Alef Logo
الآن هنا
              

حول مؤتمر العقلانيين العرب / هل سذاجة أم معركة المؤخرة؟

أبو يعرب المرزوقي

2008-01-01

ليس العجب من المانيفاستو وأصحابه بل ممن يعجب منهما سواء كان من العقلانيين الغاضبين عليهما أو من المستثنين من العقل والفكر. فالمانيفاستو الذي صدر في خاتمة النزهة الباريسية ل"رابطة العقلانيين العرب" من أشراط النهاية الطبيعية لإفلاس نخب لم يبق لها بضاعة للعرض عدا عرض الكساد النظري الذي قد يخفي الجبن العملي في معركة التحرير الجارية في العالم. وليس غريبا أن يميل بعض المسهمين في هذه الرابطة مع الريح فينتقلون من أقصى اليسار طلبا لصيت الريادة باسم الديموقراطية الشعبية إلى أقصى اليمين تداركا للصوت الكاذب باسم الديموقراطية البرجوازية: فحيثما وجد أدنى أمل في توشيخ الصدور ببعض نجوم الريادة من دون إبداع كجنزالات الجيوس المهزومة تجد المترودين يستمتعون بالسياحة السخية في بلاد الفرنجة والمتفرنجين: قضاء يوم أو يومين في فنادق بيروت أو فنادق باريس من الرشاوى العينية التي يدفعها أمراء العرب رعاية للثقافة الباذخة ببقايا ما يمتصونه من دماء شعوبهم (أو من يحاكيهم من أغنياء العرب الجدد) رشاوي تعيد النخب العربية إلى الكدية كشعراء عصر الانحطاط.
ما لا حاجة للكلام فيه
لذلك فإني لن أتكلم لا في التسمية ولا في مضمون المانيفاستو كما لن أركز على ظاهرة الرشوة المقنعة التي تفشت بين النخب العربية بدءا بشراء الضمائر الذي مارسته الأحزاب العالمية حليفة الأحزاب القومية وتوسطا بأمراء النفط ومن يحاول التشبه بهم من أثرياء العرب الجدد وختما بالمؤسسات المشبوهة التي تساعد عمليات التمكين للمجتمع المدني المزعوم أعني البروتاز البديل من المجتمع العربي الموجود حقا والصامد أمام الاستبداد والاستعمار أعني ذلك الذي يعتبره العقلانيون العرب ظلامية ورجعية.
لن أطيل الكلام في اسم "رابطة العقلانيين العرب". لن أعترض عليه بحجة دلالته المستثنية للآخرين من العقل. فلعلهم معذورون في ذلك لأنهم لم يعمموا إذ لم يميزوا أنفسهم بالعقل إلا عن بقية العرب الذين تفضلوا عليهم بالانتساب إليهم وما كادوا يفعلون. فأصحاب الرابطة يحق لهم أن يستثنوا جل العرب بهذه التسمية الحصرية لأن الحصر في العرب يمكن أن يضمر- وهم محقون في الضمير-أن العقلاني من العرب كبريت أحمر لعله لا يتجاوز الأسماء الأربعة التي ذكروها. ولا يؤسفني إلا شيء واحد: فحظ المرأة قد نزل إلى الربع أو الخمس في الأسماء التي استحقت الذكر وهو دون النصيب من الإرث عند الرجعية الإسلامية ! ولعل مبدأ امرأة كألف وألف كأف هو سبب هذه النسبة المجحفة في الظاهر.
ولن أطيل الكلام في الحد الفاصل بين حقبتي تاريخ العرب الحديث إذ لا أحد ينكر أن العرب كانوا قبل الهزيمة التي سببها الظلاميون لأنهم هم الذين كانوا يحكمون رغم أن مستشاريهم كلهم كانوا من هؤلاء العقلانيين. والحمد لله فهي ذي القيادة قد عادت وإن باسم جديد هو رابطة العقلانيين بعد أن كانت رابطة الاشتراكيين العلميين: القيادة العقلانية ستخرجنا من حالنا المتردية بسبب الظلامية لأن هؤلاء الفرسان والفارسة سينقذونا بالتنوير والنقد والعلمانية المفروضة إن ليس بالقوة الناعمة فبالقوة الخشنة. فمرحى وألف مرحى.


التحديث الفعلي انتقل إلى المعسكر الثاني
لو كان العقلانيون عقلانيين حقا لعلموا أنه لا يوجد من يمول نشاطهم لوجه الله. ولو كانوا يؤمنون حقا بما يتكلمون عليه لكانوا هم بدورهم ممن يتمحض للعمل فيه بجهد وتضحيات شخصية. فما أذكر أني شاركت مرة في نشاط تطوعي ونضال من أجل قضية في الغرب أو في الشرق وكان فيه المشارك ضيفا في فنادق رفيعة التنجيم وبدون مساهمة مادية أو يعطى مكافأة على كتاباته النضالية. ما أذكره هو أن المشرفين على الندوات العلمية من المؤمنين بالفكر كانوا من أول المضحين وهم يفضلون السكنى في الأحياء الجامعية أو في فنادق من الدرجة المتوسطة مع تنظيم للغذاء لا يتجاوز شكل اللمجة المعدة مسبقا أو ما شابه (لأنهم ليسوا جوعى ولا عطشى) رغم ثراء بلدانهم كألمانيا أو أمريكا أو اليابان أو الصين حتى اقتصر على الدول التي لا وجه للمقارنة بين دخلها الوطني الخام وكل العرب بل وكل المسلمين مجتمعين. وفي كل الأحوال فقل أن تجد من يمول سهرات الوسكي في الفنادق الفاخرة.
ولو أفاق العقلانيون العرب من غفلتهم لعلموا أن من بين يسمونهم بالظلامية والرجعية من يضحي بكل شيء من أجل ما يؤمن به فضلا عن كونهم قد أثبتوا-مثلهم مثل بعض أبطال اليسار لما كان من بين أهله من يؤمن برسالة كشي جيفارا وغيرهم-بالعمل والعمل أي بالمقاومة العسكرية والسياسية والثقافية والإبداعية وفضلا عن كونهم أدرى بالحضارة الغربية بوجهيها الموجب والسالب من كل هؤلاء المتعاقلين ربما بسبب هجراتهم القسرية للعيش في الغرب والتعلم لديه مع العلم بما وراء ما لديه تخفيه الشعارات التي يصدق السذج أنها تتحقق لمجرد كونها شعارات لا تتجاوز البهارات عند المستسلمين لرسالة التحضير القسري.
ولعل هذا التحول في الفئات الاجتماعية الحاملة لمشروع التحديث المتحرر من الهيمنة وانتقال الريادة إلى صف الموسومين بالظلامية عند جهلوت التقدمية سببه الظرف الذي حال دونهم والتطحلب في الساحة الثقافية والسياسية التي ترعاها الأنظمة الفاسدة والأثرياء الأكثر منهم فسادا من ممولي المواقع والندوات كما فعلوا هم طيلة عقود الاستعمار والاستقلال: فهذا قد أفسد النخب التي لم يبق لها من التقدمية إلا الشعارات الزائفة وهو ما يعلل نصف الدائرة التي جعلتهم يتحولون بزاوية منبسطة إلى الضد فيصبحون ليبراليين جدد. فقد تحرر الصف المستخلف في الريادة النهضوية والتحريرية من هذه العاهات التي أفسدت أهل الصف المستبدل الذين أصبحوا مجرد حملة للشعارات دون عمل ولا علم: عدا التطفل على موائد الأمراء وأشبهاهم أو على معونات المؤسسات والجمعيات الاستعمارية المشبوهة التي تمكن لهم لتتمكن منهم ثم تستعملهم لتتمكن من أممهم.
كيف للعقلانية أن تصبح مذهب نضال ؟
فالعقلانيون بالمعنى غير الاصطلاحي في نظرية المعرفة هم العقلاء أعني أولئك الذين يحسبونها صح فلا يتهورون أو يغامرون سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو دول: إنهم في الأغلب معتدلون ومن ثم جبناء خاصة إذا بلغ زعماؤهم أرذل العمر. ولا أعلم نضالا من دون أحلام تشيب لها رؤوس الولدان. لذلك فإن ما أريد فهمه هو دلالة الانزياح الدلالي الذي جعل خيارا في نظرية المعرفة يصبح صفة لموقف في النضال الثقافي والسياسي والروحي. فإذا كان النضال الثقافي والسياسي والروحي الذي تنوي الرابطة خوضه لتنويرنا يقتضي ثورة في الإبداع والفكر وليس مجرد دعوة للنضال العملي بمجتمع مدني مدفوع الأجر من نافي كل تحرر بل وكل إنسانية فهل يعني ذلك أنهم يعودون إلى القول بالأفكار الفطرية مثل العقلانيين الكلاسيكيين في نظرية المعرفة ؟ فيكونوا قد عادوا بنا إلى ماقبل عصر النقد الكنطي فضلا عن العقلانية النقدية بمعناها عند بوبر ؟
وحتى لا نظلم أحدا فلنذكر أن المانيفاستو تكلم على النقد الثقافي والاجتماعي. لذلك فسيكون الكلام مع عقلانيينا تساؤليا حول هذين الوجهين: بعض الأسئلة حول تصور العقلانية المعرفي أركز عليها في ملاحظاتي وسؤال واحد حول الوظيفة التنويرية اتركه للخاتمة. فقد تابعت الحوار الدائر بين مؤيدي المانيفاستو الذي أتحفنا به عقل رابطة العقلانيين العرب العتيدة ولم أكن أنوي التعليق لولا التعليق الأخير لأحد الرادين على بعض المعترضين. وقدكنت أجد في الأمر من العجائب ما يجعل المرء يتساءل هل هو حقا يقرأ كلاما كتبه مفكرون يعاصرون ما يجري حولنا أم هو يسمع كلاما يعود إلى ما قبل مرحلة الفكر النقدي في نهاية القرن الثامن عشر فضلا عن مراعاة الظرف التاريخي للعالم عامة وللوطن العربي خاصة.
ما كنت لأدلي بدلوي في المعركة التي بدأ وطيسها يحمى لو لم تأت في تعليق أحد الرادين على بعض المحتجين ملاحظة لم أر أكثر منها مدعاة للإغراق في العجب: فهو يعلن أنه كان يمكن أن يفهم الاعتراض لو جاء من اللاعقلانيين من الأصوليين. لكل ذلك لن أناقش أعضاء الرابطة العتيدة في مضمون بيانهم الذي ينضح فصاحة وجزالة يفخر بها كل عربي بل أريد أن أسألهم عن عقلانيتهم التي جعلت صاحبنا لم يكن ينتظر اعتراضا إلا من اللاعقلانيين ما القصد بها في فهومهم التي يتفوقون بها علينا نحن مساكين اللاعقلانيين من الظلاميين.
السؤال الأول: يزعم العقلانيون أن العقلانية بمعناها العملي أساسها قيمتان هما حرية الفكر وعلمانية الدولة. وسنقبل هذا التعريف ونسألهم: كيف يمكن أن يتحقق ذلك؟ هل يكون بإرادة المواطنين الأحرار أعني بتأسيس فكر أصيل ومبدع يفجر طاقات الثقافة العربية الإسلامية وبتكوين حركات شعبية فعلية تنطلق من قيمها لتحقيق التغير الخلقي والروحي أم هل ينبغي طي صفحة الثقافة العربية الإسلامية وفرض ذلك بالقوة على الشعوب فيكون من ضرورة تحقيق هاتين القيمتين لرابطة العقلانيين العرب الاستبداد الفكري على كل الشعب والاستعمار السياسي لكل الأوطان؟ ألم يجرب ذلك العلمانيون العرب من القوميين الذين حكموا خمسة عقود وكان أغلبكم من مستشاريهم أو من سدنتهم في المجال الثقافي والإعلامي ؟ فماذا كانت النتيجة ؟
أم هل إن أمريكا وعدتكم بأنها ستحرر شعوب الأرض من الاستبداد والاستعمار حبا في العقلانية وتقديرا لرابطة العقلانيين العرب؟ فيكون ما نراه جاريا في العالم مجرد كوابيس وهمية يروج لها خيال الظلاميين المريض ولا وجود للاستبداد ولا الاستعمار الحائلين دون هاتين القيمتين والتحقق وبصورة أدق دون الشعوب وحق الاختيار الحر في شؤونها وهو ما تريدون تأييده بالحرب النفسية على كل قيم الأمة أعني على مقومات حصانتها التي تمكنها من الصمود والبقاء ؟ من حكم الوطن العربي خلال فترة الاستعمار وبعد ما يسمى بالاستقلال بالوكالة عن الاستعمار الذي تتصورون قيمه التي تخلى عنها غاية تسعون إليها: مثل العقلانية الميتافيزيقية والعلمانية والدويلات القطرية بل وحتى الطائفية بفضل العودة إلى ما قبل ما قبل ما قبل الحضارة التي يعتبرها الشعب مقوم وجوده ؟ هل هم الأصوليون أم العلمانيون ؟ فما بال حركة التنوير التي تتكلمون باسمها آلت إلى هذا المآل الذي تتهمون به من لا ناقة له ولا جمل في كل ما حدث ؟ هل لأن الشعوب بدأت تدرك هذه الحقائق صرتم تخافون على ما تسمونه حريات أعني ما يقتصر على حرياتكم أنتم كنخبة محظوظة ليس يعنيها من تحرير الإنسان إلا الكلام بالشعارات التي توصل إلى وظيفة عند أصحاب الشركات العابرة للقارات ؟
السؤال الثاني: وتزعمون أن العقلانية بمعناها النظري أساسها مبدآ التناسق المنطقي والتطابق التجريبي مع وثنكم الجديد أو الواقع أصل الواقعية التي هي تأصيل صريح لكل جبن وخيانة. وهذا أيضا نسلمه لكم. فكيف يمكن أن تتعين هذه العقلانية في غير أحكام جيل أو عصر معينين كما أدرك الفكر النقدي سواء في مجال علوم الطبيعة أو في مجال علوم التاريخ فضلا عن الايديولوجيات التي تناضلون من أجلها بمجرد كلام الصالونات ؟ ألم تكن العقلانية عند الفلاسفة طيلة قرابة عشرين قرنا تعني صورة العالم المنغلق كما يحددها الفلك البطليموسي والفيزياء الأرسطية والهندسة الإقليدية ؟ أي العقلانيتين تفضلون عقلانية بطليموس أم عقلانية كوبركنيكوس في تأطير صورتكم للعقل المتعين في الوجود الطبيعي ؟ أما كان أسلافكم يهزأون ممن يرى أن صورة العالم أوسع مما يراه أصحاب المقابلة بين عالمي ما فوق القمر وما دونه ويسمون ذلك عقلانية علمية وحقائق فلسفية نهائية (الغزالي مثلا ضد الفلاسفة وإخوان الصفا أعني أسلافكم) ؟
ألستم مثل أسلافكم هؤلاء تزعمون أن الأصولية الدينية لا تفقه شيئا من علم العالم الطبيعي ومن علم العالم التاريخي لأن العلمين النظري والعملي ليس لهما غيركم من أهل في حين أن الجميع يعلم أن العلوم كلها انتقلت إلى الصف الثاني بحيث إن النخب المتعلمة بحق في العلوم الصحيحة والبناء الصحيح للإصلاح السياسي والاجتماعي لا يوجد بينكم بل بين من تزعمونهم ظلاميين ولم يبق لكم من العلوم المزعومة إلى شقشقات كليات الآداب ؟ فكيف لا تفهمون الآن أن عقلانية الطبيعيين التي كان أسلافكم بمعاييرها يهزأون من صورة العالم الطبيعي الدينية ينبغي أن تعترفوا أنها أقرب إلى العلم الحديث من صورتكم البطلمية ؟
وكيف لا تعترفون أن عقلانيتكم التاريخية التي يستخف بمعيارها الأميون (جل المنتسبين إلى هذه الرابطة من الأميين بسبب ما أشرنا إليه من علاقات بالحكم مباشرة أو بتوسط الثقافة والإعلام) بصورة العالم التاريخي الدينية أقل خرافية من صورته في الاشتراكية العلمية وحتى في الليبرالية التي ارتددتم إليها (استعمل عن قصد مصطلحات دينية لأن موقفكم ليس موقفا عقلانيا نقديا بالمعنى الكنطي بل هو مذهب عقدي ميتافيزيقي ساذج) ؟ ألم يصدق التاريخ قولة ريمون هارون في موقف اليساريين الذين صاروا الآن ليبراليين عندما اعتبر الماركسية أفيونهم معارضا بذلك قصة أفيون الشعوب التي قال بها ماركس؟ لكن هؤلاء العقلانيين الذين كانوا يمضغون أفيون ماركس صاروا ليبراليين جدد يمضغون أفيون بوش أو ولعله أكثر لطافة لأنه من جنس ال"قات" لأن أفاضلهم انقرضوا بعد أن مات الحلم الذي كان يدفع إلى التضحية الناتجة عن الخدمة لا المصلحة الناتجة عن الاستخدام.
السؤال الثالث: ولعلكم ترجعون العقلانية بمنعييها العملي والنظري إلى العقل العلمي. وسنجاريكم في ذلك لنسألكم: أليس المبدأ الوحيد لكل تفسير بالنسبة إلى العقل العلمي هو الضرورة والصدفة؟ لكن عندئذ هل يبقى للعقلانية المؤمنة ببعض القيم ومن ثم ذات التفاؤل الساذج (الحرية والعلمانية والعدل والمساواة إلخ...مما ذكرتم في المانفاستو) أن تدعي السعي إلى تحقيق هذه القيم إذا لم تناقض نفسها فتنفي المبدأ الذي يستند إليه عقلها العلمي: فإذا لم يكن تحرير الإنسان من الحتميات التي تقتضيها الصدفة والضرورة فكيف ستحررونه منهما؟ أم إنكم مؤمنون من دون أن تكونوا واعين بظلاميتكم التي تنافي العقل العلمي ؟
السؤال الرابع: مبادئ العقل وغيرها من المبادئ هل هي كما تتوهمون حقائق أولية أم هي مجرد مواضعات ذريعية يحتاج إليها الفكر الإنساني لعلاج الأمور ومن ثم فهي أدوات نظرية تقبل التجاوز بمقتضى تغير حاجيات العلاج النظري والعملي الذي يحتاج إليه الإنسان؟ أليست هي إذن مجرد اجتهادات مؤقتة ومن ثم فليس من المعقول العقلاني أن تعتبر حقائق تباهون بالانتساب إليها ولا تدرون أنكم بذلك مجرد معتقدين في أمر نسبي أطلقتموه فتكونوا قد وقعتم في المعنى الحقيقي للوثنية ؟ هل تعرفون معنى العقلانية النقدية في المجال العملي فضلا عنها في المجال النظري أم تراكم لم تسمعوا بكارل بوبار وجلكم يدعي الريادة في النقد ثم يقف مواقف ميتافيزيقية لن تؤول بالشعوب التي تسمع لكم إلا إلى واحدة من الفاشيات الغربية الثلاث المعروفة وجميعها كانت عقلانية حتى النخاع إلى حد تحويل المجتمع كله إلى آلة جهنمية بالنظام العقلي أو الجشتل الهيدجري!
السؤال الأخير: وهو جامع بين وجهين فلسفي وتاريخي. أطرحه في شكله الفلسفي لأصل به إلى شكله التاريخي في حضارتنا حتى تعلموا أنكم تفتحون أبوابا مخلوعة حتى في التراث الذي تريدون طي صفحته ولم تختاروا من نماذجه إلا اقلها تمثيلا لصفحاته الناصعة. فالشكل الفلسفي من المسألة يقول: هل يمكن لمؤمن بالعقل العلمي أن يكون عقلانيا بالمعنى المتفائل والساذج الذي يعبر عنه العقلانيون سواء كانوا عربا أو غير عرب ؟ الجواب بالنفي هو الذي مال إليه الأشعري لأنه كان يفهم ماذا تعني العقلانية العلمية. وفي ذلك أصل المسألة التاريخية. فلكأن الأشعري اعترض على سذاجة الموقف الاعتزالي الذي تقفونه دون أساسه الإيماني عند أصحابه اعترض عليهم بالقول: لو حكمنا مبادئ العقل فاعتبرناه محسنا ومقبحا كما تعتقدون (أي محددا للقيم كما يحدد العقل العلمي الحقائق العلمية) لاستحال علينا أن نسلم بأن العالم من صنع قادر حكيم كما نعتقد وتعتقدون وأنه علينا أن نسعى لتحسينه أو تقبيحه لأنه يكون من الغباء أن يقول أحد إنه يساعد القوانين العلمية لتحقق ثمراتها كما يفعل في القوانين الخلقية المستندة إلى الكسب أي الجهد الضروري لتحقيق القيم بالفعل القصدي.
إذا كان ما ينتسب إلى الأخلاق يحتاج إلى فعل قصدي أساسه الإيمان بما يتعالى على العلم الذي لا يثبته بل ينفيه فمعنى ذلك أن أساس القيم هذا ينبغي أن يكون متعاليا على أساس الصفات الذاتية التي للأشياء ومن ثم فهو حكم قيمي مضاف ناتج عن مبدأ متعال في الإنسان هو الإيمان بالتعالي على الضرورة والصدفة بخلاف الصفات الذاتية التي للأشياء أعني ما يعلمه العقل العلمي منها لأنها إما من ماهيتها أو ناتجة ضرورة عنها كما هو شأن كل ما يطلبه العقل العلمي في موضوعاته. وبين أن ما في العالم من الشرور والظلم والعدوان والفوضى وخاصة في الظاهرات التاريخية يلغي كل دليل على وجود الله فضلا عن اتصافه بالعدل لو حكمنا العقل العلمي في البعد القيمي للوجود إذ عندئذ لن يكون الحكم في ما يجري إلا منطق القوة ما اكتفينا بتحكيم العقل العلمي الذي ليس له من مرجع إلا صفات الأشياء الذاتية لا قيمها أي ما يعلمه العقل العلمي منها. لذلك فإنه لم يبق أمام الإنسان إلا أحد حلين.
فإما أن أحكم عقلي فأحكم بأن ما يوجد لا يخضع للغائية العقلية بل هو يخضع للضرورة والصدفة ليكون معلوما بالعقل العلمي كما هو شأن القوانين العلمية سواء كانت طبيعية نظرية أو تاريخية عملية: وذلك هو الموقف العلمي الوحيد المقبول عقلا عندما يتحرر العقل من السذاجة الميتافيزيقية فيتحرر من الإيمان الضمني في هذا التصور الميتافيزيقي للعقل المحسن والمقبح. فيكون المنطق الوحيد للتاريخ الإنساني هو منطق التاريخ الطبيعي الجاري فعلا كما نراه في العولمة المتوحشة: ذلك هو الأمر الوحيد الذي يمكن أن ينتهي إليه كل من يقول بالمعرفة العقلية الخالصة. ما عدا ذلك إيمان واع أو إيمان غير واع وهو المقصود بالميتافيزيقا الساذجة: أنتم مؤمنون غير واعين لكنكم لا تدرون بما تؤمنون أعني أنكم لا تدرون أنكم صنمتم الأحكام المسبقة التي وضعتها الحداثة وتجاوزتها في بلادها لأنها صارت عائقا لقوتها في المعترك الدولي. فوضعت ما هو أفضل لتعيد بناء إمبراطورية روما وكان معيار الحد الفاصل بين من يمكن أن ينتسب إليها ومن لا يمكن ليس الديموقراطية بل الثقافة اليهودية المسيحية. لكنكم أنتم تبحثون عن القيم التي تحول دون شروط استئناف الدور التاريخي لأن ما يعنيكم هو "صغائر الرفاه الشخصي"!
لا معنى للقانون الطبيعي أساسا لتفسير الظاهرات التاريخية إلا لمنطق الصراع بين القوى. لذلك كان سر فشل الماركسية تناقضها: فهي تقول بأن قانون التاريخ الجدلي يؤدي ضرورة لحصول الثمرات التي تتوقعها ثم هي تطلب الفعل القصدي والثوري من أجل تحقيق شروط الكرامة الإنسانية تلك والأول مبدأ علمي والثاني مبدأ ديني أو على الأقل معتقد خلقي. لم نسمع بأحد يفعل من أجل تحقيق ثمرات الجاذبية مثلا. ولو فعل لظن مجنونا إذا كان متسوط الذكاء أو غبيا.
وإما أن يؤمن المرء بأن ما في العالم لا يكفي فيه الموقف العقلاني لأنه يتضمن من الأسرار ما لا يفهمه فيكتفي بالعمل بما يفهم ويعامل الأمر في ما عدا ذلك بإيمان وأمل ليس له عليهما دليل لكونهما يستمدان أساسهما من إرادة التحرر من منطق الضرورة والصدفة فيكون التحرر الفعلي مشروطا بالإيمان المتعالي على العقل العلمي إلى العقل الخلقي الذي هو ديني بالجوهر حتى وإن لم يعترف بذلك العقلانيون العرب: مسلمات كنط الثلاث هي الأساس الحقيقي لعقلانيته النقدية التي حررت فكره من عقلانية الميتافيزيقا الساذجة التي يؤمن بها عقلانيو الرابطة وهي عينها التي بقي ماركس يؤمن بها لأنه كنطي حتى النخاع في القسم الثاني من النقيضة التي انبنت عليها فلسفته: تحقيق شروط كرامة الإنسان إيمان خلقي وظن ذلك حصيلة ضرورية وهم علمي.
ولعل كل من له دراية بتاريخ الفلسفة الغربية يعلم أن سر النقد الكنطي مصدره الحقيقي هو حل هذه العقدة وسر كل الثورات الخلقية مصدرها التحرر من مبدأ الضرورة الذي هو الوحيد المؤسس للعقلانية العلمية: فمن دون اللاأدرية والحد من العقل العلمي الميتافيزيقي ومن ثم من دون النزعة الإيمانية لا يمكن للمعرفة العلمية النقدية التي هي اجتهادية وليست ميتافيزيقية أن تتأسس لأنهما الشرط الضروري والكافي لجعل الباب يبقى مفتوحا أمام التغير اللامتناهي في حقائق العقل العلمي مع بقاء المعتقدات الإيمانية مثبِّتات للوجود القيمي في الحياة البشرية. وبذلك يتبين أن الإيمان هو مصدر التحرير الفعلي وليس العقلانية الميتافيزيقة الساذجة رغم أوهام العقلانيين العرب.

الخاتمة:
تساؤلي في الخاتمة هو: إلى متى سيظل مدعو العقلانية في غفلتهم التي تجعلهم لا يفهمون أن الأصوليين لا يريدون أن يكونوا عقلانيين مثلهم لأنهم ليسوا سذجا بل تجاوزا الخرافات التي يحاولون التبشير بها بشعارات لا يصدقونها في قرارة أنفسهم لأن بعض زعمائهم يعيشون في خدمة الشركات أو المنظمات الأمريكية إن لم يكن مع أجهزة من طبيعة أخرى. سذاجتهم أنهم لم يفهموا أن العقل الخرافي هو عقل من يزعم العقلانية في ما لا معنى للعقلانية فيه وأن العقلانية الوحيدة الممكنة هي الإيمان بالتعقيل النقدي والمتدرج والبطيء للتعامل مع اللاعقلي بذاته الذي يحيط بالإنسان من كل جانب بل ويسكن في سويداء قلبه. العقلانية الوحيدة الممكنة هي إذن عقلانية المؤمنين الذي يؤمنون بضرورة الاجتهاد والجهاد من أجل جعل حياة البشر ذات معنى وهو بالذات معنى العقيدة عند من تتهمونهم بالظلامية لمجرد كونهم يتصدون ببسالة لأسياد النجوم من المتعاقلين قصدت مستعمري العالم من أصحاب الطغيان المادي ومعاونيهم من مبرريه بالطغيان الرمزي الذي يسمونه عقلانية.
وأعود في الخاتمة إلى الوظيفة النقدية والتنويرية للرابطة رابطة العقلانيين العرب حتى استفهم عن قصدهم ما هو. فهل علينا أن نفهم من كلامهم عن النقد الثقافي أنهم ينوون الدعوة إلى تحرير الشعوب العربية من الظلامية والرجعية بالاعتماد على الوظيفة التحضيرية التي يدعو إليها كل الذين يعتبرون الثقافة العربية الإسلامية عامة والإسلام خاصة صفحة ينبغي أن تطوى ولو بالقوة فتكون الإستراتيجية إعداد المبرر الداخلي للحماية الخارجية باسم التدخل الإنساني ضد أقلية العلمانيين المضطهدين بحرب دينية جديدة صفاها هما الأصولية العلمانية ضد الأصولية الدينية ؟
أم تراهم عقلانيين نقديين بحق فباتوا يؤمنون بأن العمل الثقافي يعني تربية للشعوب وأن هذه المهمة تتطلب حب هذه الشعوب وعدم احتقارها والحط من ثقافتها خاصة ممن لا يفقهون منها الكثير فضلا عن حاجتها إلى قرون من الصبر والمثابرة لبناء أجيال من أصحاب الفكر المستند إلى المعرفة العلمية المتواضعة بالظاهرات الثقافية وبالذهنيات وفنون تغييرها من دون عنف واستبداد لأن العلاج العلمي يشترط العلم بالقوانين ولا يكتفي بمجرد تطبيق آلي لشعارات مستوردة ؟
هل تراهم قد أدركوا أن النقد البناء مشروط بعملية تفاعلية مع ثقافة الشعب وتنظيماته الاجتماعية والسياسية وأهمها تلك التي يستثنونها ويشنون عليها الحرب بدل الحوار النقدي معها الحوار النقدي المشروط بالاعتراف المتبادل مفضلين التواطؤ مع من يريد أن يطوي صفحة الثقافة الوحيدة التي ما تزال صامدة أمام تغريب العالم بكل معاني التغريب ؟





تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

هل الرد على طرابيشي يحل المشكل؟

02-آب-2008

تقارير التنمية العربية ما دلالتها ؟

01-تموز-2008

معركة الحجاب ما دلالتها ؟

19-نيسان-2008

نعم: الحق أحق أن يتبع (بين الأستاذين الطالبي والشرفي)

07-نيسان-2008

نحن وفن الكاريكاتور ؟

01-نيسان-2008

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow