Alef Logo
ابداعات
              

رواية عودة منصور اللداوي – 7 -

غريب عسقلاني

2010-04-04


امرأة من ذهب

على غير موعد تأتي الأمور في الوطن، وكأن الوطن هو الميعاد .
كنت أشرب الشاي مع محمود أمام منجرته، وكان العصر لطيفاً محملاً بنسيم البحر، فجأة قفز محمود واعترض رجلاً يخب في الشارع، وضع يده تحت إبطه وعاد به إلى حيث نجلس، وكأنه وقع على لُقية ثمينة .
الرجل طويل متماسك يزحف نحو الستين، تقول سمرته إن شموساً حارقة لوحته وسكنت جلده منذ وقت طويل، أخذ الرجل محموداً تحت إبطه بأبوة، فعفل شعره مداعباً .
- صغير على الشيب يا محمود.. ارمِ همها على خالق
- اللي على الدنيا يقاسي همومها يا عم، ما ظل حولنا شيء يسر القلب .
أرهف السمع، وأتَعلم كيف يتبادل الناس الهموم والأشواق والمودة، يختصرون الأمور ولا يغرقون في التفاصيل، إشاراتهم مقدمات كافية، يرسلون صدقا ويستقبلون صدقا، فلا تلتبس عليهم الحالات، ويعيشون أقدارهم بقناعة عجيبة.
نادى محمود على الصبي أن يحضر الشاي للرجل، وغمز لي أن أتواطأ معه بالصمت :
- ايش رأيك في هالشاب يا شيخ الشباب .
تفرسني، عاينني من أخمص قدمي إلى قحفة رأسي, زم عينيه وشخص بعيداً يقلب دفاتراً قديمة، حركات كفيه واشارات أصابعه تقلب احتمالات وتطرد أخرى. ثمة شيء يصعد إلى سمرة وجه ويشع بريقاً وبياض حقيقة. ظل ابتسامة تخلقت في شفتيه. هل أسعفته فراسته فأدركني.. محمود يشفق عليه خذلان الحدس وخطأ الفراسة :
- ابن حبيبك.. ايش ؟ ما فيه شبه من أبوه ..
خطفني، صرت في حضنه، رفعني إلى صدره، بلل وجهي بماء ريقه أو بدموعه، جلس إلى جانبي صامتاً وأخذ يلهث.. أخرس، عيناه تبقان دمعاً، تتحولان إلى الاحمرار وكأنه النزيف.. وقف السؤال بيننا .
من تكون وما الذي كان وما زال بينك وبين أبي منصور اللداوي، حتى تتبدل إلى عجينة آدمية، أرى فيها تموجات لحمك تحت جلدك ؟
قدم الصبي كوب الشاي، لم يمد الرجل يده، تناولها محمود وقدمها له .
- تفضل يا عم أبو يوسف .
لاك حنكه على رغوة حامضة واخترق محمودا :
- عليّ الطلاق ما بأشرب شايك، ولا عمري أمد إيدي على زادك إذا ما كان الغدا عندي بكره.. كيف يصل ابن منصور البلد، وما أعرف أنت ولد عايب .
محمود يتدارك خطأ غير مقصود :
- وعد يا عم نزورك يوم وتكون راضي .
- فشرت, قلت بكره الغداء عندي, سلم على أمك زاهية وقل لها أخوك شعبان عازمنا على الغدا، وإن ما اجيتوا يصلكم الغدا مطبوخ..
حيرة تقافزت بيني وبين محمود، رجل غريب وعرض مفاجئ وأنا القضية وموضوع خلاف ونزاع وعتاب طويل.. محمود يمتثل :
- بكره عندك، أنا مش ناقص زاهية تقلب الدنيا على راسي ..
ارتج شاربه، دلق كوب الشاي حاراً في جوفه دفعة واحدة، ومضى, رأيته يتعثر في مشيته يتأرجح مع طوله المديد، يشاور بيديه ويحدث نفسه، رأيت ضربة شيخوخة مباغتة طالت رأس قلبه.. كيف يرعش رأس القلب إثر ضربة؟! عمتي هبطت بي إلى الأرض وصرخت .
- يا رأس قلبي .. حَـن الدم يا أخويا ورجعت ..
كيف يتعرف الدم على الدم، وهو المأسور في عروقه محكوم بدورته المغلقة يتفرع إلى مساربه، يتوه في الأعماق ويطفو على السطح، ولكنه يمتثل لقدره تحت ضربات القلب، تضخه وتسيره من جديد.. ينفلت عن مساراته عند النزيف ويعلن موتاً أو صموداً أو ارتباك حالة .
هل التبست على أبي يوسف فلم يدركني، لم ألتبس على عمتي زاهية، وهل يؤكد ذلك ما تقوله أم طارق، إنني أخذت عن أمي نوال أكثر مما أخذت منك يا أبي، وأنت يا أبي هل تحن وترفع صوتك بالقبول / الهياج / الاجتياح / الرضى وقد تراجعت دورات سكوتك في الآونة الأخيرة، وأخذت تعود إلى سير قديمة وأوراق بعيدة, فهل تبل ريقي الليلة وتطفئ عطشي، قلبي يقفز إليك ولا يكذب، ستحدثني وبدون وسيط، لا سعدية ولا ديما بيننا الليلة يا أبي .
هذه المرة شعبان بيني وبينك، وأخبار ليلة الاشتباك، والرجل يحتفظ بالتفاصيل، سكنت الصور رأسه، تيبست على فزع وخوف وحذر وموت.. قذفت أنت سيارة الدورية بالقنبلة، وفتح هو رشاشه على الجنود. تتناثر بقوة الانفجار، فيما محمد صالح على سطح المدرسة يراقب ويغطي الانسحاب، نجحت المباغته، لكن مباغتة لم تكن في الحسبان، أطل رتل من حاملات الجنود على شارع النصر، زرعت الأرض جنوداً وأشعلت السماء بفوانيس الإضاءة.. حولت ليل المكان إلى نهار، انسحبت يا منصور إلى حارة المسيحية التي سلمتك إلى سكنة أبي حسان وسربتك إلى المخيم عن طريق كرم مصلحه. محمد صالح غطى انسحاب شعبان الغانم الذي قفز قفزته الطويلة ولكنهم أدركوه، جسده العملاق خريطة رحبة للتصويب، نخروا فخذه ولحم جنبه، زحف يتبعه جدول دم وهدير طائرة مروحية تقذف موتاً ودخاناً خانقاً.
هل تتذكر يا أبي؟.. هل شعبان الغانم يتذكر.. هو لا يعرف كيف انسحبتَ ولا أين اختفيتَ، ما قدره هو أنكَ أخذت طريقك إلى الوكر، لكنك لابد عرفت أنهم تعقبوا خيط الدم حتى أدركوه في بيت جورجيت التي رسمت إشارة الصليب على صدرها وصلّت عند رأسه، صلبوها على الجدار. أخذوه قبل أن تتمكن من ربط جرحه.. فشكرت العذراء كثيراً لأنها سقته ماء قبل أن يهمد ويغيب عن الوعي . قالت عمتي زاهية :
- الله لا يعيدها من ليلة سوداء. بدأ الطخ، والناس تجري ما تدري، نسوان المسيحية وسكنة أبو حسان طلعن بثياب النوم يفزّ عن المخيم .
صمت أبو يوسف ولم يزد .
- حدثني يا عمي .
- أيامها كنا شباب صدورنا حامية، المهم أبوك بعدو عيان ..
استطلعت الأمر من محمود، أومأ برأسه، الرجل يعرف.. لذت بالصمت. أخذني إلى حضنه.
- أهلاً وسهلاً يا رياض.. نوّرت البلد .
عمتي معاتبة تأخذ الحديث بعيداً عن الأوجاع :
- زمان ما طلّيت علينا يا شعبان، ما أنت عارف كل ما أشوفك بأشوفه فيك .
- مشاغل يا اختي، ما هو صبحي رمى حمل الأرض عليّ، معه حق. ايش بدها تجيب لـه الأرض مع شغل المقاولات. والله لولا الحيا مني كان يمكن باعها وخلص منها. حتى هنية انقطعت رجلها وما بتيجي إلا وجايبة معها كبشة نسوان وبنات قال : جايين يتنزهوا ، أسلمهم لأم يوسف وأشرد بعيد . ضحك ونقر الأرض .. وأكمل .
- والله زمن، هنية العالم صارت طبقة ساكنة في العالي، واحنا صرنا فلاحين، أقول لها يا اختي تركتوني مع الأرض حايص ونسيتوني، تعالوا شوفوا رزقكم ، تقول لي انت اللي جبتوا لحالك، عايز أرض تفلح وتقلع مبروك عليك الأرض وخيرها ..
التفت إليّ وقال :
- يا ترى أبوك بيعرف أن شعبان الغانم مزارع مربوط في الأرض.. قم معي وشوف شغل عمك أبو يوسف وأحكي لك كيف صارت البيارة ..
حكاية يا أبي : هل يبقى للغانم متسعٌ من الوقت يروي عليك البدايات. الفصول اكتملت فأخبرني بالبداية وأطراف النهاية .
كان الوحيد المتزوج بينكم، والوحيد الذي أخذه التجنيد الإجباري فالتحق بجيش التحرير تاركاً زوجته تنتظر بكرها.. حدثت النكسة وابنه يوسف ابن عام وسرت إشاعة عن استشهاده في معركة اجتياح المنطار.. ولكن الغانم ظهر حاملاً سلاحه ولم يتركه إلا عندما اعتقل جريحاً وحكم بالمؤبد.. وخرج مع صفقة تبادل الأسرى ليرى يوسف شاباً وأخته خضرة عروساً . وقالت له زوجته التي شيعت أمه وأباه في غيابه :
- يا ابن الناس أولادنا حقهم يعيشون مع أبوهم مثل الناس .
- معك حق يا أم يوسف .
وعندما استوعبت وكالة الغوث المحررين عمال نظافة وحراساً ليلين قال لها .
- يرضيك أدور أجمع زبالة الناس يا بنت الناس .
- سلامة قيمتك يا سبع .
وعز عليه أن يسري مع نجمة الصبح مع العمال إلى إسرائيل، فهو لا يستوعب رؤية اليهود إلا في المقارعة والمنازلة .
وفي يوم زارته هنية فأقنعته أن يعمل مع زوجها، قبل الأمر على مضض، حتى لاحت للدبش قطعة أرض عند أطراف البيارات، عشر دونمات من رمل السواقي الأصفر يغوص فيها الجمل حتى سنامه، تشجع لفكرة تحويلها إلى مزرعة ودار إقامة بعيداً عن الناس .
- أنا براوي يا ولدي ما بأقدر أسكت على فجور الناس وطمعهم. قلت أضب حالي في الأرض. سويت السوافي وجرفت حتى لحقت عروق الطين الأحمر .
خلط الرمل بالطين وقسم الأرض أحواضاً وأرباعاً ومساكب، ربع الليمون مع كساد أسعار البرتقال وربع الجوافا وربع المانجا، وحظيرة دواجن ودفيئة خضار. ودار شهدت ميلاد أطفال حضروا إلى الدنيا بعد يوسف وخضرة. إلى الشرق من المزرعة تمتد المساحات الخضراء . قال :
- شايف البيارة الشرقية، كان لنا فيها وكر نسفوه بعد ما صار أبوك مطارد، عصافيرهم راقبت عمتك زاهية وهنية العالم حتى عرفوا طريقه، فجّروه وأخذوا ناطور البيارة وأولاده ..سألت من تكون هنية العالم ؟ رد :
- هنية واحدة أصيلة، امرأة من ذهب .
لا أدري لماذا اندفعت أسأله :
- ليش ما اشتغلت مع السلطة يا عمي ؟
- ما عاد ينفع، والشغلة مش سداد ودين، وإن كان على حقي أخذته من الناس ومن ستر ربنا. أخذني إلى حضنه، وهمس في أذني يمازحني أو يحذرني:
- السلطة هذه الأيام سلطنة، تركناها للشباب يا رياض، واحنا الختيارية حملنا السلاح وتعودنا ما نشوف يهودي ونسكت ..
يا أبي هل أسمع الليلة صوتك، وطعام أبي يوسف ما زال في فمي، ورائحة عرقه في مسامات جلدي، وأخبار مستورة في عينيه، عن امرأة من ذهب، توقف عندها، ولهج خشوعاً، وصمت .
هاتفت الطبيب، ووضعت بين يديه ما وصلني؛ فارتاح واطمأن لسلامة فروضه، صوته عبر الهاتف انتصر لنظريته وأنت الحالة، طمأنني وأكد أن صمتك لم يعد سلبياً، ولكنك دخلت طور السيطرة على الأزمنه والأمكنة ، وأنك تهرب إلى الصمت طلباً للراحة، وأنك اجتزت محطات كثيرة، وأوصاني أن أتحدث إليك بدون تحفظ، هل تحدثني.. سأخبرك عني هذه المرة، عن أحوالي مع هيفا الأسعد، قدري وميعادي، أحدثك عن البحر وديما التي تطل عليّ كلما وقعتُ على عين هيفا.. تسألني عنك فأعتصم بها منك، يحيرها صمتي، وتتبدى خُضرة عينيها مرجاً فسيحاً.. يأخذنا وشيش البحر، نركض ونعابث أطراف الأمواج العائدة إلى البحر
×××××

نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.

ألف








تعليق



أشهد أن لا حواء إلا أنت

08-أيار-2021

سحبان السواح

أشهد أن لا حواء إلا أنت، وإنني رسول الحب إليك.. الحمد لك رسولة للحب، وملهمة للعطاء، وأشهد أن لا أمرأة إلا أنت.. وأنك مالكة ليوم العشق، وأنني معك أشهق، وبك أهيم.إهديني...
رئيس التحرير: سحبان السواح
مدير التحرير: أحمد بغدادي
المزيد من هذا الكاتب

إطار لصورة رمادية

14-نيسان-2018

إطار لصورة رمادية

30-تموز-2015

مدونات دعبول السلام

13-تشرين الأول-2012

قصة قصيرة / غيمة الدموع

16-أيلول-2012

بلورة المرجان

18-نيسان-2012

حديث الذكريات- حمص.

22-أيار-2021

سؤال وجواب

15-أيار-2021

السمكة

08-أيار-2021

انتصار مجتمع الاستهلاك

24-نيسان-2021

عن المرأة ذلك الكائن الجميل

17-نيسان-2021

الأكثر قراءة
Down Arrow