطة أو جنون غضب وحقد ..؟
استدركت خوفي، وأخذت بتلابيب حواسي، اليقظة.. ليس المكان ساحة تأمل، ولا المقام ملعب هواجس.. لابد من الحضور.. صوت أبي واهن يطن في رأسي .
- أنت وخيارك يا رياض.. ابدأ هناك بداية سليمة .
الضابط وبعربية سليمة مخارجها
- أهلاً ..
عدّل وضع جهاز الكمبيوتر، لم أعد أرى اللوحة، واصل وكأنه يقرأ من لوح محفوظ.. واثق هكذا بدا لي .
- اسم الأب : منصور علي محمود اللداوي من مواليد إسرائيل 1946 .
جف ريقي، ابتلعت مرارة خشنة، كدت أخرج عليه بأعلى صوتي، منصور اللداوي من مواليد اللد قبل أن تكون إسرائيل..
- اسم الأم : نوال جمعه المفلح من مواليد سوريا عام 1950 .
أخ.. ما الذي ضربني فجأة.. هل هذه أول المباغتات والكمائن؟!
لأول مرة أعرف أن أمي من مواليد سوريا، لم أسأل نفسي يوماً إذا ما كانت من بيروت أو من مكان آخر، وأبي لم يخبرني، هل تناسى أم أنه أجل ذلك مع أشياء كثيرة ما زالت معلقة بيني وبينه، كنت أتعلق برقبته أسأله عنها وعن غيابها الذي طال، يدرك أني ما نسيتها، وأني أحملها معي طيفاً، يقبلني ويغمض عينيه، يهمس في أذني، ألمس عذابه وأمتثل ..
- بكره بتكبر وأقول لك كل شئ .
يهرب مني لينا تارة، وغامضاً محتداً في أحيان كثيرة، حتى كانت الضرية في حمام الشط فانسحبت من رأسه الأشياء والصور، وكأن الانفجار طردها من جمجمته، اختلطت التفاصيل وغامت، فقد الذاكرة وعاد إليها ببطء شديد.. هل استعاد أمي أم أنه تواطأ مع الغيبوبة واحتفظ بها، لم يعلنها وإن أطلقها شذرات في هذيان غير محسوب، سألته عنها ليلة السفر، صمت وشرد بعيداً، رأيت حسرة من طارد غزالاً شارداً اختفى منه في دغل كثيف نبت على عفونة مستنقع موحل.. عيناه مفتوحتان تقولان إنه ضيعها وإنه ما زال يتألم.. هل شُطبت صورتها من رأسه وهل ينتظر عودتها.. هل تسمر بؤبؤا عينيه على لحظة فراق وظلا على حالهما في فضاء عسلي مجهد ..!!
اليوم أعرف اسم أمي كاملاً، مكان وزمان ميلادها، نوال ابنة جمعة المفلح، لابد أنها رأت الدنيا في حجرة واطئة في مخيم ما في سوريا، تأتيني الآن في حجرة صغيرة مكيفة في معبر يفصل الدنيا عن الدنيا، ربما تطردني هذه الحجرة إلى حيث أتيت أو تعبر بي إلى الوطن ..
" الصمت / الانتظار .. لا تبادر .. لا تناور "
أسئلة كالقصف يطلقها الرجل الأشقر، يحافظ على ابتسامته، ينقر على الأزرار أمامه، سيل من معلومات أعرفها ولا أعرفها.. سيرة منصور اللداوي قبل أن أكون ابنه.. وقبل أن يصبح أعرجا ، تُهم طاردته ما زالت موجهة إليه، تخريب، واختفاء، وتسلل، وعمليات أسفرت عن قتل عرب ويهود.. هدم وردم ومطاردة وملاحقة ..
هل أقطع عليه الأسئلة ، وأختصر عليه الطريق ..؟
هربت إلى الصمت, هل أدرك أني خفت وحاصرت رعبي.
لن أكذب، ولن يضيرني ذلك. محطاتي محدودة ، سأعلن أمامه وبدون خجل,: إني فقدت أمي ابن أربع سنين لا أدري لماذا وكيف، غابت عني فجأة، ووجدت نفسي في غير البيت وغير الحضن، أخذتني أم النمر إلى حضنها، واعتقدت طويلا أنها جدتي لأبي، وأن أبي رجع يوماً بصحبة أمي سعدية وأخي غسان الذي يكبرني بعامين، وسبقني إلى الوطن بعامين أيضاً .. أخذتني سعدية إلى صدرها وكنت أتهياً لدخول المدرسة لأول مرة..
- أنت ابني يا حبيبي وهذا أخوك غسان ..
صدقت، فالأم تقبل ابنها، تحضنه وتحميه، وهذا ما فعلته سعدية معي ومازالت، وغسان الذي أصبح أخي فجأة، تباهيت به على أولاد الحارة، وجدت فيه من يحميني ويقف إلى جانبي، عفي وقوي يهرع لنصرتي ظالماً أو مظلوماً, ويفرض هيبته على أولاد الجيران ..
وسأعلن أن عرج ساق منصور اللداوي سببته شظية أخذت شيئاً من مشط قدمه اليمنى ، أفلت من الموت وخرج أعرجا.. ولاحقوه إلى حمام الشط، لم يقتلوه فقد تحايل على الموت ودخل الغيبوبة ستة أشهر.. مات نصف سنة وأفاق بلا ذاكرة فارتعبنا، أمي سعدية أخذت ديما إلى صدرها وسألت الطبيب .
- ايش يعني فقد الذاكرة، نسي الدنيا، يعني هذه الطفلة صارت مش ابنته .
حزن الطبيب لحزنها وخوفها، وكنت وغسان ملجومين خائفين.. قال :
- صدمه ، عايز وقت ويعود يتذكر شويه شويه ، كونوا حوله وحدثوه عن أيام زمان ..
صدق الطبيب، وعاد أبي يستعيد الأشياء ببطء ومازال، وما زالت الحكايات التي وعدني بها مؤجلة بعيدة، استرد بعضها مبتورة مشوشة متداخلة، تدفعني إلى الذهول، وتصل بي في بعض الأحيان إلى الجنون، تعلقني ما بين الوهم والحقيقة. هل ما سرّبه من نتف حدث أو أنه كان ممكن الحدوث ؟
ما الذي يختزنه جهازك أيها الأشقر.. ماذا لديك.. ؟!
منصور اللداوي القابع في لوحتك لا أعرفه، صام على روايته وربما فقدها للأبد، فقط جمل وعبارات مبتورة بلبتني وغسان أخي الذي ليس أخي، ينتظرني الآن في الطرف الآخر، رجمنا منصور بأسئلة لم تدر بخلدنا يوماً.. رجمني بأمي بعد غياب طويل، لعنة أحمل وزرها .. ورجم غسان بأبيه الذي استشهد ودفنه وبكى على قبره حتى صار مثلاً بين المقاتلين في القواعد والمواقع.
وأمي سعدية التي ليست أمي، تضم أختي ديما إلى صدرها، تلوذ به منه وتبقى إلى جانبه، تلملم ما يتناثر منه في حالات الصفو والصفاء، تنتظر أن تكتمل الرواية وتستعيد سياقها وتعدنا بأنها ستلتحق بنا في الوطن ..
- أعود معه ونبدأ من جديد ..
ودفعت غسان إلى السارة في ليبيا، يلتحق بدورة الضباط الذين سيعبرون إلى الوطن، وفي الليل صحوت عليه وهو يبكي على صدرها ..
- ليش ما خبرتيني .
- أقسم أني ما كنت أعرف ما فعله أبوك، كل ما حدث أني استجرت به علشان أربيك، وأستر عرضي، فأخذني إلى المأذون، فرحت واستجبت ، وقلت هذا رجلي وظلي الجديد .
- ليش طاوعتيه .
- ما شفت في طريقي رجل أحسن منه، وأنا مقطوعة في بلاد الناس، وفي رقبتي يتيم .
- ورياض وأمه ؟
- اترك رياض لدراسته، رياض همه كبير، أمه لا هي في أرض ولا في سما، عايشة أو ميته الله يعلم.. إن شاء الله ينسى ويلحق بك إلى الوطن .
- وديما .
- مصيرنا نرجع واللي بيقدره ربنا بيصير ..
لا تسألني أيها الأشقر .
جدتي أم النمر بقيت في الرشيديه، وقيل إنها ماتت هناك بعد خروجنا من بيروت، وأمي نوال انفصلت عن أبي فجأة، إشاعات حول خيانة زوجية، وصديق يسطو على فراش صديقه، وزوجة حملت إثمها وهامت على وجهها، قيل إنها التجأت إلى مستشفى عكا في شاتيلا ورافقت طبيباً نرويجياً متبرعاً أحبها وتزوجته، ولكنهم قتلوها لأنها فلسطينية ولا تملك وثيقة زواج.. جمل ومقاطع تناثرت من أبي بعد أن صحا من الغيبوبة، بعضها أكدته عمتي التي ليست عمتي أم طارق، وبعضها نفته وطلبت مني نسيانه كي لا أتعذب به، ولكن أم طارق تميل إلى أن ،مي قتلت في المذبحة, ودفنت في قبر جماعي عثر عليه فيما بعد ..
ما الذي تريد الوصول إليه أيها الأشقر؟ وعند أي الفصول يقف جهازك, وأبي صام عن الكلام ، رشقني بذيول فصول ومقدمات حكايات وهذيان كثير ..
عرقي يغسلني، والحجرة مكيفة، برودة المكيف تأخذ عرقي بخاراً، تضربني قشعريرة لم أحسب حسابها، ولم أتدرب عليها.. هل كنت أرتجف ..؟!
الضابط ما زال يبتسم، يصفر لحناً راقصاً، ينقر على الطاولة نقرات منسجمة من صفيره الطروب .
- رياض، شو انت بتشتغل ؟
- أنا خريج جامعة في الاقتصاد والإدارة، سأبحث عن عمل .
- يعني مش شغل مع العسكر.. رياض أهلاً وسهلاً.. تفضل.
أشار لي بالمغادرة.. انتهت المقابلة .
كيف نهضت وكيف طارت من يدي الرجفة، كل ما أعيه أني وقعت في حضن غسان وبكيت .. وانطلقت بنا سيارة عسكرية يقودها ضابط ، سأعرف أنه صديق غسان وأول من استقبله، وسيصبح صديقي ودليلي.. جلست وغسان في المقعد الخلفي نتراسل لهاثاً، تسبقنا دموع تأجلت عامين، ابتلعنا الكلام..
آخر الدموع يوم ودعناك إلى السارة، هل كنا نتدرب على البكاء أم أن للدموع لوعة أخرى في الوطن، هدأة الهجوع والاستقرار، ومواعيد مع الأسئلة المعلقة، هل تفتح لنا الأيام ذراعيها يا أخي الذي لم تلده أمي ولا وضع بذرته أبي ..
قال غسان :
- كنت خايف يرجعوك .
- خالصه على إيش يرجعوني !
- ما أحد بيعرف إيش بيعملوا ولا على إيش بيرجعوا .
قدم لي سيجارة .. لاحظ استغرابي .
- تعلمت الدخان من العسكر ..
ها نحن نلتقي يا غسان ، قطعت الطريق إلى ليبيا براً ، بدأت تدريباتك قبل أن تلتحق بالدورة, قلت سأصبح ضابطاً، فلابد من تعوّد المشقة، وعبرت الصحراء من تونس إلى ليبيا تدريباً للعبور إلى الوطن، وهذا أنت ضابط خشن، مشدودة عضلاتك صدرك واسع عن نهوض رجولي، شاربك الكث يأكل شفتيك، ومسدسك يتدلى من حزامك العريض، كبرت يا غسان، وزحفت إلى عينيك الغضون مبكرة، رأيتك صقراً عفياً ومتوثباً.. سألتك:
- كيف أحوالك في الوطن ..
كأنك تهرب مني، مؤرق بإجابات على أسئلة ما زالت بيننا، ماذا تعرف، ومن قابلت، ومن أي الحكايات تأكدت، والرجل الذي بيننا ما زال ينثر أخباره وقصصه، يستحضر ناسه ومعارفه.
- الأحوال ماشيه ، المهم أنت يا رياض ..
كنت بأمس الحاجة إلى البكاء، أخذني إلى صدره، وتربع بيننا الذي يلوذ بالنوم كلما داهمه الهياج أو الاحتجاج، يشف ويصفو إذا انفردت به ديما ورقدت في حضنه ولعبت بشعيرات شاربه، وأمنا سعديه تلتقط ما يتناثر منه، تزودنا ببعضه وتحمينا من أكثره.. تقول وتبكي
- منصور بعدو تايه، وبيدّور على الطريق.. مصيره يوم يرجع.
دخلت السيارة المدنية، ودخل النهار مرفأه الأخير، كنت مجهداً، لحمي مرضوض على عظمي عجينة موجوعة بعرق الانتظار.. لكن النوم بعيد بعيد ..
توقفت السيارة عند بناية من عدة طوابق، يافطة مضاءة بالنيون "بيت الضيافة " ، قرصني الوقت، هل نحن ضيوف على الوطن، وتذكرت أن غسان أتى من جنين لاستقبالي وتسيير شؤوني.. صوت الضابط السائق يخرجني من سهومي :
- الحمد لله على السلامة يا شباب.. نورت غزة يا رياض ..
هبط غسان، حف إلينا عسكري حمل الحقائب وصعد بها.. صوت غسان .
- بكره تكون عندي بدري يا حاتم، علشان نرتب أمور رياض..
××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |