رواية عودة منصور اللداوي -10 -
2010-05-05
هنية العالم
على التليفون تغنجت سعاد وتدللت، صبية عاشقة شهيتها مفتوحة للحياة، جرجرتنا إلى رعونتنا الأولي.. خطواتنا في الدروب.. ياه يا سعاد كم ضيعتنا غزة ووزعتنا، كلاً في طريق، وها نحن نعود.. هل نقتل السنين وقد شاخت فينا النفوس ؟
تقفز الحكايات نقية مثل بكارة أعمارنا، نتعاطاها ونحن نساء مجربات خبرنا الأزواج وعرفنا عوالم الرجال.. انداحت سعاد ثرثارة راغبة، تدفع أشواقها مثل حملان تنتشر في المراعي والوقت ضحى.. قلت لها حاسدة :
- ايش شايفة اليوم، ايش عامل فيك مسعود أبو العيون السود..؟
- مسعود ايش ناقصه؟ مكيّف .
- ايش الحكاية ؟
- عريس لهيفا، أنتِ عارفة الواحدة لها فرحتين، يوم عرسها ويوم عرس أولادها .
- مبروك، ومين اللي أمه داعية له .
راوغتني وألقت ألغازها..
- العريس أنتِ بتعرفيه وما شفتيه ومش ممكن تتوقعيه .
لهاث سعاد يصلني عبر التليفون.. من يكون العريس اللغز، سعاد الطيبة لا يهون عليها بلبلتي .. خلصتني من الأحجية .
- مَن كان يتوقع أن ابن منصور اللداوي يطلع علينا ويتقدم لهيفا، شوفي القسمة والنصيب..؟!
مرعوبة صرخت :
- لا يا مجنونة.. هيفا مش حمل الغدر.. هيفا بريئة ..
شيء طرق صدري، فقأ قلبي، أخذ أنفاسي، رجني، وقعت على الأرض، معدتي تزوم تطرد هضيمها إلى سقف حلقي ثم تسحبه ثانية، غثيان كالذي أصابني بعد انقطاع الدورة الشهرية لأول مرة، دوار دار بي وأطاح برأسي, قصفه ودحرجه في الهواء.. غبار قاتم .. مغص يقطع أحشائي ولا قيء .. وسعاد تصرخ عبر سماعة التليفون تستغيث بي :
- ردي يا هنية.. حرام عليك.. ماله ابن منصور اللداوي .. ؟
سحابة رمادية علقتني ما بين الأرض والسماء ثم هبطت بي، على فرشتي في حجرتي في المخيم.. وأبي يفترش الأرض كعادته عند عتبة الدار، يسرب حبات مسبحته من بين أصابعه ويتمتم بآيات من القرآن الكريم ..
غاب دم الحيض للمرة الثانية، وهجمت على الدوخة وتكالب عليّ القيء، قالت أمي الأمر برد طارئ، وأوصتني بالغطاء ليلاً وتدفئة فم المعدة، ولكنها سرعان ما حامت مع وساوسها.. عيناها تسألان ولسانها مربوط في فمها..
قلت لمنصور :
- أمي تتفرس وجهي، وتراقب حالاتي، لازم نبحث عن حل ؟
هدأ من قلقي.. كز على أسنانه :
- مش وقته يا هنية .
رقدت عند رأسه في عب الشجرة قرب باب الوكر ، كان يغط في نوم عميق، تنفسه هادئ رتيب، قدرت أنه يحلم، ظل ابتسامة سكنت شفتيه.. قبلته أخذت الابتسامة من فمه.. زم شفتيه تأففاً ورحت أطرد عن رأسه الذباب وأهش ذكر نحل هارب من أمام دبور أصغر، دخلا عب الشجرة, فتح منصورعينيه فوجئ بي :
- شافك أحد ؟
- لا ما شافني أحد.. ايش عملت في موضوعنا .. ؟
وأشرت إلى بطني، تبعته إلى الوكر، تعلقت برقبته، كان صدره بارداً، لامست ارتجاف لحمه، همست في أذنه :
- ابننا يا منصور .
أبعدني عنه وقال بصوت صارم حازم :
- تخلصي منه ..
خربشت وجهه.. صرخت :
- مستحيل ايش أعمل.. وين أروح ؟!
- اتركي الأمر لي.. أنا بأرتب الأمر من دكتور صاحبي .
أحسست بأنه يقتلني ويشهد الناس على فضيحتي .
ـ انت عارف ايش معنى اللي بتقوله.. أني أقتل ابنك وابني.. مستحيل .
وانطلقتُ خارج الوكر.. ارتطمتُ بمحمد صالح الذي وصل المكان على الصراخ، وقفتُ بينهما مستجيرة. فوجيء منصور بوجوده قال :
- أشهد يا محمد أن هنية زوجتي على سنة الله ورسوله
أخذني إلى صدره ومسح دموعي.. قال :
- نقرأ الفاتحة ..
بصق محمد صالح على الأرض، وعاد أدراجه، اختفى بين الأشجا ، وسحبني منصور إلى الوكر، طرحني على الأرض، تلاهثنا، وتلاصقنا عاريين، كنا زوجاً وزوجة ..
وبعد أيام استشهد محمد صالح، واختفى منصور، رحت أبحث عنه كالمجنونة في الحواري والأزقة.. انتظرته في الوكر نهارات، حفيت أقدامي وأنا أدور حول سياج البيارة دون جدوى .. بطني تتغير أحواله، الخوف والإحساس بالفقد والضياع.. اختفى منصور، واستشهد الشاهد الوحيد على زواجي وشرعية حملي.. وفي ليلة جافاني النوم، واشتد علي القيء، أسندتني أمي إلى صدرها، وأخذتني إلى الفراش وراحت تبكي، فيما سعال أبي يصلنا من الحجرة المجاورة جافاً حارقاً.. رفعت أمي يديها إلى السقف تضرعت :
- يا رب يا ستار تستر هالختيار في آخر عمره ..
سقط قلبي من الخوف، هل أدركت أمي سري، تفرست وجهي، حطت عينها في عيني، رأيت الموت، سألتني صارمة :
- منصور عملها فيك يا بنت ؟
- ما هو تزوجني وقرأنا الفاتحة ؟
- اللي ينوي الحلال ما بيعمل الحرام يا كلبة.. كيف تسلميه عرضك.. وين هو في الأرض ولا في السما ؟ ..
- محمد صالح قرأ الفاتحة معنا .
- اخرسي متى عملتِ عملتك السودا ؟
- قبل ثلاثة أشهر ..
- متى غابت عنك دم العادة .. ؟
- بعدها ما شفت دم العادة ..
لطمت خديها، ولولت مذبوحة :
- يا فضيحتي يا كشف ستري .
- ما بيعرف غير محمد صالح الله يرحمه .
- ومش لازم يعرف أحد غيره ..
صوت أبي يصعد على السعال:
ـ ناوليني شربة مية يا صفية، ريقي ناشف
ـ حاضر يا حاج.. أنا جاية ..
المطر يداهمني في الأحراش، غيمة هبطت فجأة، زخت، والريح باردة تلطمني، تخر في لحمي، تتربع في صدري حبيبات ثلج يذوب، ارتجاف، اصطكاك أسناني على ريق جوع وعطش، والمطر لا يهادن، وعب أشجار الكازورينا ينثر الماء دلفاً قطراته كبيرة ممتلئة تزيد من بلل الثياب.. أعدو بين الأشجار حتى طردني الحرش إلى سياج البيارة، بحثت عن العلامة ، عثرت على عيدان شبعت من جفاف الصيف، سحبت فروع الغيلانا الشوكية عن السياج فظهرت الثغرة، مرقت إلى عريشة اليقطين تظلل شجرة برتقال أبي سرة، أوراق اليقطين دائرية عريضة مثل صحون مخملية مروية لدرجة الامتلاء، مدورة تزهو مع الأزهار الزنبقية البيضاء.. درت حول الشجرة / العريشة، زنابق اليقطين رافعة كئوسها نحو السماء عفية تبدت صبيانا وبنات في حفل خصوبة ورغبة خلق، أزهار مؤنثة ترقد في بطنها مبايض مكورة منتفخة تعلوها مباسم تنتهي بفوهة استقبال رقيقة كشفاه مزمومة على عسل الارتشاف والامتصاص.. تتهيأ على ميعاد مع الأزهار الذكورية التي يتوسطها عمود الطلع الأصفر مثل وتد منتصب، طلوع متوثبة تنشر روائحها مع قطرات المطر وتنشر في المكان رائحة حامضة رهيفة ..
باعدت ما بين فروع اليقطين المدلاة على الأرض، صرت في عب الشجرة، وتبدت سعة المساحة تحت العريشة.. وظهرت بوابة الوكر مظللة بالفروع, خندق مستطيل تحت الأرض بارتفاع شخص جالس، يمتد لا أدري إلى أين ولا أعرف أين يفضي.. ناديت بصوت كأنه الهمس :
ـ منصور.. أنا هنية يا منصور .
حفيف الريح ينفذ من بين أوراق الشجر، يصلني مثل صوت نايات لم تكتمل ثقوبها، خفت وزحفت العتمة من حولي، خرجت من عب الشجرة، فتلقفني في حضنه وعاد بي، سحبني إلى داخل الوكر ..
- انت مبلولة، بلاش تاخذي نزلة برد .
زخّ المطر في الخارج يشتد، نقراته على الأوراق العريضة مثل طبول مبحوحة وأسناني تصطك.. غاب منصور في دهليز الوكر، وعاد بجلابية بيضاء نظيفة وفانلة داخلية وفوطة حمام.
- جففي جسمك، وغيري ملابسك .
وخرج إلى عب الشجرة .
ارتديت الجلابية على عري ، عصرت ثيابي.. وصلني صوته..
- كيف الحال الآن ؟
- ادخل انتهيت من تغيير ملابسي .
لفني بالفوطة، وقام إلى موقد الكاز، أشعله ووضع عليه صفيحة فارغة، طردت الصفيحة أبخرة ماء علق بها، وتوهجت ووزعت الدفء.. دبيب الدم يسري في عروقي، جسدي يستعيد عافيته، أخذت أجفف ثيابي حول صفيحة النار.. صوت الموقد ورائحة الكاز النيئ ينملاني، وينسرب إلى داخلي خدر ونعاس.. وضع منصور إبريق الشاي فوق الصفيحة، وجلسنا صامتين نحدق في بعضنا، فار الشاي وطشت رغوته على سطح الصفيحة وكان وجه منصور مشعاً في عتمة الوكر.. تخلصت من خوفي وارتباكي، وتخلصت من الفوطة .. فردها منصور :
- مكانك مبلول.. نجلس على الفوطة ..
تلاصقنا، سمعت دقات قلبه، لهثَ، لهثتُ.. أخذ رأسي إلى صدره، نفذت روائحه إلى بدني، لحس شحمة أذني، أخذني إلى غيمة بيضاء ارتفعت بي بعيداً بعيداً، نهض من فوقي، وترك بقعة دم كبيرة على قماشة الجلابية.. وأنا في الغيمة مخدرة فخذاي مفتوحان على اتساعهما، ودفق صمغي دافئ يشد لحمي إلى لحمي.. أفقت ، قال متوتراً :
- لا تخافي .. الأمر سر بيننا .
أخذته إلى حضني، تشبثت به وبكيت، وكنت فرحة سعيدة، قال :
- لازم نتزوج يا هنية .
ضحكتُ :
- ما احنا تزوجنا.. ايش بدنا نعمل أكثر من هيك ..
تعريت تماماً وأخذت أم
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |