رواية عودة منصور اللداوي -11 - والأخيرة
2010-05-18
وأخيراً التقيت بهنية العالم يا أبي .
لم أسع إليها، ولكنها نادتني، واختارت الميعاد، فانسقت وراء فضولي للولوج إلى الفصول الأخيرة، ذهبت خائفاً ولكني لم أتردد, عمتي " أكلها قلبها " وقبضت على فم معدتها تحوطاً من فأل سيء:
قلبي يأكلني يا رياض.. يا خوفي تفتح علينا جروح قديمة ما نقدر عليها، واحنا مش ناقصين هموم ..
هيفا حملت الدعوة، راوغتُ وتعللتُ بانشغالي، حدقت في وجهي، فضحت خوفي, أصرت واستعانت بأمها عليّ :
- إنت معزوم من أهل العريس، أبو خالد كلفنا نعزمك, إلا إذا تعتبر نفسك مش من العائلة..
سعاد الهندي اعتمدتني فرداً في العائلة، ألزمتني وأفرحتني، والمناسبة طلبة عروس وقراءة الفاتحة، تقليد يجب أن أعرفه وأشارك فيه في الوطن، لجأت إلى أبي يوسف أبثه هواجسي، فأخذ الأمر باتجاه آخر :
- الناس في الغربة انقطعوا عن العادات والتقاليد، ولازم يعرفوا الأصول علشان ما يشعروا بالغربة في الوطن.. وأنتم جيل ولد في الغربة، ولازم تعرفوا كل شيء وتتعلموا .
والجاهة تنطلق من بيت العريس إلى بيت العروس، وفي بيت الشناوي قدمني أبو خالد إلى رجل يتصدر المكان منفرداً على كنبة عريضة، وجيه يعتمر كوفية بيضاء ويلف جسده بعباءة صيفية ، تشير ملامحه إلى جسد قوي وعافية قديمة، عيناه تشعان خبرة بالحياة.. قدرت أنه كبير عائلة الشناوي ورأس جاهتها
- هذا خالد ابن منصور اللداوي يا أبو جعفر .
أخذني الرجل إلى حضنه، وطبطب على ظهري، ووسع لي مكاناً بجانبه على الكنبة، تفحص وجهي، تفرسني، ورأيت دمعة تتخلق في رأس قلبه، تصعد إلى بياض عينيه، غلالة شفافة تأرجحت ولم تسقط .. قال :
- سبحان الله، دمك على دمه، ولو إنك مش واخذ من ملامحه كثير.. كيف حاله ؟!
- الحمد لله، ننتظر الموافقة على دخوله .
ربت على فخذي وهمس في أذني :
- ابق جنبي ندخل دار العروس قدمك على قدمي .
مسح وجهه بكفيه، وعاد إلى حكاياته ومداعباته عن عرائس خطبهن طفلات أصبحن الآن أمهات، وجدات حولهن الأولاد والأحفاد، وعرج على هنية العالم يوم طلبها لصبحي الدبش وها هو اليوم يطلب ابنتها.. ضحك أبو جعفر:
- يومها سألت صبحي الدبش ـ وكان بعدو حرامي سيارات :أنت موافق على شروط العروس ؟ قال : أنا موافق وأنت كفيلي، قلت للعروس هاتي شروطك يا هنية قالت: أنا شارية رجل يا عمي وستر الله في الدنيا والآخرة.. يومها فرت الدمعة من عيني وقلت للدبش إذا سمعت أنك زعلت هنية أنا بأطخك :
قال الشناوي الطيب :
- طلبت هنية واليوم تطلب ابنتها لخالد إن شاء الله تعيش وتطلب بنت ابنتها .
جو حنون يرفرف حولنا، وفرحه تحتل المكان، وتقليد جميل تبهجني المشاركة فيه، تدق في رأسي كلمات الرجل ، (ندخل دار العروس قدمي على قدمك) .. ما الذي يقصده ؟ هل يرفع من شأني ومقامي وهو رأس الجاهة وعميدها ؟ وما هي علاقة أبي به، من أنت يا أبا جعفر وأنا لم أسمع بك من قبل، ولا ورد اسمك في حديث.. أهرب من هواجسي إليه، ألتقط أحاديثه بشغف، فتعبرني الراحة ويغلفني الاطمئنان.. هاتف داخلي يقول مع هذا النوع من الرجال لا خوف ولا غدر ..
وانطلقنا إلى برج الشاطئ الأزرق، طالعتنا مصبغة الشناوي مغلقة أبوابها، وقد علق عليها يافطة تعتذر للزبائن الكرام عن الإغلاق بمناسبة خطبة ابن صاحب المحل ..
رضوى سبقت الجاهة، وقفت تحت اليافطة وأطلقت زغرودة مبحوحة ورفعت كفها في وجه زوجها وتغنجت :
- اشهدوا يا ناس، الشناوي هان عليه وسَكّر المصبغة اليوم .
أشاعت جواً من الفرحة والضحك، وأطلقت التعليقات.. قالت سعاد:
- طول عمرك يا رضوى هايصة وقلبك طيب .
وفي بيت العروس وعلى قمة البرج كانت البهجة ظاهرة، البيت يعج بالضيوف والمستقبلين، جاهة تستقبل جاهة، يتصدرها الدبش وأبو طارق وأبو يوسف، وسناء فراشة تطير توزع ابتساماتها، تعلقت بأبي جعفر وأوسعته تقبيلاً، تدللت عليه ونامت على صدره طفلة شقية، تقصفت شفتاه رحمة وحناناً، ولم يمنع دمعة هطلت على خده .
أدهشني هذا الرجل القوي.. يبكي فرحاً ويترك لدموعه العنان.. همس في أذني يعلمني :
- دمعة الفرح طيبة وحلوة مثل الصدق مش لازم تحبسها .
في صالون الرجال تناولنا الشراب والحلويات والقهوة الحلوة.. تنحنح أبو جعفر فأخذنا إلى الهدوء والصمت.. طلب يد سناء عروساً لخالد .
- ايش رأيك يا صبحي ؟
- مبروكة عليه يا حاج .
- الله يبارك فيك، طلباتك ، الشناوي جمل وإنت حمّل ؟
- الولد إبنك والبنت بنتك واللي تشوفه بيصير .
- طيب نادي على البنت وأمها، وأنت يا خالد بوس يد عمك وعمتك..
سناء تقف إلى جانب خالد، وهنية بين صبحي وأبي جعفر، هنية عروس بكامل زينتها، ثوبها الأبيض يضفي عليها سحراً ووقاراً.. ومَضت أمي في رأسي، هبطت عليّ من سقف سماء شقتها رعدة قوية، سكنتني، هي أمي ذات النظرات، وذات العيون، وذات الابتسامة, ما الذي أتي بك يا نوال المفلح إلى هنا؟ معلقة بين السماء والأرض، هل هو الفرح أو الجوع إليه، وأنا ما حملت منك غير صورة معلقة فوق سرير نومك في شقة في ضواحي بيروت، صورة لعروس تحمل باقة فل بيضاء وتحتمي بكتف عريسها، آخر ما ترسب على بياض عيني منك امرأة عارية تسحب رجلاً إلى فراشها، خرج عاريا مبلولاً من الحمام، تخبئه في فراشها وتختبئ معه حتى لا تصيبه لفحة برد أو رجفة قشعريرة.. وهذا هو الدبش يقف إلى جانب المرأة البيضاء، وليس منصوراً، أبي، من رافقت يا أمي من الرجال، وكيف ودعت الدنيا وعلى أي المشاهد جحظت عيناك قالوا إن الدكتور "جيكل" حاول تخليصك منهم، وقال بكل اللغات التي يعرفها إنك حبيبته وصديقته وزوجته ، فلم يصدقوه.. قالوا له :
- هي فلسطينية .
كذبّوه وسحبوكِ من تحت إبطه واختفوا بك في الأزقة، وقيل إنه انهار ووقع مغشياً عليه عندما سمع زخات الرصاص.. وقالت الممرضة " ماري " إنها تعرفت على جثتك مع الضحايا بعد ثلاثة أيام، وأكدت أنك متِ على جحوظ ذعر وألم، وأن جثتك لم ينلها التفسخ والانتفاخ، وفسرت الأمر أن ظل الجدار منع عنك حرارة الشمس ..
صوت أبي جعفر يصلني مثل خطف البرق .
- يا سناء أنت موافقة على الزواج من خالد ابن محمد الشناوي ؟
- موافقة يا عمي الحاج .
رفع كفيه تضرعاً وقرأ الفاتحة جهراً ثم مسح وجهه ..
- مبروك والعاقبة عندكم بالأفراح ..
انطلقت من صالون النساء مهاهاة رفيعة قوية، أشادت بالدبش والشناوي والرجال كلهم، تبعتها موجة من الزغاريد، ظهرت في ذيلها زغرودة رضوى المتعثرة المبحوحة، نفش أبو يوسف ريشه:
- أيوه يا أم يوسف، ما بيجيبها غير العتاقي، بنات اليوم ما بيقدرن يسحبن المهاهاة من قاع القلب.. والله حتى فرحة زمان غير شكل ..
اكتظ الصالون الآخر بالنساء والصبايا، هنأ الرجال وأخذوا يتسللون لأعمالهم وأشغالهم واقتصر الحضور على خاصة العروسين، فانتقلنا نطلب الهواء في البراندة الغربية، مسعود الأسعد ومحمد الشناوي وصبحي الدبش وأبو يوسف وأبوجعفر الذي أكد هامساً :
- بنروّح قدمي على قدمك، ابق جنبي .
النسيم رقيق رهيف، والوقت تجاوز الأصيل، وصدر البحر لامع يتهيأ لاستقبال الغروب، وقرص الشمس يهبط إلى صدر الماء، وقد تدور كرة برتقالية كبيرة تنشر ضفائر ذهبية خيّل إلىّ أني أرى الشمس عروساً قد نضجت وألقت بلهيب نارهاً، وصارت طيعة في الطريق إلى عشيقها البحر.. هل رأيت ابتسامة الشمس الغاربة أم أني رأيت طيف نوال تخرج من فم الشمس وتغطس في الماء تغتسل من خطاياها وتتدثر بالضفائر الذهبية، تنتصب على سطح البحر امرأة من ذهب، تنتظر الهبوط إلى سر الماء …
صحوت على صوت الدبش يداعب أبا جعفر ..
- حلّت القهوة السادة يا حاج .
ونادى على زوجته.. أطلت هنية تتبعها أم العريس ..
- دبري لنا دور قهوة سادة يا هينه علشان أبو جعفر ..
تدخلت رضوى وقد أمسكت بذراع زوجها ..
- مش قبل ما ترقص أنتَ ومحمد قدام الأولاد.. يا هنية اسحبي جوزك ..
رقص الدبش مع هنية، ورقصت رضوى مع الشناوي، ورقص مسعود مع سعاد الهندي، ورقص خالد مع سناء، ودفعتني أم طارق إلى الحلبة، تعثرت فتلقفتني هيفا، تعثرت ورقصت وكأني على شوق وانتظار من يلعب معي ويراقصني .
أخذت أم يوسف الطبل وجنّت معه.. وسعنا الحلبة لهنية وسعاد، رقصتا وكأن الرقص لهما وحدهما.. اغتسلتا بالعرق، تحاضنتا، الدموع تنهمر من عيني هنية تفيض على وجهها ماء زلالاً، لم تصمد أمام فرحتها فهبطت على الأرض، اندفعتُ إليها.. لثمت يدها، أسندتها إلى صدري وأجلستها على أقرب كرسي.. أخذت وجهي إلى وجهها، عمدتني بدموعها.. همست بصوت لم يسمعه غيري:
ـ أنت ابني .
كانت صادقة، وتمنيت لو كنت ولدها.. وعدت إلى مجلسي في البراندة الغربية إلى جانب أبي جعفر.. دارت السيرلانكية بالقهوة السادة التي أعدتها أم يوسف.. قال الدبش موجهاً حديثه إلى الحضور .
- ردوا الأمانات إلى أهلها ..
وناولني بطاقة هويتك يا أبي، آخر ما أودعته لديه من أسرارك ليلة سلمك إلى الزن الذي رافقك إلى الحدود، قال الدبش وقد هيجته الذكريات وتهدج صوته :
ـ يا ترى هل يحتفظ منصور بالمسدس الذي أهديته له ؟
* * * *
الأيام تمر يا أبي ولا خبر عن رقمك الوطني، لم تُجدِ مراجعاتي ولا تدخلات أبي طارق لدي الارتباط العسكري والمدني.. ومكتب الرئيس، وأخيراً قرر أن يرحمني :
ـ يا رياض موضوع أبوك صعب، ملفه عند الإسرائيليين، وعليه تهم قتل يهود، علشان هيك صعب يوافقوا على رجوعه في هذه المرحلة ..
هل رحمني أم قتلني أبو طارق .. قلت :
- حصلت على هويته قبل أن يغادر الوطن .
- احتفظ بها ، مصيره يرجع ..
غزة – أكتوبر 2001
××××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
14-نيسان-2018 | |
30-تموز-2015 | |
13-تشرين الأول-2012 | |
16-أيلول-2012 | |
18-نيسان-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |