رواية عودة منصور اللداوي – 3 – رئة تطلب هواء الكون
2010-02-19
أسبوع لم ألتقط أنفاسي، أجلتُ أسئلتي وأشواقي .
دار بي غسان وحاتم على الدوائر والمكاتب والمؤسسات والوزارات، تسجيل دخول، وإبلاغ الارتباط المدني والعسكري، تعبئة نماذج معدة سلفاً لتأكيد الرقم الوطني والحصول على هوية، شهادة ميلاد، اعتماد وثائق وشهادات، ترتيب ملفات، فحوصات طبية، تدبيج رسائل والتماسات ، طلبات معونة، زيارات محسوبة لأصدقاء ومعارف الوالد ومعارف غسان وحاتم، وجوه عرفتها في تونس، وتعرفتُ عليها في مكاتبها مع رتبها ومراتبها ومناصبها الجديدة، دليلي ومرشدي حاتم السدودي، ومُيسر أموري وحاجاتي.. غسان الحبيب الذي حضر من الضفة من أجلي، تليفونه النقال عجيب في حل الإشكالات، واختزال الوقت، واستفزاز ابتسامات حاتم الغامضة المعذبة :
- ألو.. عمتي أم طارق إحنا في مكتب.. ومطلوب ..
" أين عمتي زاهية وعلى أي القدرات تنطوي ، وماذا يمكن لها أن تفعل ؟"
يعيد النقال إلى جيبه، جرس الهاتف على مكتب المسؤول، يصبح الأمر ميسراً، والمنطق مقبولاً والتوقيع ودوداً ومرحباً ..
ـ ألو عمي أبو طارق.. أنا غسان أحكي معك من.. والموضوع رياض..
" وأنا لا عم لي، يقال إن عمي أخذته الحصبة قبل أن يبلغ الرابعة وظل أبي وحيداً.. "
انتظار قصير، ويصل من طرف أبي طارق من يفتح مغاليق الأبواب، ويزيل توجس التحفظات، ويلغي ركامات وثائق مطلوبة.
أما في الإجراءات الميسورة بروتينها، فيسحبني حاتم بحظوته بين أولاد البلد وييسر ما يستطيع تيسيره ..
انتهيت من إجراءات الرقم الوطني، ومعاملة استصدار الهوية والتحقت بعملي في مكتب الوزير، وانتهت إجازة غسان.
تناولنا العشاء على شاطئ البحر، قلت محتالاً على إحساسي بالوحدة والفقد:/
- لو تبقى معي في غزة يا غسان ؟
- لو تفكر تيجي معي إلى جنين ؟
"وصلتني إشارته، رأيت عمتي زاهية حزينة تنتظر معاتبة" :
- لابد من عودة غسان إلى مسقط رأس أبيه، وقد وجد أهله في يعبد، وتعرف على قبر جده ولاذ بحضن أعمامه، ورث بيت جده، وعروق زيتون قديم، وحديثاً على سفح التل.. وتهيأ لحياة أخرى، سرح في البحر.. وفاض ..
- ما في أقسى من الغربة في الوطن يا رياض، أول ما وصلنا نزلنا في مخيم أنصار هجمت علينا غزة.. تقول كل غزة جايه تستقبلنا، أحضان ودموع، كل الناس تأخذك إلى حضنها وتسألك عن أولادها.. إلا أنا.. خرجت من الهوجة ومشيت بعيداً أشخص في البحر وأتخيل أهلي في يعبد.. ما شفت غير هالشاب لاحقني.. أخذني إلى حضنه..
- الحمد لله على السلامة، أهلاً وسهلاً بك في الوطن ..
قبل أن أتعرف عليه بادرني :
- غذاؤك عندي اليوم ..
- ……………
- أبويا قال لي إن ما رجعت بضيوف ما تدخل الدار.. هذا حاتم السدودي أول من عرفت في الوطن .
- مشتاق لأهلك في يعبد يا غسان .
- نفسي أصير فلاح وأعيش مع الزيتون وأربي أولادي ..
- ومَن يمنعك أرضك عندك وأهلك حولك وماجدة ..
تخيلته وقد اعتمر كوفية وعقالاً، وارتدى قمبازاً وتمنطق بالشبرية بدلاً من مسدسه المدلى على جنبه، يتشعلق شجرة زيتون ويجني الثمار الخضراء، يرميها إلى حجر صبيه رفعت ذيل ثوبها تستقبل الخير وتطير ضحكة أصفى من الزيت.. لم لا يكون هناك وقد اهتدى قلبه ..
تنهد غسان :
- لو ترجع أمي وتخطبها.. قتلتني الصبية، عذبتها معي، وعمي يجرحه كبرياؤه، هل يطلبني للزواج من ابنته .
- ولا يهمك اعمل لي تصريح أنا باخطبها لك .
أخذني إلى صدره، قبلني، لامس حزني، عابثني:
- يا أزعر ايش يقولوا الصغير ساحب الكبير وجاي يخطب له..
عتمة أحاطت بي والوقت أصيل، هل يعترف أهلك يا غسان بأنك أخي، وأنا لا يربطني بك أب ولا قذفني رحم أمك سعدية.. امضِ واتركني أبحث عن بقيه أهلي..
سحبني من شرودي :
- ايش عايز في البلد حاتم بيساعدك، هذا أخونا لقيناه في الوطن، ابحث لك عن بيت أفضل ما تبقى في الضيافة مثل المقاطيع .
- مش قبل ما أصل لعمتي زاهية .
- بكره بتشوفها .
مبكراً أطلق حاتم زامور سيارته العسكرية، نفير هجوم أم إعلان وجوم، صامتين في الطريق إلى معبر إيرز.. ردني الحاجز, رأيت أبي ممدداً على سريره وقد دخل الغيبوبة، وحيداً بلا جليس.. بكـيت ..
عدنا أدراجنا، سلك حاتم طريق البحر.. عند بقايا المركب الغريق توقف، حدد الاتجاهات واخترق الأزقة.. يجوس بنا في المخيم، دار حول السوق، اتجه شرقاً، وغسان يطرق رأسي .
كيف التقيت أهلك يا غسان ؟ عثرت عليهم أم عثروا عليك؟ كيف كانت اللحظة ؟ وهل تفصد الدم ملحا / عرقا / ولهاثاً ؟ تضحك وتفرك شعري المبلول بعرق رأسي.. في الوطن يداهمني العرق في رأسي ، يتخلق قطيرات عند منابت شعري، يضربني دوخة وصداعاً.. وتضحك:
- في الوطن لا يتوه الواحد يا رياض، من إيرز أخذوني إلى جنين، وفي جنين قلت, مَن أخذني إلى يعبد، وفي يعبد أخذت أتفرس الوجوه في السوق، أحدث نفسي مثل المجنون.. مَن يأخذني إلى بيت العبد الله، رجل ابتسم لي، تأبط ذراعي.. وسار بي ودفعني إلى حضن أصغر أعمامي، وفي المساء رجع مع أهله يهنئون بسلامة العودة.. قال لعمي:
- لقيته ملخوم ويشاور بإيديه ويكلم نفسه ، أخذته على الدم .. قلت يا خوفي يكون ابن العبد الله ..
وعمتي زاهية، كيف صبرت أسبوعاً لم أبحث عنها، وهي السؤال المعلق ما بين الخوف والحذر، أقذف بهواجسي إلى حاتم ينقر رأسي بسبابة..
ـ بتهون.. ما حدا بيتوه في المخيم، قف عند أي ناصية وقل خذوني إليها، تجدها أمامك بلحمها ودمها..
كيف يكون اللقاء ؟ وليس لدي ما يبل الريق، هل يُشل لسانها إذا سألتها عنه وأنا القادم من عنده ؟
توقفت السيارة عند فوهة زقاق عتيق، اختار حاتم صبياً حارساً عليها فرحب الصبي بالمهمة برجولة، تبعته في الأزقة كمن نقتفي أثر حية انسربت في دغل، وقفنا عند دار تشي أحوالها عن بناء جديد أقيم على أصل تهدم أو سقط.. امرأة في الثلاثين على ملاحة ظاهرة تخرخش أساورها حول معصميها.. سألها حاتم :
- عايزين دار العريس .
رفعتُ عيني إليها، زحف الحياء إلى وجهها فأصابتني الرجفة، قالت:
- تقصد محمود السبع.. أنا امرأته ، خير إنشاء الله .
- الحاجة زاهية موجودة ؟
- إن شاء الله بتحج .. تفضلوا .
في حجرة الضيوف براويز صور معلقة، راحلون وباقون أخذوا أماكنهم باطمئنان وألفة، أمي نوال تنبثق، تتهيأ بكامل زينتها، عروس بثوب أبيض، طرحتها وتلها وباقة فل في حجرها، وابتسامة بيضاء صافية تفيض عن مساحة البرواز وتغمر أبي منصور العريس .. هو بلحمه وشحمه بلا هالات سوداء حول عينيه، ولا غضون كرمشت شفتيه، يضربني سؤال الصور.
لماذا لم تُعلق الصور في بيتنا في الرشيدية، ولا تكاثرت في بيتنا الواسع في تونس، صورة واحدة فقط سكنت حجرة جدتي أم النمر.. في الشتاء وحول كانون النار تحدثنا عن النمر، وتهطل دموعها مع حبات المطر ..
ـ كأن النمر قاعد قدامي معكم.. شرب الشاي وكانت الدنيا زخ " كب من عند الرب " ما رضي يستنى خاف يسبقوه ..
أمي سعديه تهرب من البكاء إلى البكاء، هل تبكي النمر أم زوجها الذي لن يعود، تهجر دفء الكانون إلى فراش لم يدفئه أبي الذي اعتاد المبيت في القواعد، يأتي في النهار ويجلس مع أم النمر صامتاً.. وفي تونس غاب النمر وصعدت، صوّرنا غسان وديما وأنا على جدران غرف نومنا وفي الصالة وغرفة الضيوف.. حول صورة كبيرة لخارطة الوطن ..
وعندما وقع أبي في الغيبوبة أخذتنا سعدية أنا وغسان إلى حضنها وتحدثت في سؤال لم نسأله!!
- استجرت به من جورهم، خفت على حالي من السقوط، فأخذني المأذون وعاد بي إلى الرشيدية عند أم النمر، أمه التي ليست أمه..
على الجدار صورة لامرأة تجاوزت الخمسين عن يمينها صورة عروس طفلة وعريس صبي ، وعن يسارها صورة عروس هي التي استقبلتنا وعريس لابد أنه محمود ..
دخلت علينا أو هبطت من برواز صورتها، لا أدري ..
- أهلاً بالشباب .
أهرب منها، أرفعها من الأرض إلى الجدار بجانب أبي .
- أخ يا راس قلبي.. من الصبح وأنا باشم ريحه بعيدة باقول اللهم اجعله خير.. انت .. انت يا حبيبي يا خويا ..
خطفتني أم أني عبرت إليها، عصرتني وهبطت بي إلى الأرض، لم يحملنا كرسي ولا وسعتنا كنبة، الأرض ضيفة يا عمتي.. أطلقت زغرودة ماتت قبل أن تطير، بحة غرغرت في حلقها، ربطت لساني.. حاتم يصيح :
- ميه .. ميه الحقونا بالميه ..
صدرها يطلب هواء الدنيا، وجهها اللحيم تيبس على بياضه مشدوهاً على فرحة مباغتة، وحاتم يربت على خديها، يدلك صدرها.. فَنجلت عينين صافيتين، ونهضت عفية استعادتني إلى حضنها وكان رحيباً.. عادت إلى زغرودتها ولم تَشرق، وزعت في الفضاء نداء ودموعاً وصهيل فرحة, كيف وقعت في حضن عمك يا غسان ؟ وكيف نبض قلبك على قلبه، وسرى دمه في عروقك.. وفاض فيك ..
خطفت النقال من حاتم، اتصلت بتونس.. ردت ديما، صرخت مهتاجاً :
- أعطيني أبي .
- ………….
- أعطيني أبي، أنا بأحكي من حضن عمتي زاهية، عمتي أم محمود عايزة تسمع صوته، مش مصدقة أنه بعدو عايش ..
بكت ديما الجميلة الصغيرة .
وبكت سعدية.. وزع التليفون نشيجها في دار عمتي ..
عمتي صامته واجمة تسألني الأمر .. !
هل دخلت الصمت يا أبي وهربت مني ؟!
لماذا تهرب من أختك زاهية.. ؟ لماذا .. ؟
×××××
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |