عيون وقحة
2010-02-20
خاص ألف
تتنافر الأصوات وتتباعد في خشونة، تلين في سكون، وتهتزّ بلامبالاة، تزعق، تصرخ، تنادي استغاثةً نشوة اللّذة، تتمازج ورعبي. صمت. سكون. بناء قديم يُسمع منه صرير خفيف. بكاء، نواح. قتيل آخر على الأرض المقفرة. حشرجة نهاية الأفول...
أفاق من غفوته غارقا في عرقه، متيبّس الجسد، مختنق الصوت، ولم يقو على الحركة. كان ثقل رهيب يقع عليه، يشلّ حركته، يلزمه قسرا الفراش. تململ يريد القيام غير أنّه تهالك بعجز. خيّل إليه أن هواء فاسدا قذرا يداخله. لهاث شديد. كان كمن يستشعر طيفا خبيثا اخترق جسده حتّى أنهكه، يعتصر أطرافه، يسلبها النبض الحي؛ إنّه ينوء تحت عبء موت ما.
في سكون ممتدّ إلى اللانهاية، بدت نفسه تتقبّل الحضور في أرض المسجد. بدا البياض في نظره هنا الصورة الأكثر اكتمالا؛ اللون الوحيد المنسجم مع الانعدام والمستحيل، أمّا تشكّل البروز الهندسي فيغيب في زمن مطلق كلّي: الزمن العلويّ.
نزع حذاءه، ووضعه بعناية، ليلتمس طريقه بعدها حافيا على الحصير بلا توازن - ولا شعور- إلى مرمى المكان الذي تخيّره.
صلّى تحيّة المسجد، وانطلق إلى حلقة الدرس، حيث تحيط فئة بإمام عالم في دقيق معرفة هذا الفضاء. جلس متربعا يتابع تلك الكلمات المستغلقة المنتقاة بعناية روح قديمة تمتعت بخصال سؤال أرهقه الضياع.
كان شيخاً يناهز الستين، قصير القامة، ممتلئ الجسد، دائري الوجه، ملتح، يبدو على هيئته وقار الخفاء. يتحدث بصوت دافئ قائلا:"الملائكة خلق لطيف نورانيّ، تسبّح بحمد ربّها صبحا و عشيّة، من صفتها أن لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، تتشكّل على أشكال مختلفة؛ كهيئة الرجال، أو هيئة الثيران، أو هيئة النسور... كما أنّ لها مراتب؛ كالحفظة، والحملة. وسادة الملائكة يلقبون بالكروبيين..."
فقاطعت كلامه؛ لأسأله باهتمام: "وهل هي تراقبنا يا شيخ؟"
فأجابني بثقة: "نعم، بعضها حيثما نكون تكون؛ يحجبها عنّا ستار الغيب، وخصّصنا بملاك اليمين يسجّل بدفتره خيرنا، وملاك اليسار يسجّل سوءتنا؛ يشهدان يوم القيامة على أفعالنا."
- و لكن أليس اللّه بعالم؟
- نعم
- فلم الحاجة إلى رقابة الملائكة؟!
حدّق فيّ الشيخ بغيظ، وقال بحنق:"العياذ باللّه من الشيطان الرجيم!"
عيون بصفتها الغيبيّة النكرة، ترمقني، تتابع حركتي. تراقبني مليّا حتّى في فعلي الخاص والحميم. أليس هذا مقززا؟! إنّها تحمل عيونا زيتونيّة نورانيّة، تلتهم بنظرة حانقة جسدي، أطرافي. أبقى لساعات أتصوّر فعلها المراقب؛ في سخريتها، وعبثها الماجن، في احتقارها الملعون لانحناءات جسدي المشوّه. إنّي المراقب دوما، إنّي المعذب، في حرقة يأس من فرقة هذه العيون التي ترمقني بكلّ وقاحة!
أتهالك على الأرض، تتخاذل قوّتي، أستشعر العالم حولي من عمق الغفوة، ويلتحم جسدي بالتراب، أعفّر. أسمع نقرات مضطربة على صخرة عجوز، صوت تكسّر الموج على شاطئ مهجور. سعال. كلمات بذيئة تؤذيني. فعلا تلك الرحلة فاضحة...
فتحت الكتاب، تأمّلت خطوطه المنتظمة دون أن أميّز الكلمات، تتبعت بدايتها ونهايتها. أغلقت الكتاب، وألقيته تحت الفراش، أصدر صوتا كتوما مختنقا. الجدار القِبلي يؤرّقني، يفزعني، طفقت ألعنه، أسبّه. أجهش بالبكاء. أستلقي في حوض الحمّام، الماء بارد، أرتجف، أجري عاريا، أقفز، أتمدّد على الفراش، أتأمّل السقف، أضحك بشدّة، أبتسم. أتذكّر وسط رجفتي بيتين من الشعر لأبي العلاء المعرّي، أتلفظه بصوت صاخب:
ضحكنا وكان الضحك منّا سفاهة/ وحقّ لسكّان البسيطة أن يبكوا
يحطّمنا ريب الزّمان،كأنّنا/ زجـاج ولكن لا يعـاد له سبك
أبكي...
***
هبوب صاعق فوق رأسي؛ ملاك قد أضاع السبيل!
ملاك بثلاثة أجنحة يطير في استسلام. بدا جزعا من الخلاء القاتم، تحوّل في لحظة خاطفة إلى أشكال متنافرة تحمل أثر اضطراب ورعب، خبل من الحركة المتشنّجة، توق لانفلات من اللاشيء، عنف وقع على الأرض، تهالك صاخب، وصمت طويل...
حركة شاحبة تحاول أن تكون، تتبعت انطلاقتها؛ كان الملاك يئنّ من وقع الضياع. لم أكن أراه و لكن توقعت صوته...
الغرفة بأبعادها تسرع في دورانها بتهوّر. تشمئزّ نفسي من الجلوس في ركني هذا كعادتي وحيدا إلا من اختناق الصور في فكري. أهمّ بالفرار من حالتي: تنفجر أطرافي بعصبية كما لو أنّها تنفض عني شيئا قاتلا؛ أعتصر نفسي، أتقلّب على الأرض، لكن لا راحة: شعور بندبة عار تخترقني، ضيق سوداويّ يضغط على صدري؛ كان شيئا ما يموت فيّ بتأنّ رهيب.
- أتحمّل ثقل الفضاء المتخفّي، وأقنع بدور العجز.
- ليس عليك أن تتحمّل ذلك.
- ولكن عنائي يقنعني.
- تمرّد!
- أتسخر منّي؟!
- لِمَ؟
- كيف لكائن بصفاتي القاصرة، أن يتمرّد على غيب يتستّر بمدى هائل؟
- ولكنّ كائنك هو الذي أيقن الغيب!
- ما الذي تعنيه؟
- الذي أعنيه أن الإنسان متمرّد قاس، لا يجبن عن ترهات.
- وأيّ ترهات تعني؟
- أعني تلك التي تجعلني ملاكا بثلاثة أجنحة، أقع من سمائي.
- كفى هذرا.
- سأصمت الآن، ولكن تأكد أن تتيقن مرّة أخرى ممّن يساير تهافتك إلى جحيمك.
عزلة في قاع تغرب عن العيش، الصور تتلاشى بغموض، عين ثابتة على جسدي، ترصد حركتي، تحمل عذاب ألم، وتتوقع فناء.
- هل لي بسؤال؟
- نعم
- هل تموت الملائكة؟!
تتوقّف إبرة ساعتي عن الحركة. أغلي القليل من الماء، أمزج معها القهوة والسكر، ألامس بلساني حرارتها، أبصق في الحوض، أنفر من كأسي، أجلس على كرسيّ، أتأمّل من خلال نافذتي مشهدا حجريا بلا حياة. أقف. أتّجه إلى مكتبتي، أتطلّع إلى العناوين من خلال الأغلفة، لكنّي لا أشعر بحماس للقراءة. أعود إلى فراشي، أستلقي، أنظر إلى السقف في شرود. يهتزّ البناء، يتهاوى، كانت تلك الصخرة الكبيرة سبب موتي...
- حدثني أيّها الملاك، كيف يمكن لي أن أكشف حجب عالمكم؟
انبرت ضحكة ساخرة من خلف الستار اللعين، وقال بنبرة متهكّمة: "لن تدرك المعاني ما لم تجرّب فقدانها."
أجبت بضيق: "كلامك غامض لا يدلّ على طريق."
ردّ بنفس تلك النبرة المتهكّمة: " غموضي دليل معنى واحد؛ أنّك غبيّ."
×××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
24-كانون الثاني-2011 | |
20-شباط-2010 | |
11-أيار-2009 | |
26-نيسان-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |