يتحدّث علماء النفس عمّا يسمّونه النموّ الانفعاليّ، ويجزم بعضهم ـ إن لم يكن أغلبهم ـ أنّ معظم مشكلاتنا النفسيّة؛ سببها توقّف ذلك النموّ عند سنٍّ معيّنةٍ، إذ فيما النموّ الجسديّ مستمرٌّ بحكم التغذية و سلطان قوانين الطبيعة؛ يكون النموّ النفسيّ قد تجمّد وتخثّر بفعل الكبت و طغيان قوانين المجتمع.

قليلٌ من الخيال يكفي كي نتصوّر مقدار التشوّه، و الحالة المسخيّة التي نحن عليها، الأمر شبيهٌ بقدمين طول كلٍّ منهما مترين، ويدين لا تتجاوزان الشبر الواحد طولاً، ورأسٍ بحجم برتقالة.

تكبر الأبدان، فيما انفعالاتنا وارتكاساتنا تبقى ثابتةً عند سنّ الخامسة مثلاً، ولأنّ علاقتي بعلم النفس كعلاقتكم بمعادلات الانشطار النوويّ؛ فلن أجرؤ على بحث الأسباب، ولسوف أقتصر على بعض السلوكيّات، التي تؤشّر إلى تخلّف النمو النفسيّ لدينا كلّنا.

أولاً ـ ندمج (أنفسنا) بما نملك:

بيتي جميلٌ، ومن قال عنه غير ذلك، أو أبدى ملاحظةً ما بخصوص جماله، تكون ردّة فعلنا عليه ـ وليس على رأيه ـ كطفلٍ يذمّ أحدٌ لعبته الأثيرة.

إن سبقت سيارةٌ سيارتي، لا أعزو الأمر ـ بفرض أهمّيته ـ لميزاتٍ تقنيّةٍ، بل أشتم السائق الآخر، لأنه (هو) سبقني (أنا).

وقسْ على ذلك آلاف المشاهدات اليوميّة، في العمل و الحيّ و الأسرة.

النفس هنا عبدةٌ لانطباعٍ وتقييمٍٍ يمنعانها من الكبر، يبقيانها محدّدةً بحدودهما، يكبّلانها بأغلال الذات ويطمران براعمها في رماد الأنانيّة.

ثانياً ـ نوحّد (أنفسنا) بمعتقداتنا:

فكرتي بخصوص كذا هي الصحيحة، وأيّ رأيٍ آخر جديرٌ بالإهمال، و الأبشع؛ تحقير من لا يتّفقّ معي.

من ليس معترفاً بصواب رأيي في قضيّةٍ لا يستحقّ أن أنظر إليه، أشمئزّ منه ومن معاملته، ولأنه كذلك؛ أعدّه منحرفاً، وينبغي تقويم اعوجاجه، وقد يصل الأمر إلى تكفيره، وإقامة الحدّ عليه.

هو ضدّي، لا تنبغي محاورته، وإن حصل؛ فالهدف أن يصير مثلي، لا أن نصحّح لبعضنا ما شاب رأينا من خللٍ.

الغاية من الجدال ـ إن صار ـ هي القضاء عليه كلاً أو جزءاً وليس على الخطأ في فكره، لذا ننجرف نحو تشويه سمعته، وتلفيق الاتهامات له، وعدم رؤية نقاط الاتفاق معه، و تجاهل إيجابيّاته، و تضخيم سلبيّاته، ثمّ وفي نهاية المطاف... قتله، إن لم يكن جسديّاً فنفسيّاً، عبر حرمانه من حقّه باستعمال دماغه، ليصير كالحاسب تخزّن فيه ما تشاء من معلوماتٍ وطرقٍ ومنهجيّاتٍ في تحليل هذه المعلومات، و الويل الويل؛ إن لم تكن نتائج تحليله ومعالجته للمعطيات مطابقةً لما يفترض أن تكون عليه النتيجة التي حدّدتها أنت.

النفس هنا عبدةٌ لفكرةٍ، و رؤيةٍ، يبقيانها في إطار عناد طفلٍ ما زال في الخامسة من عمره.

ثالثاًـ نعمّق العبوديّة:

أسوق ههنا ـ على سبيل المثال ـ ما شاع من تبنٍّ لمقولة (من علّمني حرفاً كنت له عبداً) ما يرسّخ الاتباع والتقيّد بحرفيّة ما تعلّمناه من المعلّم الذي نصّبناه (سيّداً) ليغدو تحوّلنا من متعلّمين إلى عبيدٍ أمراً نافلاً، وتلقائيّاً.

أظنّ أنّ استمرار تمسّكنا بهذه (المقولة) وترديدها دون تفكّرٍ بمفاعيلها النفسيّة ينافي الشرائع ـ السماويّة و الوضعيّة ـ التي نهت عن العبوديّة (إلا لله) وحضّت على التخلّص منها. وتكريسنا لهذا المثل؛ إنما هو تكريسٌ لحالة القصور الإنفعاليّ، و الضمور الوجدانيّ، فتشغيل العقول ونموّها يقتضيان منك أن تكون ندّاً لمن علّمك، وليس عبداً.

ندٌّ في التفكير، في الاستخلاص و الاستنتاج ومن ثمّ في اتخاذ المواقف، وليس في التقليل من مكانة معلّمك، لهذا ترى ـ للأسف ـ لدى المتعلّم و المعلّم، خلطاً بين الاستقلاليّة النفسيّة والاحترام، وإزالة للحدود بين محراب العلم و المعبد، ذوباناً للتقاليد الأكاديمية بطقوس الخضوع، فذا يحقّر أستاذه، وذاك إن لم يتبعه مريدو علمه في كلّ شيءٍ تراه معرضاً عن إنصافهم، يأبى الاعتراف لتلميذه بأيّ فضلٍ، أو تميّزٍ، وكأنّه يسعى لأن يكون نسخةً عنه، تتطابق في مواصفاتها معه.

فرديّاً، يجدر بنا إعادة التفكير في ثنائيّاتٍ خطيرةٍ تمسّ شتى جوانب حياتنا الاجتماعيّة وأسسها النفسيّة، من قبيل: (الأب ـ الابن) (المعلم ـ التلميذ) (الرئيس ـ المرؤوس) كي نحررها من أسر ثنائيّة (السيد ـ العبد) القامعة لنموّ العقل و العواطف و الانفعالات، و لعلّ أوّل خطوةٍ سوف أتخذها (شخصيّاً) في هذا السبيل؛ هي الامتناع عن استخدام مصطلح (السيد) في خطاباتي الشفهيّة و الكتابيّة، لأنّ استخدام هذه اللفظة (السيد) استدعاءٌ مباشرٌ و استحضارٌ لآليّات وحالة نقيضها (العبد).

لنكن أنداداً، فالندّيّة تبني النفوس، وتجعلها جديرةً بإنسانيّتها، و أكثر قدرةً على بناء وطنها، و الدفاع عنه، آملاً أن تتبنى المؤسّسات فكرة إلغاء كلمة (السيد) من خطاباتها ومراسلاتها، و حصرها بالمقامات السيادية الوطنية، فيخاطب الوزير بـ (حضرة) أو (مقام مدير كذا)، ولغتنا (لغة أهل الجنّة) مليئةٌ بالمفردات التي تستدعي نفسيّاً وفكريّاً ما هو أرقى بكثيرٍ من (العبد).

هي خطوةٌ، ولو كانت صغيرةً؛ أثرها كبيرٌ، وخصوصاً عند أطفالنا، علّهم ينمون بأكمل اتساقٍ ممكنٍ بين نفوسهم وأجسامهم، و ربما يكون في هذا اتساقٌ لنا نحن (الكبار) أيضاً. من يدري؟.

بقلم: الذي ليس سيداً، حسان محمد محمود.

[email protected]

××××

نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر

ألف