Alef Logo
دراسات
              

في العلة الثقافية لنشوء الإمبراطورية الأمريكية

حسان محمد محمود

2010-02-22


في العلة الثقافية لنشوء الإمبراطورية الأمريكية

في الاستهلال:

استحاذَ نشوء الإمبراطوريّات وزوالها من اهتمامات الخاصّة نصيباً جمّاً، والمقصود بالخاصّة جمع العلماء في شتّى الميادين المهتمّة بالظّاهرة الإمبراطوريّة. أمّا العامّة فقد عَظُمَ لديهم التّساؤل عن عوامل نشوئها بعد ما حلّ بالعراق ما نعرف، وفي ذاك عبرتان:

الأولى: أنّ عموم الناس نشأت لديهم لهفةٌ لإدراك ما يحسبونه سرّاً كبيراً جعل من أمريكا قوّةً لا تضاهى، رغبةً منهم في مقارعتها، أي من باب اعرفْ عدوّكَ!

والعبرة الثّانية: أنّ أهمّيّة وخطورة ما يثيره المثقّفون و العلماء لا يُدرَك عند العموم إلا بعد أن يتجلّى لهم، وتظهر آثاره مؤذيةً لحياتهم، آنذاك يضطرّون لمعرفة ما خرّب استقرار أحوالهم بين طيّات ما أهملوه من فِكَرٍ قالها الخاصّة.

وإن تحرّيتَ عن واجد الفجوة بين العامّة و الخاصّة؛ لوجدتَهُ في ضعفِ الصّلة بينهما، وهذا عائدٌ إلى كسلٍ أصابهما معاً، فذو العلم مُنغمسٌ بعلمه وذو الجهل مشغولٌ بقوته وكفافه. ولست ممن يرتجون رفع هذا إلى مرتبة ذاك أو إنزال عالمٍ إلى دركٍ لا نرتضيه، و من أجل اجتياز وادٍ يفصل جبلين يقضي المنطق إنشاء جسرٍ بينهما، فذلك أسرع و أسهل من أيّ خيارٍ سواه.

الأمر فينا كأمر الطّبيب و المريض، لا نطلب أن يصير الجميع أطبّاء؛ وإنما كلّ الحقّ والرّجاحة في السّعي ليصوغ الطّبيب نصيحةً يسيرة الفهم، و في إقناع العامّة من غير الأطبّاء بسماعها أوّلاً ومن ثمّ الأخذ بها. لا أن يهزأوا بعلم الطّبيب ردحاً كانوا فيه أصحّاء، حتّى إذا ما فتك المرض بالبدن وجدوا أنفسهم قد سارعوا إليه علاجاً وفهماً لما أصابهم، واستدراراً لتلك النّصيحة التي كان نصيبها منهم الإهمال، ولو أنّ رابطةً قامت بينهم وبين الطّبيب لاجتنبوا مُسبّبات المرض كلاً أو بعضاً وارتاحوا من عناء الدّاء وكلفة الاستشفاء.


في الرّوائز:

لازمتِ الظّاهرة الإمبراطوريّة حقباتٍ طويلةً من تاريخ البشريّة، وكان مسلكها الرّئيس عسكريّاً، و وسيلتها كسبُ الأراضي احتلالاً بالقوّة، إلا أنّها في الحقبة الرأسماليّة على اختلاف مراحلها ارتدت طابعاً مميّزاً من التبدّل اتساقاً مع تحوّلات النّظام الرأسماليّ وتجديداته لنفسه، وتباينت أساليب ودرجات تكييف المجتمعات الملحقة بمصالح رأس المال العالميّ تبعاً للحالة التّاريخيّة التي مرَّ بها، وتعدّدتْ مسالك بسط النّفوذ الإمبراطوريِّ ولم تعد قاصرةً على الجيوش.

أيضاً صاحبَ تعمّقَ تركيز وتمركز رأس المال اختصارٌ متتالٍ لعدد الإمبراطوريّات، وفي حالة رأس المال الماليِّ الرّاهنة لم يبقَ في العالم سوى إمبراطوريّة واحدة، هي الماثلة أمامنا الآن، و الظّاهرة الإمبراطوريّة ربما تكون أكثر التصاقاً بالرأسماليّة وانسجاماً مع ماهيّتها وخصائصها مقارنةً بنظم إنتاجٍ أخرى ما قبل رأسماليّة لأنّ (النزعة الكونية التي تجلّى بها النظام الرأسماليّ منذ نشأته، والتي اتسمت بسمة "التوازن الرأسماليّ" على أبواب الثورة الصناعية وبعدها لم تكن تخفي أن قيام هذه الثورة كان إيذاناً بانقسام العالم إلى عالمين:الأول ينتج السلع الصناعية بوفرة... و الثاني ينتج المواد الأولية اللازمة للصناعة الآلية ويفتح أسواقه لفائض الإنتاج الصناعي، ولهذا فإن التوازن الرأسماليّ المزعوم فيما يخص "الإنتاج يبادل بالإنتاج" في المركز كان يختفي تحت حقيقة أن "الإنتاج يفتح لنفسه بنفسه منافذ تصريفه" في الأطراف، ولاشك بأن الفكر لا يكفي لنشر جحافل الصناعة في كلّ مكان ولا بد لنشرها من اتخاذ طرق عملية أخرى تنطوي فيما تنطوي عليه على الأمرين التاليين:

1ـ بقاء الأسواق الخارجيّة مفتوحة... فكان الاستعمار العسكريّ المباشر، وكان ذلك يعني في لغة الرأسماليّة قيام الاستعمار بخلق إمكانيات إنتاجية "كافية" في "المكان الآخر" لصالح المركز.

2ـ قتل إمكانيات قيام الثورة الصناعية في ذلك "المكان الآخر" و الحيلولة دون نقل شروط التكنولوجيا المتقدمة إليه "قتل إمكانيات التنمية و التطور في الأطراف") (1) .

ما الذي جعل من الولايات المتّحدة الأمريكيّة إمبراطوريّةً؟ (2)

· لِمَ لمَ ْتستطع أوروبا برغم وحدتها الاقتصاديّة وتكوين نواة اتحادها السّياسيّ، أن تكون إمبراطوريّة؟

· لماذا تعجز اليابان برغم تقدّمها التقنيّ عن إحياء إمبراطوريّتها؟

· ما السّبب في فشل المشروع الإمبراطوريّ الروسيّ المعبرّ عنه بالتّجربة السوفييتيّة؟

· ما الذي دحر المشروع الإمبراطوريّ الألمانيّ الهتلريّ ؟

· هل تستطيع الصين أن تُشيّد مشروعها الإمبراطوريّ؟

ما ترمي إليه الأسئلة السّابقة تيسير وصول كلّ متسائلٍ لبلورة إجابةٍ جامعة مفادها: يقوم إنتاج أو إعادة إنتاج الإمبراطوريّة على الامتلاك المتزامن (في آنٍ واحدٍ) لتفوّقٍ مطلقٍ أو نسبيٍّ في جوانبَ أربعةٍ تمثّل ركائزها، هي: الاقتصاد و السّياسة و العسكرة و التقنيّة، تُجلّلها الثّقافة وتتداخل بين ثناياها تداخل الموج بين الصّخور لتُكامِلَها مع بعضها، وتُحرّضَها كي يؤازر كلٌّ منها الآخر لخلق البنية الإمبراطوريّة، ولَئنْ كان الزّمن بعداً رابعاً للكون؛ فإنّ الثّقافة (إضافةً للركائز الأربع الأخرى) بعدٌ خامسٌ للبنية الإمبراطوريّة.

أمّا التّفوّق المطلق؛ فمفهومٌ يميل لأن يكون نظريّاً، إذ نادراً ما تجتمع أسبابه لأمّةٍ من الأمم، وهو قد يتحقّق في ظاهرةٍ مفردةٍ ويستحيلُ في ميدانٍ كاملٍ، مثلاً: تجد الولايات المتّحدة الأمريكيّة متفوّقةً تقنيّاً على جميع دول العالم، وبشكلٍّ أخصّ في مجال الفضاء، وتفوّقها التّقنيّ و الفضائيُّ نسبيٌّ، لأنّ ثمّة آخرين في العالم لهم إسهاماتٌ في هذين المجالين، أمّا على مستوى مخصّصٍ أكثر في التقنيّة الفضائيّة وفي ظاهرةٍ منفردةٍ منه كاستكشاف المرّيخ؛ تراها متفوّقةً فيها تفوّقاً مطلقاً.

والتّفوّق الكلّيّ في مجالٍ معيّنٍ ليس إلا مجموعاً حسابيّاً للأوزان النسبيّة لجميع الدول في هذا المجال.

ولمقدار التفوّق النسبيّ في حقلٍ ما دورٌ في التّشكلّ الإمبراطوريّ لأنّه يعني الاستقلال إزاء الخارج في هذا الحقل و بالتّالي عجزٌ للمنافسين عن الابتزاز فيه، والعزمُ في موضعٍ يرفدُ موضعاً آخر ذا وهنٍ، و يُغذّي بفائض ما يُنتجه الميادينَ الأخرى التي يقلُّ فيها الوزن النسبيّ للدولة أو تراه دون مستوى طموحاتها،كما يوفّر فائضَ الاقتدار الذي يغريها ويسمح لها بالخروج إلى ما وراء حدودها، فتُوظِّفه لتستفيد من عائدات هيمنتها داخليّاً ولكي تلبّي متطلّباتِ التّوسّع خارجيّاً.

وما الظّاهرة الإمبراطوريّة إلا نزوع التمدّد خارج الحدود، و الدّولة بما تظهره للخارج من بأسٍ اقتصاديٍّ وعسكريٍّ وتقنيٍّ تبني مكانتها وموقعها لديه، وما الخارج بالنّسبة للإمبراطوريّة سوى العالم كلّه، أمّا سائر الدول فمكانتها (نفوذها) قد لا تتعدّى حدودها أو نطاق إقليمها لأنّها لا تملك فائض النّفوذ اللازم لتوظيفه في طول العالم وعرضه.

يبدو محقّاً وضروريّاً التّساؤل عن ظروف حيازة الولايات المتّحدة دون سواها لتفوّقٍ نسبيٍّ في المجالاتِ المذكورة آنفاً، وكي لا نذهب بعيداً عن لبّ موضوعنا نكتفي بالإشارة إلى السبب الرّئيس المتمثّل ببعدها الجغرافيّ عن براكين النّزاعات العالميّة الكبرى خلال القرن المنصرم، فحربان عالميّتان جرتا بعيداً عنها ولم تصب أراضيها شظاياهما، ما جعلها بيئةً مواتيةً للاستثمار، ومقصداً آمناً لكلّ راغبٍ بزيادة ثروته، وملاذاً لرؤوس الأموال الهاربة خوفاً من انعدام الاستقرار الأمنيّ و أهوال الحروب وما تمخّض عنها في أوروبا من دمارٍ في البنى التحتيّة و المرافق العامّة.

حتّى إذا ما تبدّد غبار قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، وخمد إثرهما ضرام الحرب العالميّة الثّانية؛ بان تملّكها أربعةَ أخماسِ احتياطيِّ الذّهب العالميِّ، فتحوّلتْ عملتها إلى عملةٍ دوليّةٍ تتهافت عليها دول العالم، لأنّ اقتناءها اقتناءٌ للذّهب. ونالت وحدَها خُمس عدد الأصوات في صندوق النّقد الدوليّ، وتعهّدت لأوروبا (مشروع مارشال) بمساعدتها في إعمار ما دمّرته الحرب، لا حبّاً بها بل دعماً لها لوقف توسّع الإمبراطوريّة السّوفييتيّة، مما أتاح لها الإقلاع في طريق تحوّلها إلى إمبراطوريّة، وكان لزاماً عليها بعد ذاك الحلول محلّ الإمبراطوريّات الأخرى المتحالفة معها في الحرب (فرنسا وبريطانيا) وتحجيمها لتأخذ مكانها.

و يَحْسُنُ حين التّحدّث عن أمريكا أن نستلفت الفكر إلى حصّتها الكبرى من الحجم العالميّ الكلّيِّ في كلٍّ من عدد الاختراعات (3) والنّاتج القوميّ والقوّة العسكريّة (4) المخصّصة لبسط النّفوذ على العالم، لأنّها في داخل حدودها لا تحتاج أكثر من البندقيّة لمحاربة الجريمة، أما حاملات الطائرات و الصواريخ العابرة للقارّات والأسلحة النوويّة فلا يمكن تخيّل أنّها للاستعمال الداخليّ أو لمجرّد حماية حدودها مع كندا و المكسيك. وحلف شمال الأطلسيّ الذي ُشكّل لمواجهة حلف وارسو تغيّرت وظيفته اليوم بعد زوال مبرّر إنشائه، وأصبح وسيلة أمريكا لتجنيد أوروبا وسائر الدول المنضمّة إليه وتسخير طاقاتهم لخدمة مشروعها الإمبراطوريِّ.

وهي دولةٌ استطاعت نُظُمها المختلفة ـ بفضل الثّقافة وتجلّياتها التشريعيّة والقيميّة والسّلوكيّة ـ أن تربط بين مجالاتِ تفوّقها أيّما ربطٍ، مُشكلّةً منظومةً كاملةً متفاعلةً وحيويّةً هي المنظومة الإمبراطوريّة.

في الملامح الإجماليّة للمنظومة التفاعليّة الأمريكيّة ( هي ذاتها البنية الإمبراطوريّة ) نلاحظ كيف يروي التّقدّم التقنيّ بمنجزاته الاقتصادَ والعسكرةَ ويمدّهما بنسغ النموِّ المستمرّ لمواجهة المنافسين الحاليّين والمحتملين، والأمثلة في ذلك عديدةٌ، وحسبنا ذكر آخرها: مشروع الدّرع الصاروخيّ الذي يُزاوج بين التفوّق التقنيّ الأمريكيّ في مجاليّ الفضاء و الاتصالات و التّفوّق العسكريّ في مجال الصّواريخ و الأسلحة النوويّة.

أمّا عائداتُ التفوّق الاقتصاديّ فتُغدِق على التّقدّم التقنيّ مخصّصاتٍ للبحث العلميّ، تُضخُّ منجزاته فوراً في عروق الاقتصاد و المجتمع.

تلك الحالة النّوعيّة من الوزن النسبيّ الكبير تقنيّاً و اقتصاديّاً وعسكريّاً لأمريكا تُفصح عن ذاتها نفوذاً سياسيّاً ينسجم مع حال تلك الدّولة ويناسب ما وصلت إليه، فالقوّة السياسيّة تكثيفٌ لما يصطفُّ خلفها من قوىً، أو قلْ بؤرةٌ تتجمّع فيها خلاصة مفاعيل القوى الثلاث (الاقتصاد ـ التقنيّة ـ العسكرة)، و في هذا مَكْمنُ السّطوة السّياسيّة الأمريكيّة وعلوُّ كعبها وسرُّ غطرستها.

وإن كان التفوّق في الميادين الثّلاثة المذكورة قابلاً للتعبير عنه بالأرقام؛ فإنّ حاصل تفاعل هذه التفوّقات النّاجم عنها ومحصّلتها النّهائيّة أي النّفوذ السياسيّ للدولة لا يمكن قياسه.

بمعنىً ثانٍ: إن كان الوزن النسبيّ لمجالٍ معيّنٍ؛ اقتصاداً كان أم عسكرةً أم تقنيّةً قابلاً للقياس، وإذا كان الوزن الكلّي لهذا المجال أو ذاك هو حاصل جمع الأوزان الخاصّة بجميع الدول، فإنّ الوزن النسبيّ في الميدان السياسيّ لدولةٍ ما ليس كذلك، وهو غير قابلٍ لاعتباره مجموعاً جبريّاً لأوزان المجالات المشكّلة له (الاقتصاد و العسكرة و التقنيّة) فتوافر الماء و الملح و الطّحين لا يعني وجود العجين أو ا
































تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

المتة إن عزت

05-أيلول-2020

قصة مقالة عن أدونيس

23-أيار-2020

ضحكة فلسفية

04-نيسان-2020

هكذا تكلم أبو طشت ـ جزء 6 المرأة التي قتلتها مؤخرتها

21-أيلول-2019

هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي.

14-أيلول-2019

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow