والبة بن الخباب أستاذ أبو النواس الأول بين الشعر والفجور والفسق ج3
2010-04-09
خاص ألف
انتقال أبو النواس مع والبة وهروبه منه
***
فكل مانشاء منه نغترف رواية ً لا تجتني من الصحف
يروي أبو النواس عن معلمه الذي أطاح به ِ في بادئ الأمر بين المجون والفسق والذي أثَّر به ِ تأثيراً جما ً في نبوغه المبُكر وصقلِ موهبته ِ.. والذي كان له الحجر الأساس في بناء تلك القامة الشعرية . وهذا الشخص الذي يُدعى والبة بن الخباب من أفجر شعراء زمانه ِوأحنكهم باللغة ِ واللسان الطليق !عوضا ً عن أستاذه ِ خلف الأحمر الذي زاده من الأدب والثقافة مما جعله مميزا ً بين معاصريه من الشعراء وأكثرهم باعا ً وشهرة ؟!.
لقد طالما كنا ملاحا ً وربما صددنا , وتهنا , ثم غيرنا الدهر ُ
يقول أبو النواس :
كنت ُ أشتغل صبيا ً في دكان عطار يُدعى الحسن بن سليمان وكنت جميل الصورة والمظهر حسن الوجه وناعم الجسد رقيقا ً وجذابا ً ؟! وكانت أمي "جلبان " قد جعلت من بيتها مباءة ً للعشاق والفجار والرذيلة ؟! فهجرت لبيت الحسن بن سلمان وأقمتُ عنده , فعاملني معاملة الوالد ِ لابنهِ
وكان معي حميما ً عطوفا وكان حبه لي حبا ً عفيفا ً . وفي يوم من الأيام جاء رسول من (( أبي بجير الأسدي )) حاكم الأهواز ودعاه ُ إلى العمل في داره ِ فأخذني معه وهناك التقينا بوالبة بن الخباب وهو ابن عم الحاكم . وكان قد جاء إلى الكوفة ليزوره ويطلب رغده . فلما رآني أحبني وأدناني منه . وكنت أميل إلى الشعر وقتها وأسمع اسم والبة يتردد على الأفواه وكنت أحفظ الكثير من شعره ِ ولم أكن أعرف شخصه , فلما عرفته أقبلت ُ عليه ِ بكل جوارحي , وصرخت ُ من الفرح وقلت له أنا والله جعلت ُ فداك َ في طلبك فاطلب مسيري معك حيث تشاء ؟؟!.
وقد اتفق معي على أن أصحبه إلى الكوفة على غفلة ٍ من الحسن العطار !!. لقد أغراني بعد أن قال لي : إني أرى فيك َ مخايل فلاح وأرى لكَ ألا تضيعها وستقول الشعر فاصحبني ))
سألني والبة لماذا تطلبني ؟ فقلتُ : شهوة للقائك ولأبيات ٍ سمعتها لك . فقال لي وما هي ؟
فأخذت ُ أنشدها :
ولهـا ... ولا ذنب لها حبٌ كأطراف ِ الرماح ِ
جرحتْ فؤادكَ بالهوى فالقلب ُ مجروح النواحي
ويقول مضيفا ً ذهبنا إلى الكوفة ونزلنا في منزل محمد بن سيار بن يعقوب . وكان عنده قيان يغنين . ومجلس شراب استمر حتى الصباح وأعجبتني عنده إحدى العازفات فقلت فيها هذه الأبيات :
حامل الهوى تعبُ يستخفـه الـطرب ُ
إن بكى يحق لـه ليس ما بـه لـعب ُ
تضحكين لاهيـةً والمـحب ينتـحب ُ
تعجبين من سقمي صحتي هي الـعجب ُ
وفي اليوم التالي جاء جمع ٌ كبير من الشعراء فقال لهم والبة :
(( كنت ُ نائما ً أمس , وأبو النواس إلى جانبي إذا أتاني آت ٍ في منامي وقال : أتدري من هذا النائم إلى جانبك ؟ . قلت ُ : لا . فقال : هذا أشعر منك . وأشعر من الجن والإنس . ؟!
أما والله لأفتننَّ بشعره المشرق والمغرب . فعلمت ُ أنه إبليس .. فقلت له : فما عندك ؟ قال عصيت ُ ربي في سجدة ٍ فأهلكني . ولو أمرني أن أسجد لهذا ألف سجدة ٍ لسجدتُ )) !
* في قصر الخليفة السفاح *
يروي أبو النواس عن والبة :
بعدما قتل محمد العلوي تولى الحكم بعده محمد ابن عباس بأمر الخليفة أبي جعفر المنصور ...
وكان محمد بن أبي العباس سفاحا ً بكل معنى الكلمة في صفاته ِ وأحكامه ِ وقد عرف بين العامة سرا ً وجهرا ً بالسفاح .
جاء الأمير الجديد ومعه جماعة من الشعراء بينهم حماد عجرد ووالبة وكان الناس يتحدثون عن الأمير وعن نزواته ِ وعن إفراطه ِ في الشراب ومجالسه ِ التي تغني فيها القيان وترقص الجواري وينشد الشعراء ما ينظمونه في مدح الأمير , ووصف الخمر , والتشبيب بالغانيات , وكنا نسمع عما يجري في هذي المجالس من زندقة ومجون وفسق . وكيف أن الأمير كان يُعطي الشعراء والمغنين والراقصات بلا وعي ولا حساب .. كان يحب زينب بنت سليمان . وكان يريد أن يعبر عن حبه ِ لها بالشعر . ولكنه ليس بشاعر . فكان يعقد مجلس الأنس والشراب كل ليلة . وأمامه زينب وحولها الجواري يرقصن , والقيان يغنين , والشعراء يجهدون قرائحهم للتعبير عن عواطف الأمير .. فإذا نظم أحدهم شعرا ً أعطاه لمغني الأمير . وكان اسم مغني الأمير ( حكم )
وكان حكم يغني للأمير ما ينظمه حماد ووالبة وبعدما تدور الكؤوس والرؤوس يقف الأمير وكان طويلا ً عريضا ً قويَ البنية , يترنح ذات اليمين والشمال , ويضرب الأرض برجليه ويصيح :
يا حكم إن أطربتني أعطيتكَ كل الهدايا التي تلقيتها اليوم . وكان دائما ً يغدق بالعطاء لوالبة وحماد وحكم .
إذا نحن أثنينا عليك َ بصــالح فأنت كما نثني وفوق الذي نثني
وإن جرتِ الألفاظُ يوما ً بمدحة ٍ لغيركَ إنساناً ..فأنت الذي نعني
يضيف :
أقمت ُ مع والبة في بيت واحد . وكان بيته مؤلفا ً من ثلاث غرب . خصص لي إحداها . وكانت تخدمه سيدة عجوز تمت إليه بصلة القرابة . وكان يعاملني كما لو كنت ُ أخاه الصغير . وقد دامت صلة الأخوة سبعة أيام فقط !.
وقد كان والبة حريصا ً على ألا يعرف أصدقاؤه شيئا ً عن علاقتي به ِ . وقد بقيت ثلاثة أيام لا أظهر معه . وكان أهل الكوفة يتساءلون كلما رأوني : من هذا الشاب الغريب ؟
وكثيرا ً ماسئلت ُ من أي بلد ٍ أنا ؟. ولماذا أنا هنا ؟ . وكنت أزعم بأني ابن تاجر ٍ من البصرة وجئت الكوفة لشؤون تتعلق بتجارة ِ والدي .
وفي أحد الأيام طرق باب منزلنا الشاعر حماد عجرد وبصحبته ِ مطيع ابن إياس ويحيى بن زياد الحارثي . وفتحت ُ لهم الباب , ولما رأوني استغرقوا في الضحك ! ونادوا بأعلى أصواتهم :
اخرج لنا يا أبا أسامة . وكان والبة يُكنى بأبي أسامة . فخرج والبة إلى ضيوفه ِ فلما رآهم تبادل معهم الضحك . عندها أدركتُ أن والبة أفهمهم في الأمس أنه سيعتكف في البيت لشعوره بدوار في رأسه .. فلما جاءوا ليعودوه أدركوا أنه تخلص منهم ليكون لي وحدي وأكون له وحده !
وجاء في مسمعي صوت أحدهم عرفته عندما دخلت إليهم أنه حماد ؛ أخذ يقول : لقد عرفنا الآن أنه ليس عندك دوار .. ولكن عندك هذا ... ومد سبابته تحوي ! وقد غضبت ُ من هذه المداعبة , وتركتهم ولزمت غرفتي فجاءوني ومعهم والبة وقالوا إن غضبي عزيز عليهم , ولم يغادروني حتى رضيت ُ نفسي , وزال غضبي .
وفي اليوم التالي سهروا في بيت والبة , وقد أحضروا قنينات الخمر , والنبيذ ومختلف الأطعمة وبعض المغنين والجواري والغلمان , وأخذوا يشربون , ويرقصون , ويغنون حتى الصباح . ولم أشترك معهم في الشراب . وكانوا يرمقونني بنظرات ٍ غريبة .. لم أفهمها !
فتــمشت في مـفاصـلـهم كتمشـي البــرء ِ في الســقم ِ
جاء اليوم التالي من سهرتهم الماجنة واصطحبني والبة معه إلى منزل محمد ابن سيار بن يعقوب , وقد أعدَّ مجلسا ً فيه القيان والجواري والمغنون وأصحاب والبة من الشعراء والزنادقة . وكان بين الحاضرين ابن صاحب المنزل , فاسترعاني جماله . ونظمت ُ فيه شعرا ً جميلا ً كوجهه ِ :
***
خُلقتَ في الحسن ِ فردا فما لحسنـــك ثان ِ
كأنمــا أنت شـيء ٌ حوى جميــع المعـاني
***
وأخذ الجميع ينشدون هذه الأشعار, ويغنونها وكان صاحب البيت وابنه مبتهجين بأشعاري, وبعد الليلة ذاع اسمي في سائر أنحاء الكوفة.
خرجت أحد الأيام وحدي في الطريق . واختلطت ُ بالناس فلاحظت ُ أنهم يتهامسون ويتغامزون . وسألني أحدهم : كيف حال الحبيب ؟ . فسألتهُ : من هو الحبيب ؟ . فقال : أبو أسامة .. !
فهممت ُ بلطمه ِ على وجهه , وحال الناس بيني وبينه . وقال لي شيخ ٌ كبير وقور .. يابني من وضع نفسه موضع الشبهة فلا يلومن إلا نفسه .. ووالبة شيخ ُ الزنادقة والفساق وقد عشت معه في بيت واحد فاعذر الناس إذا ظنوا بك الظنون .
ولم يكن بيني وبين والبة ما يخدش العفة . ذهبت ُ مسرعا ً إليه وأخبرته بما يُقال بين العامة من الناس . فطلب مني ألا أغضب ودعاني مسترضيا ً غضبي إلى رحلة لمدة يومين إلى بلدة ٍ صغيرة تدعى (( طيرناباذ )) وهي تقع بين الكوفة والقادسية . ذهبنا وحين وصولنا دخلنا إلى دار امرأة عجوز كان يدار عندها الشراب , وكان يقوم على خدمتنا فتاة ٌ تضع على رأسها قلنسوة ً تخفي فيها شعرها فبدت كأنها غلام . حاولت أن أداعبها فنهاني والبة عن ذلك وقال :
إذن ... ما أصنع أنا هنا ؟
فقلت ُ : هل تريدها ؟
فقال : بل أريدك أنت !!
ولما لاحظ دهشتي وخوفي قال لي أنني أمزح معك , لا تخف . افعل بالفتاة ما شئت , لكن لن تستطيع فعلَ شيء ٍ يُذكر دون أن تشرب كما أشرب أنا ... وكان قد شرب كوزين وشربت أنا كوزا ً واحدا ً . وكان الكوز يسع رطلا ً !!
وكان والبة قد اتفق مع الفتاة أن تملأ كوزي كلما شربت منه على غفلة ٍ مني . وقبل أن تلعب الخمرة برأسي كانت قد لعبت برأس والبة فقال لي :
ـ هيَّـا , لا تضيع وقتنا ...
فنهرته بشدة ٍ ... فما كان منه إلا أن استل سكينا ً من بين ثيابه ِ وقال لي :
ـ إما هذا ... وإما هذا ...؟!
فقلت ُ : اذبحني ... فقام من مكانه ِ وقبَّل جبيني وبكى .. ثم حاول أن يسترضني !
فقلت : له أن الناسَ في الكوفة محقون بما يتناقلون على ألسنتهم وبظنهم بكَ وبي !
وهذا ما تشيعه أن بين أصدقائك من فجار وشعراء وزنادقة ؟!
هزَ رأسه وقال : المساكين سيذهبون إلى النار بكذبهم وكلامهم المزيف !
ثم ضحك وأضاف : لماذا لا ندخلهم الجنة , بأن نجعل كذبهم صدقا ً ... فأنشد هذين البيتين :
قم بنــا يا نـور عيــــني نجعـل الشــكَ يقينـــا
فإلى كـــم يا حبيــــبي يـأثــم القـائلُ فيـنــا
يتبع ... أحمد بغدادي
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
15-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
03-نيسان-2021 | |
27-آذار-2021 | |
06-آذار-2021 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |