الإبداع بين العرض الوصفي والنقد البليغ
2010-05-04
علي الوردي
كتب لونجانيوس وهو كاتب عاش في القرن الأول الميلادي في مؤلفه " سمو البلاغة": (التضخم والنفخة هما شرّ سواءا في الجسم أم في اللغة, وهما زيف يهدد بقلب أهدافنا إلى ما يعاكسها. ويقال إنه ما من شخص أكثر جفافا من رجل مصاب بمرض الاستسقاء. وحين تكون النفخة الكذابة في تجاوز حدود السمو البلاغي تكون الحصيلة عيبا يلقّب بالسخف, وهو الطباق المباشر للسموّ البياني لأنه يمثل منتهى الدناءة والضعة. وهو في الحقيقة أحقر رذيلة يتصف بها أسلوب). ويقول في موضع آخر (يمكن القول إنّ هناك خمسة مصادر رئيسية للّغة الرفيعة, وموهبة الحديث هي الأساس المشترك الذي لا غنى عنه لكافة هذه المصادر. أما أهمها فهو المقدرة على تكوين آراء عظيمة. ثانيا الانفعال المتوقد الملهم. والقسم الأعظم من هذين العنصرين من عناصر البلاغة فطري, أما ما تبقى من هذه العناصر فهو ناتج جزئيا عن الصنعة الفنية المدروسة. إنّ تكوين الصور المناسب يتناول نوعين منها: أحدهما يتعلّق بالأفكار والآخر بالتعبير, ويلي ذلك اللغة البليغة التي تتضمن بدورها اختيار الكلمات واستعمال المجاز ثمّ دقة الألفاظ. أما العنصر الخامس الذي هو الخاتمة المناسبة لكل ماسبق فهو المقدرة الإنشائية الرفيعة الجليلة). فأين ذلك كله مما نراه على الفضائيات وما نسمعه ونقرأه من المبدعين... لا نجد سوى شكوى دائمة من الكثيرين, سواءا كانوا كتابا أو شعراء أو فنانين أو من المشتغلين بأي مجال فكري آخر, ومفادها أنْ ليس ثمّة نقد حقيقي ولا نقّاد حقيقيون موضوعيون, وجلّ ما تطرحه الساحة الفكرية عرضا وصفيا محايدا في أحسن الأحوال. أو صورا إنطباعية أو مجاملات بدافع المحاباة بسبب المصالح المشتركة مرة أو المناكفة وتصيّد الأخطاء والعثرات أخرى. وغالبا مايثار الجدل ويستعّر أواره عندما يكون الحديث عن جوائز تمنحها هذه الجهة أو تلك لنتاج ما. فترفع من شأن هذا وتبخس ذاك حقه وفرصته وليس هناك من حَكم يلوذ به منْ كان بالجائزة جديرا وبالتقييم قمينا, فتكتمل دائرة اليأس وتنغلق على الشكوى الدائمة. ولا ندري هل إن مانقرأه نقدا للأثر أم هجوما على صاحبه. فأين النقد الحقيقي من هذا كله؟ وهل صحيح الدعوى التي تقول, ليس هناك نقد ولا نقاد حقيقيون في العالم العربي؟ وهل يمكن تجاوز المدارس النقدية القديمة بإدعاء البحث عن جديد المناهج أو إبتكارها؟ من المعروف إن الذين يلزمون أنفسهم بمنهج نقدي معين غالبا مايكونون عرضة للإتهام بالنظرة الأحادية وتبني وجهات النظر المسبقة. أو الإستسلام للكسل العقلي الذي لايعيد تقييم وجهات النظر السابقة, بل يتخذها مسلمات لايرقى إليها الشك.
ما قادني للحديث عن النقد هو حوار جرى بيني وبين أحد الأصدقاء الذين يرون فيما كتبه الراحل علي الوردي عن المجتمع العراقي أكثر عمقا وتفصيلا مما كتبه حنا بطاطو, وكان سؤالي الذي لم يجد لدى صاحبي آذانا صاغية, هو ما المنهج الذي استخدمه علي الوردي في دراساته؟ أنا أعلم تماما ما كتبه حنا بطاطو في مقدمة دراسته, من إنه يستخدم فيها منهجين الأول, المادية التاريخية, والثاني منهج عالم السوسيولوحيا ماكس فيبر. أما علي الوردي فلم يشر إلى أي منهج بعينه. فلا نرى في كتابته إلا حديثا مرسلا. ووجهات نظر شخصية. وإن كان يغوص بالتفاصيل. وبالعودة للحديث عن الإبداع والنقد, لفت نظري ما وجدته في دراسة عما يتوجب على الناقد عمله, يقول ر.ب. بلاكمور في دراسة له بعنوان (عمل الناقد) "إن النقد كما افهمه, هو الحديث الصريح لإنسان هاوٍ. ويصبح هذا الحديث فنا مكتفيا بذاته عندما يتجسد فيه الحب والمعرفة الكافية, إلا أن هذا الإكتفاء الذاتي لا يجعله فنا انعزاليا على الإطلاق. ويظل يشهد بإستمرار في حياته الخاصة, اعتماده المتبادل على الفنون الأخرى, ويبسط من الخارج تعابير ومتوازيات للتذوق يجبر نفسه على ألفتها. ويسمّي وينظّم ما يعرفه وما يحبه, ويبحث مع كل دافع أو إنطباع جديد إلى ما لا نهاية, عن أسماء أفضل وترتيبات أكثر تنظيما, وبهذا المعنى فقط يكون الشعر, أو أي فن آخر, نقدا للحياة. فالشعر يسمّي وينظّم, وبذا فأنه يقبض على زمام موضوعه ويثبّته على شكل له حياته الخاصة المنفصلة دائما والنابعة من الحياة التي تواجهها. إن الشعر هو الحياة بعد أن يضاف إليه الشكل والمعنى. ولا أعني الحياة التي نعيشها, بل حياة محددة ومحاطة بإطار. وهكذا فإن نقد الشعر إذا لا بد أن ينصّب حالاً على التعابير والأساليب التي استعملت في نقل الحياة, ثم العلاقة بين المضمون والشكل, وهي علاقة غامضة, مع إن التعبير مألوف للقراء. وأعني بذلك العلاقة بين تأسيس القيم الإنسانية أو الخلقية وبين تقييمها. إن هذه المحاولات التي نرغب بمدحها ليست الوحيدة من نوعها أو في جودتها, كما إنها ليست تامة. وهي جميعا لا تصل إلى نتيجة إلا من وجهة نظرها الخاصة وتحيزاتها الماضية. ولنقارن بين وقائع مختلف المحاولات ساعين إلى التحقق من وجود الرواسب, رواسب المبدأ لا الوقائع. إن محاولات تناول العمل الرئيسي للنقد أو التهرب منه, تماثل في تعددها تعدد البدع الدينية في الكنيسة. وهي مثلها تعبر عن الحاجات العرضية والتعصب المذهبي والاهتمام الخاص أو الكبرياء العقلية. وكلها, حتى أسوأ ما فيها, تنساب من كتلة الإستبصار ذاتها, وتنيرها لنا. وكل ناقد, ككل معلم لاهوت أو فيلسوف, مجبر على حل المشكلات رغما عن أنفه. وهو يلجأ, كي يتجنب أي انقطاع في المعرفة أو يتغلب عليه, إلى بدعة يجعلها مسيطرة, بل ملتهمة لكل شيء سواها. يبدو إن الأسلوب العقائدي في التعبير هو الأسلوب الوحيد الممكن بالنسبة لمعظم العقول بمجرد أن ترى العقيدة وتعتبرها متممة للإستبصار. وعندما تترنح هذه العقيدة في يوم من الأيام يبدو وكأنها ستسقط في هوة من الحيرة, ولا يجازف بالسقوط معها سوى القليل من العقول, ومعظمها يتمسك بالبقايا, ويقسم إن البناء لا يزال قائما, في حين تكون العقيدة قد تحولت إلى مذهب تعسفي لا يحتمل إلا إن الجميع يسقطون بالرغم من ذلك. وبما إن المعرفة في حد ذاتها هي خروج من فردوس المشاعر المختلطة, كذلك فكل قاعدة من المعرفة يجب أن تخر هاوية بمجرد أن يثقل كاهلها بوزن كبير, وبمجرد أن تبتلع كل شيء وتتظاهر بكونها قادرة على كل شيء وباختصار, بمجرد أن يفهمها متبعوها حرفيا ويطبقوها. فالمعرفة الحرفية هي معرفة ميتة, والوقوع في أسوأ انواع الحيرة بالنسبة لآي عقيدة هو أفضل من موتها. على إننا يجب أن لا نتخلى عن أي شيء أو قاعدة من المعرفة لأن بعض الأيدي السيئة أو اليائسة تجازف في إستعمالها حرفيا. ونحن نعتقد أن المجازفة واجبة في استعمال أي فكرة تبدو مناسبة أو مساعدة في تخطي الثغرات".
النشر الورقي جريدة الاتحاد
النشر الألكتروني خاص ألف
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |