من هو محمود البريكان ؟ تقديم و إعداد :
خاص ألف
2010-05-25
في شخصية الشاعر محمود البريكان ثلاث نقاط سوداء .
الأولى سيرته . فقد بدأت وقائع حياته العلنية من الصفر ، و غالبا من الصفحة البيضاء ، أو ما يسمى بلغة النقد الاجتماعي النسيان و التهميش. و انتهت بحادثة اغتياله الغامضة خلف أسوار بيته عام 2002 .
و الثانية خطه في المهنة النبيلة التي نذر نفسه لها ، و هي كتابة الشعر. فقد كان النقاد يعتبرون أنه شاهد أصيل على الخيط الدامي الذي ميز التاريخ الشخصي و العام لبلاد ما بين النهرين ، حيث أن جملة كتاباته عكست صورة شاعر نموذجي لديه قدر من الحريات المحدودة لتفسير شروط الاختيار الفلسفي و الضرورة.
و في هذه الظروف ( و التي وضعها الشاعر بين قوسين أحدهما الألم التجريبي و الآخر المعاناة الذهنية ) استعمل مثل غيره من شعراء الستينيات أسطورة الموت و الانبعاث للتعبير عن رموز الحضارة الشمسية ، و لكنه على المستوى الاجتماعي كان أشبه بالنعجة السوداء بين أبناء مدينته البصرة ، فهي ذات موقع فريد و متميز ، و كانت حاضنة لفجر الحداثة الشعرية ( ممثلة بالسياب ) ، كما أنها كانت تقف على مفترق الطرق في المربع الذي تلتقي عليه فرضيات لثلاثة أذهان و ثلاثة أنظمة ، هي على التوالي : الذهن الشيعي الحامل لعقدة الذنب القديمة حيال أب مغدور ( بصورة الإمام الشهيد ) ، و الذهن الهاشمي الذي يمثل صورة السلطان الضعيف و الضائع ، و أخيرا الذهن العابر لثقافة مائية و ملاحية متنقلة. و هذا هيأ البصرة لتكون مدينة برأس واحد ، و لكنه مركب و من ثلاث طبقات.
لقد حمل محمود البريكان أعباء سلوك مختصر لإنسان يعاني من عسر في الصياغة و في شرح معنى الهوية. و إن الخيط الذي ربطه بصوره المتعددة ، و انعكاساتها فوق مرآته السوداء ، كان هو ذات الخيط الذي ربطه بأخطاء الوجود المنكسر . و يمكن أن نتحرى أثر ذلك دائما في مصيره الدرامي و العاصف ، و في المعاني العريضة و الواسعة لقصائده ، و لا سيما التي ركزت على مهمة تبييض صفحات من التاريخ الشخصي للمجتمعات المحلية ، و تلوين الرموز الكالحة المترافقة معها.
و على أية حال ، كانت جميع هذه الرموز تصب في حوض واحد يؤكد بدلالته على تلازم الضياع في الوجود مع الحضور في عالم عابر لا يكف عن التناقص ( أو الرحيل ) ، ثم على ترادف الأحكام الجوفاء لأشخاص بلا أنطولوجيا ( أو حضور متحول ).
و هذا يلخصه في خاتمة قصيدته المعروفة ( حارس الفنار – 1958 ) حيث يقول :
ما أبعد العالم ! ما أغربه كله !
أعرفه ، فهو طريق موحش سحيق ( ص 25 – من مجموعة متاهة الفراشة ).
و هو ما يبدو أشبه بترنيمة موازية أو تأكيد لما ورد في قصيدته ( إنسان المدينة الحجرية – 1959 ) ، و التي قال فيها :
الخلود
للصخر ... للصخر الذي ليس له معنى ( ص 34 – المجموعة السابقة ).
و ثالث نقطة ، و هي الأخيرة ، فلسفته في فن الشعر. فمن الناحية الشكلية لم يكن محمود البريكان يدين لأستاذ و لا معلم. و على الأرجح أنه عبر عن ماهية الخلل الذي تعاني منه مرحلته و هويته غير النقية . فهو في المحصلة توليفة من الأساليب و الأفكار الخاصة ، و التي قامت بإنتاجها ماكينة تدور دواليبها بقوة الأداة و ليس البنية ، أو الذات و ليس المجتمع. و لذلك كانت هناك جرعة ملحوظة من التردد الإمبريقي ، و هي الصفة التي لازمت السياب منذ المعبد الغريق و حتى أنشودة المطر ، و هي نفس الصفة كذلك التي حمل أوزارها ( في النثر ) المصري صنع الله إبراهيم في محطتين هامتين من مسيرته و هما ( نجمة أغسطس ) و ( وردة ) ، حيث كان المؤشر يتحرك بين المخزون العاطفي للثورة البروليتارية و الموقف الفلسفي للحزب من العالم و الوجود. لقد كانت قصائد البريكان ذات مسوغ لجميع الهموم التي تتطور من وراء الأسباب لتعكس مقدار الكبت الحضاري و الشخصاني . و هي هموم لضمير بشري يعيش في أزمة و يكتوي بنيران الشك و بعذاب السقوط الأبدي و الغامض ، و يعكس بالمقابل الملامح التي تربط شخصية مستلبة و مهجورة بقوانين المكان المجهول .
و من ناحية المضمون ، كانت القصائد تصغي لصوت الواقع النفسي دون أن تعترض على أساليب الصياغة ، و لذلك اقتربت بأدائها من جميع أنواع القصائد المغتربة ، التي انقطع اتصالها بالجانب الخصيب و المنتج من الشعور.
لم يكن محمود البريكان مسرفا بالتكنيك و لا بالتراكيب و الصور ، و لجأ إلى نوع من المباغتة الوجدانية ( بمعنى المباشرة ) في دمج الطبيعة الصامتة لعالمه المؤجل و المضطرب مع الموقف اللاهوتي للحداثة بمرحلتيها : التفعيلة لأنها تصور قطيعة الذهن مع الروح ، و النثر لأنه التعبير المشروع عن خبرات مشكوك بها و بمجال نشاطها و تصوراتها.
و أعتقد أنه بغيابه المبكر ، و بسبب فاجعة موته الإشكالي و الغامض ، ينضوي اسمه مع رموز أخرى كان لها دور الريادة في إعادة تقديم مواقفنا الشعرية و تعريفنا بأنفسنا المكبوتة و الغائبة ، و من هؤلاء السوري ( أورخان ميسر ) ، و الأردني ( تيسير سبول ) ، إلى آخر هذه القائمة المؤلمة.....
قصيدة : متاهة الفراشة لمحمود البريكان ( ص 108 – 109 )
مهرجان المصابيح
لافتة المصنع الضخم ترسمها نبضات النيون
الفراشة لا تستطيع القراءة
رفت بكل رشاقتها
دخلت و هي ترقص
و انطلقت في رحاب المكان ..
لمحت فجوة و انعكاسا من الضوء
فانجذبت نحوه
سقطت وسط هاوية معتمة
و رأت سلما لولبيا
و شيئا كبرج من الصلب ، لا قعر له
و خيوط دخان
كبخار الصهاريج
و التقطت مدخلا دائريا
فخفت إليه
إذا نفق من حديد
يؤدي إلى نفق من حديد
و أحست بزاوية الميل
فانزلقت
و استقرت على حامل
عتلات مهاجمة
و كوابس دوارة
و أصابع من معدن
فحزام سريع
جرها فجأة.
تلوت على نفسها
و عمياء كانت
أكان دما ما تفصد من جسمها ؟
رأت نفسها في الهواء
بنصف جناح
و نصف جسد
و لم تستطع أن تحرك أطرافها
و لم ترتعش غير ظل ارتعاشة
و كانت هناك
على الأرض ، تزحف ،
نصف فراشة.
1988
هامش :
أرقام الصفحات تشير إلى مجموعة ( متاهة الفراشة : سبعون قصيدة 1958 – 1998 ) لمحمود البريكان الصادرة في السويد عن دار نشر نيبور عام 2003 بعد وفاة الشاعر ، و التي اختارها و أعد لها الشاعر العراقي باسم المرعبي.
2010
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |