رواية عودة منصور اللداوي – 5 –
2010-03-16
خاص ألف
بردٌ لطيف.. رجفة خدر
يا أبي : هل ضيعتني ؟
أخذت القرار / القطيعة / الانتظار.. متى تفيق وتقبض معي على أصل الوشائج .
متى تعود ؟
أنتظرُ صوتك يدق أذني والهاتف بيننا حي ميت، بعد كل اتصال يصحو داخلي هاتف الفقد/ اليتم، جعبتي امتلأت وعمتي زاهية تعتصم بدموعها، فرحة بي، مؤرقة عليك، وجودك على سطح الدنيا / غيابك عنها، الشوق يكاد يقتلها وأنت صائم وأنا أبحث عن أحياء وأموات تناوبوا الأدوار في رواياتها، وما حفظ عنها محمود وزوجته الطيبة، تبدأ حكايتهما يوم انتدبا في فرح مبكر، خرجا منه بلقب العريس والعروس، واعتمدت زاهية أم العريس وما زالت.. زاهية تحدثني أن ما فعلته إرضاءً لأمها كان أشبه بعبث أطفال أو فصلٍ ملحقٍ بخرافية الضبع وسراج الغولة والشاطر حسن .
ـ في الفرح شُفت العروس حلوة كثير، قمت خطبتها وابوها وافق، ياه يا رياض كانوا صغار، ومن يومها فاطمة كنتي ربيتها وتحملت مصاريفها، صارت امرأة أخذتها عندي وبذرت أولادا وبنات.. وخمسة وخميسة في عين الحسود .
أحفاد زاهية يهرعون من أول الزقاق، يأخذون بتلابيبي، ومنهم من يسبقني إلى جدته بالبشارة:
ـ خالي رياض.. خالي رياض .
يا أبي حدثها، فهي تتمنى زيارة قبر الرسول الحبيب تستند على كتفك بعد أن ضاع منها زوجها قصفة عمر، تقول :
ـ أول ما يتصل أبوك شاور يا رياض على أي بنت أخطبها لك حتى لو كانت بنت الباشا محطاتي منجرة محمود، وبيت عمتي زاهية، وأم طارق التي تفتقدني بين الحين والآخر، وبيت حاتم السدودي، أرهف السمع لأحاديث أبيه وأمه عن هجرة بعيدة وعن ثوار ويهود، وجيش عربي، وخراب بيت وجوع.. من جوع إلى جوع، وأم طارق تعيدني إليك تسألني عنك أسحب صوتي من صَوتِك ..
ـ كلهم بخير ينتظرون يوم العودة ..
أناقش معها آراء الطبيب، وتوقعاته المتفائلة.. يضيء وجهها عن جمال قديم ما زال على وهجه، يتجلى وقاراً وخبرة ويقيناً :
ـ مصيرهم يرجعوا.. اتركهم ياخذوا وقتهم، مالهم غير هالبلد.
اعتقدت أن صمتك كان تجاه غسان، وأقنعت نفسي على افتراض ربما راودك، أنك تحللت من التزامك نحوه عندما رجع إلى أهله، خفف عنك عبء الحضانة والأمانة لولد ليس ولدك لم تودعه سرك، إلا ورثته شيئاً من صلبك.. أما أنا / أنت دبيب دمي من دمك، ينضح عرقي من مسام جلدك، تصادر صوتي وتصمت، منذ عدت حديثي إليك / عنك على لسان ديما وأم ليست أمي، تخذلني، وأتلقى تقريراً محايداً عن رجل بعيد بعيد.. وعمتي لم تفلح في سحب صوتك، ذهبت توسلاتها وابتلعت غصتها واكتفت بالدعاء .
سعدية أخبرتني أن حالتك مبشرة، وأن الطبيب أكد لها أنك دخلت طوراً جديداً في تعقب ذاكرتك الجامحة، اتصلت بالطبيب، عثرت عليه بعد محاولات مضنية، قال إنك حالة لم تمر عليه من قبل، وإنه يختبر فروضاً يعتقد أنها صحيحة وأنك تستجب وتقتنص حالات صفاء قصيرة تنفتح خلالها شهيتك للبوح المنظم ويكون التذكر مفتوحاً على الأزمنة والأمكنة والأحداث، فيصيبك الإجهاد وتهرب، يقول الطبيب إن الهروب خيار صمت وصراع مع خطايا أو أخطاء.. الحذر يا أبي من وهم الحقيقة، والطبيب يوصي ديما وسعدية الصبر كي لا تنكص إلى بؤر مجهولة وتضيع مرة أخرى.
سعدية تعيد عليّ ما يقوله الطبيب حرفياً، غامض عليها ما تسمع، ومؤرق لها ما قرره الطبيب عن علاقة واحدة صافية هي التي بينك وبين ديما، تبوح لها ما لا تبوحه لغيرها، وديما الصغيرة يصببها الذعر وتصحو في الليل خائفة من حكايات غريبة، عن أناس وأحداث وأمكنة لا تعرفها ولا مرت عليها في أطياف الأحاديث ..
ديما صفحة بيضاء ، تأنس إليها وبها، وتترك إشاراتك عليها دونما خجل أو خوف. وديما لم تعد طفلة ترقد في حضنك وتعبث بشاربك ترفعه عن شفتيك، تتأكد من وجود أسنانك، لكنها الآن تتجرأ على خديك وتوسعك قبلاً.. لا تحّملها مالا تطيق، رأت الدنيا في تونس، ويوم دخلت الغيبوبة كانت غافية على صدر أمها وقد امتلأت معدتها بحليب حنون.. قدرها الآن أن تتفتح على هذيانك وتكبر مع آلامك.. الليلة هاتفتك / هاتفت سعدية، خرت دمعتها في أذني، سمعت دمعتها على بحة صوتها، رأيت توتر شفتيها على عذابها الطويل، أخبرتني أنك لذت بالصمت بعد أن حدثت ديما عن بدايات بعيدة، عن رجال ونساء لم يطأوا المنافي، حارات وأزقة وبيارات ووكر، وشوك غيلانا، وصبية عيناها صافيتان وقلبها عامر، ويقطين وكؤوس نوار تشرع ذكورة طلعها، وشوق وشبق ومطر غزير، وبرد و ثياب مبللة، وصفيحة ملتهبة ودفء وعريٌ وعرق حميم ، وبذرة جنين لم يكتمل، وخذلان وعقوق وحقد، ونهر دموع نز من عينيك تعرف إلى مجراه على صفحة وجهك وانسرب إلى شفتيك، فابتلعته مالحاً / حامضاً / كاوياً ودخلت به الصمت.. أكملت الدورة ، وانشرح صدر الطبيب، فطوّر فروضه إلى بحث عن نظرية جديدة .
يا أبي هل ما زلت على قرارك.. أم أنك تريدها لعبة جديدة مع الطبيب، تستدرجه وتفر في اللحظة الأخيرة .
تونس ليلة الوداع .
والأرق رغوة تفور تحت قشرة الرأس.. كيف يكون الفراق وعلى أي الصور، وعلى أي الحكايات.. ؟
أي الوصايا والرسائل إلى هناك ؟
كان الوجوم بيننا سمجاً تلك الليلة، تواطأنا جميعاً على الخوف، وارتدينا الصمت، والكون من حولنا عتمة، أطفأت نجوم الليل سراجاتها وغاب القمر.. وديما اعتصمت ببقايا طفولتها وتشاغلت بألعابها ودماها، هدلت شعرها الطويل على كتفيها، لم ترفع وجهها إليّ، ولم تواجهني بغضبها، قرصتها من لحم ذقنها الطرية، ضغطت حتى صارت ذقنها توتة حمراء، لم تضحك ولا كركرت دلالا وغنجاً، لم تتعلق برقبتي ولم ترشقني قبلة، ديما امرأة صغيرة تغتسل بدمع جاف ، تتعرف على الحزن / الفراق / الخوف.. هل أنت غاضبة مني أو عليّ يا ديما الحبيبة ؟ انفلتت من حضني، هربت إلى عرائسها ودُماها، تتفقد أيتاماً رُضعاً باتوا على صراخ الجوع.. فيما سعدية تتشاغل بترتيب حاجياتي وملابسي، وتتفقد زوادتي، تتحاشى الوقوع على وجه أبي الذي زم شفتيه وأطبق فمه وشخص في العتمة.. حبس الحكايات وصام.
هل نقطع الليلة صامتين، بانتظار الهزيع الأخير، هل تفتح البوابات وتدلق ما تشاء من الوصايا، أنقذني يا منصور اللداوي وزودني للرحلة .
صامت، تطارد ، سراب أخبار بيضاء / سوداء تحوم في فضاء رأسك تفر من بؤرة التذكر، احفزها للولوج إلى عتبة لسانك، اقلع بها ، أشرعة تحملني إلى هناك ..
انتصف الليل ولم تبدأ .
لا نوم الليلة يا أبي، هذا قراري وسأبقي على سهري، لا رغبة لي، ولا مطلب سوى البوح..
أخذت كفك، لثمتها، بللتها بماء عيني .
- زودني، من لي هناك، وكيف أبدأ ؟
- لك الوطن وعمتك زاهية .
سعدية أخذت كفه الأخرى، صرنا كمن أمسك طفلاً في أول عهده بالمشي، ندربه كيف ينهض من الحبو إلى المشي منتصباً وما زال في الليل بقية، وديما نامت تحتضن أصغر عرائسها، مصطحبة ابتسامة معذبة، أتخيلها أرملة ضاع منها زوجها في وقت ملتبس.. أبي تتقلص عضلات وجهه، ينزف عرقاً ساخناً، ويهجم عليه الإجهاد، ترتخي كفه في يدي تدلق ماء لزجاً، أذعنت لحاجته للصمت / النوم ..
الوقت صيف وأبي يطلب الأغطية، يلح عليها ، يتدثر ، يهرب، أمي سعدية تأخذني بعيداً ، تهمس في أذني ..
- اتركه فهو يتذكر .
- متى يصحو .. ؟
وانتظرنا حتى آذان الفجر.. تسلل الضياء فضياً يقتل العتمة، يمر عبر بلور النوافذ ويغمر الدار محملاً بندى شفيف، برد لطيف، ورجفة خدر ..
تدوّر الضياء من النوافذ كلها فأضاء.. كان رائقاً، بشرته لينة وجلد وجهه استرخى على راحة عميقة، وقد غادره الإرهاق، عيناه عسليتان صافيتان من احمرار الغضب، وظل ابتسامة تسكن شفتيه.. دخل حالة أخرى.. الوجد هو أم عناق شوق قديم.. / الإمساك بتلابيب حبيبة أولى.. أرهف السمع عند رأسه لعلني ألتقط شيئاً، خيلّ إلى أني سمعته يحاور امرأة كانت يوماً أمي، وما زال يحملها ويحملني بعضاً منها، وأنا ضيعت ملامحها، كل ما تبقى منها طيف ضحكة صاخبة وبخار ماء الحمام، تسحب عمو سعيد عارياً إلى حجرتها تأخذه إلى حضنها حتى لا يصيبه البرد.. وأبي يحملني، يهبط بي لاهثاً بعرج واضح كاد يدحرجنا على درجات السلم .. غابت أمي تلك السنين كلها وأضاءت على لوحة الكمبيوتر في المعبر.
نوال جمعه المفلح بيانات بلا صورة .
عمو سعيد يومض في رأسي لحظة ارتميت على صدر غسان، وانغرس شاربه الخشن في وجهي.. غسان يا أخي الذي لم تلده أمي، يا ابن عمي سعيد الذي خافت عليه أمي من لفحة البرد فأخذته إلى حضنها، تأخذني إلى صدرك العريض.. رتبت أموري في غزة، وعدت إلى جنين، فزت بميراث انتظرك .
سألته وكان صوته على التليفون النقال صافياً .
-سامعني يا رياض .
-سامعك، الصوت واضح .
-أنا بأكلمك من الكرم، المنطقة عالية والفضا خالي .
- كيف الحال عندك ، وكيف أنت وماجدة ..
- ماجدة معي في الكرم، نازلة تحفظني شجرات الكرم، تعلمني كيف أعرف الشجرة من اسمها.. نبالي ، وطيراوي ، وبلدي .
صوت ماجدة وقد خطفت التليفون من يده ..
- كيف حالك يا رياض، متى تزورنا يا خويا ، في الكرم شجرة زيتون سُري جدي جابها من غزة، علشان زيتها ثقيل، غسان بيقول هذه زيتونة رياض. ماجدة تضحك سعيدة، تتيه وجداً . والكرم على سفح مرتفع والفضاء يمتد على أفقه.. أتخيلهما يتناجيان، يقبلها فتسرد عليه أخبار حرب ضروس نشبت يوماً على أرضه..غسان يسألني :
- بعدك ما سمعت صوت أبيك يا رياض ..
لم يعد غسان يقول صوت أبينا، تعرف على أبيه وانتسب .
منصور أبي أنا، وزوج أمك، وأنا وأنت تواطأنا أن لا نقترب من حد الاشتعال حتى لا نحترق.
- حتى الآن باعرف أخباره من ديما وأمك سعدية .
وسعدية أمك أنت وزوجة أبي هكذا قسمت الأمور بيننا، غسان يتنهد .
- أنا قلقان يا رياض، أمي كل مرة بتقول منصور دخل الصمت ولكن حالته تتحسن.. نفسي أسمع صوته .
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |