لعلَّه الماء؟
2010-03-06
خاص ألف
على مقعد حجري أمام منزل ريفي, لمْ يخف جداره الترابي فسحته الكبيرة, جلستُ مضطرباً لاهثاً.. أجفلت لحركة دجاجات تنكش الأرض بسلام.. عدلت جلستي متشبثاً بالمقعد الحجري, متشنج الأطراف, مقوس الظهر, أراقب المكان بحذر وتركيز شديدين, وعندما اطمئن قلبي استرخيت عليه.
كنت أشعر أن صدري أجوفٌ, مملوءٌ بنار همجية تحرق كياني المسلوب, ورحت أعبُّ أنفاساً متلاحقة طويلة كي أستريح.. صوت متهدج عميق فاجأني, فتكورت في مكاني مرتعشاً:
- من أنتَ؟
تراكمتْ على لساني أحرف منقوصة لجمتني, بلعت ريقي, رفعت يدي باتجاه الصوت كمن يستجير, رأيت رجلاً عجوزاً واقفاً كالقدر فوق رأسي.
- لا تَخفْ يا بني, أنت بأمان.
خرج صوتي كلهيب النار في الهشيم متعجلاً متلعثماً:
- أنا.. أنا لست هارباً لأكون بأمان.
- ولماذا تراقب المكان كمتسلل أو جاسوس؟
متعب رأسي من الأسئلة, أأقضي العمر مجيباً؟ لكني لمحت في عينيه الداكنتين شكاً, فأجبت مسرعاً:
- قد تخطئ فهمي إن لم تسمع قصتي.
أسند العجوز يده المرتجفة على كتفي, ودعاني للدخول.
كان البيت كبيراً, عدد من الغرف الطينية ضمنها قبتان متجاورتان, وبرغم اتساعه كان يشغل غرفة واحدة, غرفة أقرب إلى أن تكون متحفاً شعبياً في إحدى المدن الكبيرة. جلس معي طيلة نصف ساعة لم ينبس بكلمة, قدم لي خلالها الماء وبعض الطعام, وتركني أستسلم للأمان! كان العجوز القروي الصبور يراقبني بطرف عينيه باستمرار, وكنت أشعر حد اليقين أنه بدأ يخاف مني, فزدت من استرخائي لأبدد مخاوفه, وفجأة.. نهض أمامي بوجه جامد غبَّره العمر والتعب, عيناه الغائرتان مليئتان بالأسئلة, صالب يديه المشعرتين أمام صدره قائلاً:
- أهلاً بك يا ولدي, لدي عمل طارئ تذكرته الآن, خذ راحتك, وتصرف كأنك في بيتك.
أغلق الباب خلفه, ومضى.. قفزت إلى الباب, فتحته قليلاً مراقباً العجوز يسير ببطء مبتعداً بين البيوت العشوائية, ويغيب. لا أدري كيف تسلل الأمان إلى عقلي وقلبي, برغم ما كابدته من محنة؟ وشعرت بنعاس شديد, تمدَّدْتُ على بساط من الصوف, ونمت.
أكاد أجزم أن لا حد لإمكانيات العقل البشري ولا نهاية خلال النوم, أقول هذا لأني أجهدت عقلي وأنا نائم بمسح كل الوجوه والحركات والاتجاهات, وتأكدت أني ناج بمعجزة.
فتحت عيني.. نظرت حولي, وجدت العجوز يتربع قُبالتي, ينظرني كمن يتأمل وجه حبيب يهمُّ بالرحيل.
- عمت مساء.
قال بصوته المتهدج, جلست.. نظرت في ساعتي, لا أدري كيف أحسست أنه سيحاكمني؟ وقبل أن أعلن اعتذاري, بادرني:
- اعتقد أنه بإمكانك الرحيل, فالطريق آمنة الآن.
لم أشعر بكياني منذ زمن بعيد, وفرض عليَّ الأمان الثقة بالعجوز, فقلت:
- أنا محرج منك يا سيدي, هذه أول مرَّة أقوم بهذا العمل, وأعتقد أنها الأخيرة.
اكتست ملامح الارتياح والوضوح وجهه, وقال:
- لا عليك يا بني..
ثم أدار لي نصف رأسه, غامزاً بعينه, مستفسراً:
- لكني أراك مقبلاً بحماسة على هذه المصلحة؟ احذر يا بني, الدراويش أمثالك يموتون ولا يفلحون.
شيءٌ ما سقط في داخلي, وجعلني أبحث عن ذاتي التي لم أعثر يوماً عليها كاملة, ومازلت ألاحق لعنة خطوها العاثر الشريد, فسردت:
- اسمع قصتي يا عم, ولا تثقل كاهلي بأسئلة تفاقم مقتي وغربتي.. أنا معلم مدرسة في إحدى المدن المنسية..
قال مقاطعاً كمن أفاق من غفلة:
- معلم؟!
- نعم.. معلم الله يعزك, متزوج, وعندي ثلاثة أولاد, عمر الأخير أشهرٌ, ويحتاج حليباً صناعياً ككل أطفال هذا الجيل! أنت تدرك ربَّما العقبات الكثيرة أمام أصحاب الدخل المحدود, وتعلم أن الحياة أصبحت قاسية أكثر من قبل, برغم كل هذا التقدم والحداثة. وبما أني ورثت شقاء الأرض, رحت أعمل بناءً بعد نهاية دوامي الرسمي, وكنت كثيراً ما أتعذر بأي سبب للهروب من الحصص, لاستلام ورشة جديدة.
منذ عدة أيام كنت أعمل في مزرعة أحد تجار مدينتي, وخلف أحد الجدران كان يطل عليَّ رأس طفل, يراقبني, ويختبئ عندما أحاول كشفه. ضحكت في سري معتقداً أنه يمازحني, وأعجبتني التسلية اللطيفة خلال عملي المجهد. اختار الطفل لعبة المباغتة, وقف خلفي بوقاحة دون أن أشعر به, وصرخ: (أهلاً بيكم.. أهلاً بيكم.. طلائعنا بتحييكم.. ياهلا ومرحب.. ياهلا هي) أنا متعجب كيف استطعت كبح غيظي لحظتئذ, وأخذتْ تسري في أطرافي رعشة, ورأسي يضج كمحرك زادت سرعته.. نظرتُ خلفي, كان الطفل ابن التاجر, وأحد طلابي في المدرسة, صعقت.. طفرت النار من عيني, ولما تأكد أنه نال مني هرب صارخاً مولولاً.. ما أصعب احتمال ذلك يا عم, شعرت أني ثقبت من أعلى رأسي, وفنيت.. عاد الطالب مع أبيه التاجر, وقفا أمامي كمحاربين بعيون متوقدة, كم وددت الموت في تلك اللحظة, وكم كان القهر يعصرني, ويخرقني نشيج فجَّ داخلي أشعرني بدوار خفيف.. حاول التاجر أن يقول شيئاً, رفعت له يدي, وهززت رأسي.. أدرت لهما ظهري.. لملمت أغراضي.. حملتها كلها, وعدت إلى البيت.
سمعت من طلابي أني ضربته, وآخر قال شتمته, وأكثرهم سفاهة قال لمسته, آه يا عمي.. لو أني أحنيت له رأسي ليصفعني, لو أني احتملت أن يثقبني من قفاي, لو أني فاجر, ولكن.. لعلَّه ماء مدينتي المنسية ممزوجاً بالعزّ؟ والآن.. ما الفائدة؟ معلم أصبح مهرِّباً, مساكين نحن يا عم, والله مساكين.
نهض بمواجهتي, رفعتُ نحوه رأسي, كان وجهه مصفراً, وعيناه حزينتان, اتجه نحو الستارة المتدلية التي تغطي معظم الجدار الترابي, سحبها لتكشف عن مكتبة كبيرة بحجم الجدار.. تناول منها كتاباً مدرسياً.. استدار نحوي وفي عينيه دمعتان غاليتان.. فتح الكتاب, تقدم مني.. وضعه أمامي مشيراً إلى الصفحة بيدين مرتجفتين, وقال بصوت مهزوم مثلي:
- هذه القصيدة لي, بعتها لأعيش.
فراس الحركه
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
في المستقبل سنعلن عن أسماء جميع المواقع التي تنقل عنا دون ذكر المصدر
ألف
08-أيار-2021
17-أيار-2010 | |
06-آذار-2010 | |
02-كانون الأول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |