رواية منصور اللداوي – 9 -
2010-04-25
خاص ألف
يا أبـي
أبحث عنك قبل أن تكون أبي، تقفز، أتوه عنك في دروب لم تعد دروباً وقد مر الزمان، وطال وجه المكان في أكثر من جهة، تضيع مني وترجمني بالأسئلة.. مقاديري معك تسعى إلى مواعيدها، وحملي ثقيل.. وغسان أخي -الذي لم تلده أمي, ولا كنت أنت أباه- مشغول بأهله وأرضه, ونتف ميراث تركها جده وتوزعت بين أفراد العشيرة في يعبد، يؤجل فرحه ينتظر الموسم، وموسمه يوم تعود أمه لتقيم ليلة الحناء، وتفتح بوابة الفرح ليلة الزفاف..
تجهدني الأسئلة، أهرب إلى البحر.. وأضيع في فضاء هيفا التي تلتقط دموعي قبل أن تغلق بياض عينيها.. هيفا يا أبي تمكنت مني وصارت تقرأني وحملتكَ أمانة وسر، تلهث في فك رموزه.. تعود لي بنتف تبل الريق أحياناً، وتدخلني في الدوامة أحياناً كثيرة.. ظل حكاية قديمة توارت في الأذهان تحت عجلات الحياة، بعد ثلاثة عقود تناوبت على الوطن نوائب وأحداث وحكايات كثيرة، اختلطت فيها تفاصيل، وضاعت أفراح وأحزان، والحياة مستمرة تفرخ أيامهاً وأناسها.. يسمعني حاتم السدودي، يلتقط شواردي, يفاجئني بأزمنة وأمكنة وأناس ذهبوا وآخرين ما زالوا أحياء.. ألقي ما توصلت إليه في حجر أبي يوسف، يسعفني أحياناً ويلتزم الصمت في معظم الأحيان، يلتقط دموعي في عين فؤادي؛ فيأخذني إلى حضنه..
- مالك أنت وخطوات ماتت.. يا ولدي لا تبحث في خطى غيرك حتى لا تحمل خطاياهم.. احمل هموم أيامك القادمة يعينك الله عليها .
أطلب منه تفسيراً عن تحاشي عمتي زاهية الاقتراب من سيرة هنية العالم، يختصر الأمر ويغلقه :
- هنية امرأة من ذهب، قلبها لا يعرف الحقد ..
- خذني إليها ..
يصمت وينقر الأرض.. يفور دمه احمراراً في عينيه.. ينظر في الأفق ويتأفف .
- لا تفتح جرحاً قديماً ..
وامرأة الذهب تعلقت بك وأعطتك قلبها، دارت في مدارك، وما دارت انحيازها إليك، دخلت بك السجن وخرجت منه حكاية المخيم، تقبض على سرها.. وعمتي زاهية تصيبها البلبلة، ويحاصرها الخوف، تقصف روح الكلام تعوذا من إثم أو حرام.
- يا ولدي اترك هنية في حالها، كفاية اللي جرى لها من أبوك.
ما الذي كان بين عاشقين، الوطن هاجسهما والمطاردة، مدارهما، طُوردتَ يا أبي واخترت الإبعاد القسرى والمنفى، ضيعت خطواتك.. انقلبت أقدارك رأساً على عقب, وسُحبت هي إلى السجن متهمةً بك..
- الستر يا ولدي ، الله يحمينا من المخبأ في بطن الأيام ..
- كيف علاقتك بها يا عمتي ..
- أنا ايش يوصلني لها.. هنية في العالي، وزوجها الدبش رجل قد حاله.. آخر مرة شفتها في عرس أبوك يومها رقصت مع سعاد الهندي، ومع جدتك أم منصور وما رضيت ترقص معي، قلت ويمكن علشان ابني محمود كان في الصمدة عريس، حتى نقوطها أعطته للعروس.. يومها يا بني قلت معها حق..
أي حق يا منصور اللداوي لهنية العالم في رقبتك .. ؟!
والليلة بداية النهايات فهل اقتحمك بها .. ؟ !
البارحة أخبرني الطبيب وكان منتصراً، وخط الهاتف الدولي امتثل لانتصاره خشوعاً وصفاءً، وصلني صوته وكأنه يجلس معي.. قرر الطبيب يقيناً بأنك اجتزت حالة النكوص، واستنفذت فرص الهروب، ولم يعد الصمت ملاذاً تلجأ إليه وبخاصة بعد وصولي إلى الوطن.. وطلب مني أن أساعدك على ترتيب الأزمنة والأمكنة لأن غساناً نأى عنك وتوارى وبخاصة بعد مغادرته غزة إلى جنين.
كلفنى الطبيب بالإمساك بحياتك البعيدة قبل أن تغادر الوطن، وقبل أن تكون في حياتك نوال وسعدية وديما وغسان..
ما الذي فعله الطبيب بي؟ لم يرسم لي خطة اقتحامك, ولا أنصت لما في جعبتي عنك، لأنه سمعها أكثر من مرة وسجلها وأعاد ترتيبها واستفاد منها بقدر ما استطاع..
لم أنم.. صافحت وجه الفجر صاحياً أقلب احتمالات الانفجار بيننا، هل سأسمع صوتك وأنا الذي انقطعت عنك لأكثر من شهر امتثالاً لتوصيات الطبيب الذي أدرك حاجتك إليّ وجوعك إلى أخباري إذا نأيت ..
والليلة تأتي الأمور إلى ميعاد مقدر .
مباشرة وبلا وسيط بيننا، صوتك يقبلني، أنفاسك في الآلة الميتة حية، تلفحني ، تشل لساني ..
- ألو .. مين معي ؟
أخرس أنا.. لساني ميت في فمي .
- أنا أبوك يا رياض.. مالك يا ولدي ..
أنت الصوت وأنا البكاء، تسألني عن أحوالي.. أبكي، تسألني عن غسان.. أبكي، وتسألني عن عمتي زاهية فنبكي معاً.. لا وسيط بيننا الليلة.. همهمات سعدية وديما ظلال فرحة.. أنت ترمي الأسئلة الملهوفة وأنا أرضع البكاء، أزدرده طعاماً شهياً.. خائف أن تفر إلى الصمت، أتعلق بصوتك حبلاً سرياً يأخذني إليك.. كان خيط الهواء بيني وبينك أقوى من مرس المراكب المشدودة إلى مراسيها في أرصفة الموانيء، وأصلب من أسلاك الصلب في بنايات الأبراج التي تنطلق يومياً من رمال غزة.. الطبيب في رأسي يحرضني عليك.. يقرعني..
- بادره بالهجوم، لن ينكص، أقذفه بمفاتيح البوابات البعيدة، أضربه بالأزمنة والأمكنة، والأحداث والناس.. غالطه حتى يمسك بتلابيب الصواب.. هاجمه ليكون المستَفز المتحفز للنزال..
الطبيب يا أبي يخطط لاشتباك بيننا.. يستعجل نتائج بحثه وإعلان نظريته في مؤتمر علمي ينعقد قريباً.. فهل أبدأ جولتي وأنا أسمع صوتك بعد طول غياب.. ولكنك فجأة توقفت عن الكلام.. يصلني لهاثك، هل نكصت.. صرخت :
ـ تعرفت على محمد الغانم ورأيت لحمه المنتوش في خاصرته وفخذه، واصطحبني إلى الوكر، وشجرة برتقال أبي سرة ما زالت وما زال اليقطين يعرّشها.. ولكن لا وكر في حضنها ولا ناطور على قيد الحياة.. أولاده وأحفاده تحدثوا في حكايات قديمة ..
- كيف أحوال الغانم يا رياض ؟
- رجل يدرك الدنيا، ويعاف السلطة ويخشى السلطنة، سلطته عقله وخبرته بالناس ..
- تخفف من همومك أمامه ولا تخشى شيئاً، يرشدك ويحميك .
- وعمتي أم محمود تخاف أن يدركها الموت قبل أن تزور قبر الرسول .
- أعطها مصاريف الحج إن كانت معذورة ..
- ادخرت حجتها قبل أن يتزوج محمود، وكانت تتمنى أن تحج في معية زوجها، والآن تتمنى أن تحج في معيتك .
- إن شاء الله أقدر وأحج معها ..
- وهيفا .. ؟
قاطعني وكان منشرحاً، رأيته يضحك من قلبه :
ـ أيوه يا ولد.. لحقت تحب في الوطن ..
- هيفا تعرف عنك أكثر مما أعرف أنا، وتضن عليّ حتى تلقاك .
- لغز هذا أم سؤال.. المهم هي بتحبك مثل ما انت واقع فيها..
- لا سؤال ولا جواب، هيفا بنت مسعود الأسعد وأمها سعاد الهندي ..
خط الهواء بيننا صار زوابع ولكنه سرعان ما هدأ إلى ريح لطيفة وديعة .
- سعاد عندها بنات حلوات مثلها ..
بكى.. ارتشفت دمعته أو هكذا خيل إليّ.. واكتفيت ..
تمددت على فراشي وكنت مجهداً، وكأني خارج من جولة مصارعة.. هل كانت معركة كما أراد لها الطبيب الذي ينتظر على أحر من الجمر، اتصلت به وكان الوقت متأخراً فاجأني .
-أيوه كيف كان اللقاء .. ؟
- رد على مباشرة ..
- هذا ما كنت متوقعه، بل ومتأكد منه .
- حدثه عن أحوالي وعمتي وهيفا، ولم أقترب من هنية والدبش.
- لا بأس، أقذفه بهما في المرة القادمة .
- هل أبدأ في إجراءات عودته إلى الوطن .
- سوف يخاف من الفكرة ولكنه لن يرفضها.. مهد للأمر مع سعدية وديما، وأشرك عمتك زاهية في الأمر ..
- هل يعود ؟
- ليس له غير ذلك .
سأبشر غسان وعمتي زاهية ..
وغداً سأمضي خفيفاً إلى أبي طارق ـ ومن لي غيره ـ للبدء في إجراءات عودتك وتثبيت رقمك الوطني ..
أما سعدية وديما فتعبران إلى الوطن بتصاريح زيارة، يستقدم غسان أمه زائرة إلى جنين، وأستقدم أختي زائرة إلى غزة..
كيف أزف فرحتي إلى هيفا والليل يزحف إلى ميلاد الفجر.. وبروده رهيفة ينفثها بطن العتمة تسبق دفء شمس بكر..
××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |