بـراز
2010-05-17
خاص ألف
لعلي أطلت المكوث أمام انعكاس صورتي في الواجهة الزجاجية للمقهى البحري في تلك المدينة الأوربية الباردة, ليحصل ما قد حصل.. إنه المكان الوحيد الذي تختلط فيه هيئتي بالبحر والذكريات, أعيد فيه ترتيب نفسي كلقاء فريد مع القدر.
كانت نادلة المقهى الجميلة تعشقني, تخزن في ذاكرتها –على الرغم من غيابي لسنتين- أوقات جنوني وهدوئي.. إنها الآن تراقبني, لتشركني بفوضى أحلامها الصغيرة, فأهمل نظراتها اللجوجة, وأسبح في آلامي.
كنتُ قد جئت إلى هذه المدينة الأوربية لأكمل تعليمي الجامعي فيها, واتخذ اليأس من أيامي الأولى مجلساً, واستوطنها, بسبب كنيتي, وقد شكلت لي مأزقاً نفسياً, من الصعب استدراكه من اللحظة الأولى.
أكثر ما كان يحزنني إصرار رفاقي العرب على السخرية مني, إذ أننا نحن العرب من أكثر الشعوب -على ما أعتقد- تمسكاً بالألقاب, وتداولها, ومازالت ذاكرتي تحتفظ بأسماء ونعوت أُطلقتْ على أبناء مدينتي المنسية.. حتى هي انغمست بضحك مفرط عندما عرفت اسمي, حينها شعرت بالخزي والخجل والغضب و..., غير أنها منحتني الفرح بصدق, رفعتني من بحر أوهامي, وأغرقتني بنصائح وألفاظ ساهمت, بعد أن حفظتها, في إحراز علاقات ونجاحات مهمة.
في اليوم الذي أنهيتُ فيه دراستي أصابها الجنون, وتمنتْ لو أني فشلتُ, فالتزمتُ الصمت أمام ثرثرتها وسبابها, وانكفأتُ عائداً إلى غرفتي في الفندق المجاور.
هناك في أوربا.. قدموا لي مغريات كثيرة, وتمسكوا بي للاستفادة من تفوقي, فاعتليتُ المنصة في حفل تكريمي مع الطلاب الفائزين بالدرجات الأولى, لأكتشف وسط التصفيق الحار العواطف الصادقة التي قرأتها على وجوه أساتذتي وزملائي, شكرتُ الجميع بجمل مقتضبة, وختمتُ:
- لماذا أبقى في بلد حول كنيتي إلى براز؟!
وجوم مذهل حلَّ على مدرج الجامعة, شعرتُ, وقتها, أني انتصرت, جمعت نصري في حقائبي, وعدت إلى وطني, فاستقبلوني في حجرة صغيرة داخل المطار لعدة ساعات, للاطمئنان!! ثم شرّعوا لي الأبواب لمعانقة تراب الوطن.
بعد سنتين على تقديم شهادتي الجامعية للجهات المختصة, عينوني معلماً لمادة العلوم الطبيعية, فانحنيتُ لوهلة, بيد أن الأيام التي أمضيتها في وطني حمّلتني قهراً واغتراباً أكثر من غربتي, فهربتُ.
قد يمنح الألم فوضى مقدسة, دقيقة تنبلج مع القدر والأمنيات, ويوم أطلتُ المكوث أمام قدري المنذور للمطر وهياج البحر والذكريات, كاشفتني تلك النادلة بسرِّ عشقها, وأنها خلعتني من ذاكرتها الحالكة مرات, لتعود بعد ضياع مستجيرة بي! لا أدري كيف سكرتُ كمراهق أمام اعترافها؟ وتركتها ترفعني من غيابي إلى حضورها الشهي, تكرس انهزامي أمام حسنها, وتغلق الذكريات.
...............
ربّما أقسى اعتراف أقدمتُ عليه بعد كل هذه السنين, وبعد انفصالي عنها, وعودتي مع أبنائي إلى الوطن, كان جواباً على سؤال ابنتي, التي استيقظت فيها حمى الرجوع:
- هل كانت أحوالنا هناك كما هي هنا؟
أجبتها بلغة البلد التي تتقنها:
- (براز)
×××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
17-أيار-2010 | |
06-آذار-2010 | |
02-كانون الأول-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |