فصل من رواية الترعة
2010-05-29
خاص ألف
الفصل الاول
انتصب الحاج رابح (( الجربي )) (1) يملأ مساحة غرفته ( المصبوغة ) باللون الأخضر القاتم .اندس تحت ردائه ( برنوسه ) ( الرمادي ) ، ماعدا رأسه يبدو كرأس ثعبان يتربص بفريسة ..ظل يحدق في الساعة الحائطية المغروسة يسار صورة الشيخ عبد القادر الجيلاني ..
اخرج سيجارة من نوع ( باسطوس )) وراح يرضعها في نهم
- أوف .. اليوم قيظ شديد ، ( راه يسوط البحري . البحري واعر على العظام ) لفظ هذه الجملة فيما ظلت (مبروكة ) زوجته تروح وتجيء ..تميل يمنة ويسرة بمناكبها العريضة ، وجسمها الغليظ ، فهي لا تقوى على المشي من كثرة الشحوم العالقة برجليها المنتفختين ،تبعث من حين لآخر زفرات ملفتة للانتباه كالحية .
- ينتابها بين الفينة والأخرى ضيق في التنفس وقد عرضت نفسها على الأطباء أكثر من مرة دون جدوى .
- رابح بعلها مصاب هو الآخر بتخوم ما ينفك طوال اليوم يتنهد كالشاة المشرفة على الاختناق ، سافر عدة مرات إلى فرنسا للمعالجة، وقد نصحه أطباؤه بملازمة الأمكنة الجافة تفاديا لأي اختناق قد يفاجئه.
- حملت مبروكة بصعوبة حتى كادت تسقطها ، قصعة من الجبن الطري وتقدمت من ( رابح ) المدسوس في (برنوسه) :
- - هاهي القصعة ، وها هو الجبن الطري ، أظن أنني جئت في الوقت المناسب ( ؟
- - أين الماء الساخن .أحسٌ هذه اللحظة بهزات كهربائية تسري في أوصالي من شدة البرد . اليوم تعبتُ كثيرا من المشي. لقد جبنا كل شوارع وأزقة القرية مع السيد ( المستراتور ) حاكم المقاطعة الفرنسي . لم ندع زقاقا دون أن نلجه. حتى الباب( القبلي ) فتشناه ، من حظ الكلاب لم نعثر عليهم بدار ( الضاوية ) العرافة ، هي أيضا استنطقناها فتظاهرت كعادتها بالغباء والبلادة .
- هذه خبيثة . إنها تتعاون مع ( قطاع الطرق/ الفلاقة ) ( محظوظة هذه الشمطاء ، لم تقع في قبضتي ، ( خشبة جهنم ) الكلبة بنت الكلب
- ..ويردف بخبث :
- كلما أرجع مع السي ( المستراتور ) ( حاكم المقاطعة ) من باب( الظهرة) يزداد شكي في الضاوية .. ويلتفت صوب زوجته ..
- وبخبث أعمق يقول :
- أو ماذا ترين يا مبروكة ؟
- تحملق مبروكة مليا في بعلها ، وبنظرات حادة :
- - قلت لك كم من مرة ( الضاوية ) لا تفقه في شؤون الدنيا شيئا ، (كمن يساوره الشك فيما تقره مستقبلا) ، تردف: :
- هي لا تقوى على متاعب طلبات ( الفلاقة ) الكثيرة ، ثم من أين تأتيها النفقات حتى تطعم أكثر من عشرة رجال أو أزيد ، أو أنك تحسب شتات الدقيق الذي تجمعه من الوافدين إليها – وهم قلة – كفيل بسد نفقات ( الفلاقة ) أراك غالبا ما تكثر من المهاترات ، تلملم لعابها كحية تركت سمها قرب غدير ، ثم تواصل : حسبي أنك داهية
- دعك منها وانصرف لشؤون أخرى أكثر اهتماما ، اصرف شؤونك واهتماماتك ( للغازي ) و(الزيتونة ) وعصابتهما ، والذين يشكلون خطورة عليك وعلى جنود سيد ( المستارتور ) .. إنهم يتربصون بك ليل نهار . فإنك إذا وقعت في قبضتهم فتكوا بك شر الفتك .
- اليوم فقط بلغ مسمعي أنهم عرجوا البارحة على مشارف القرية . وظلوا يتربصون بك بمدخل الباب ( القبلي ) عند مغيب الشمس .وقد صادفهم أحد الرعاة فأنكر وجودهم . يقاطعها الشيخ ( رابح ) في غضب :
يلعن أماتهم لكلاب ، أنا تحت حماية لالاة فرنسا ) . من هو هذا الراعي الوسخ .. ومن أين استقيت الخبر ؟
- هكذا سمعت ، ثم سكتت ..
- لم يلح الشيح رابح على الإضافة ، وقد كان غارقا في تأملاته .
أخذ ( برنوسه ) ، وضعه على كتفه المثقل بالرذائل ،و شرع في النهوض كالجمل الشبعان في فصل ربيع حافل بالأزهار والأعشاب
وكمن ظفر بطريدته استطرد يقول /
أين بندقيتي ، يا ( مبروكة ) اليوم أحصد سكان القرية ، اليوم أضع حدا فاصلا لنزول القوت إلى بطونهم النتنة الكلاب ( الجيعانين ) ( البيكويات ) ( أولاد ( ... ) فأرتاح من متاعبهم .
لا يقوى على النهوض .. يحس بوخز في مفاصله .
آه مناكبي ، ، رجلي ، وزبده يتطاير من فمه الواسع كالكيس المشرف على القدم ، يهوى مرة ثانية على الأرض كالعار. فيحدث عجاجا طار رذاذه على بعض أجزاء وجهه الجاحظ . بعث زفرة مشحونة بالأسى:
:وينك ألصحة بنت الكلب ))) يحاول النهوض مرة أخرى .. يزداد الوخز.. يردف ((
( لكن اجي نهارهم أولاد الفاجرات ) .. أين الماء ( يا مبروكة . يقولها وهو يضرب كفا بكف كمن خسر صفقة مربحة ، يكتفي بالقول ، مشيحا عنها بوجهه (هذوك أيامهم أيام لما يطيحوا بين أسناني نمضغهم كالحناء )) .. آه يا رب ، وأدخل في نهم يده في جيبه ليردم أسفل شفتيه ( بشمة ) نفح تبغ من ( عرعار) الجبل ( القبلي )
- لم تعلق مبروكة .. وهي تقول :
ها هو الماء . احذر إنه ساخن .. ادخل رجليك بلطف ، انه ممزوج بالملح الحي ، لعله يزيل عنك نبضات العروق والشرايين المصابة بالروماتيزم
قرعٌ خفيف بالباب ينتهي إليهما .
تهرع إثره مبروكة ، إنه محمود يقفل راجعا من شهرته مع أترابه .
.. شاب في مقتبل العمر . سمين بعض الشيء .. شعره أشعث ، يميل إلى السواد .. متوسط التعليم .. لم يخترق امتحان الدخول إلى الطور الإعدادي والالتحاق بأنباء ( الكولون ( المعمرين ) بالرغم من معارف والده
كان ثقيل الفهم ..
لم تدعه تأتأته من استيعاب بعض التعابير بالفرنسية ، يحفظ ما يناهز عشرة أحزاب من القرآن .كان خجولا في صباه ، وكان الأطفال يلقبونه ( محمود البقرة)
يتسرب خلسة إلى غرفته خوفا من هيجان أبيه ، وقد ساعدته أمه على ولوج غرفته دون أدنى ضجيج ..
الحاج رابح جاثم كعادته بالغرفة الداخلية السادسة .. تصله خشخشة أقدام محمود بالرغم من محاولة هذا الأخير تلطيفها وخنقها .. يرسل (( نحنحة )) متبوعة بزفرة كادت تمزق سكون الليل
قرعٌ خفيفٌ بدا باتجاه الباب يا مبروكة : من يكون الطارق ؟
إنه محمود دخل غرفته متعبا .تقول مبروكة في لوعة وحسرة وقد نصحته بالنوم لينهض باكرا حتى يساعدني في حلب البقرة ، بت لا أقوى على دحرها وقد علا شحمها واحدودب
لم يعلق الحاج رابح وأشاح بوجهه عن ضوء السراج الخافت ليردم رأسه تحت غطاء خشن .
وتعاقبت سويعات الليل القليلة ..
اندست مبروكة قرب ولدها محمود الملفوف برداء يبدو خشنا بعض الشيء .. وفي همس متناه ..بادرها محمود والخوف يقطع أوصاله:مر الثوار بمحاذاة ( الباب القبلي ) منذ لحظات فقط من دخولي .. الأم في ولع شديد ، وهي تتلمس جسم محمود كمن يتأكد من شيء في ظلمة حالكة ( يا للمصيبة ، أين تركتهم وفي أي اتجاه توجهوا ( يا رب أستر) ).
لا أدري ، ربما نحو البوابة الخلفية للقرية .. ذاك هو الطريق المتفرع من الباب القبلي ..
حمدا لك يا رب .. أنت متيقن مما تقول . لعل الهلع أفقد اتزانك ، أو لعلك لم تتبين الأمر بدقة .
هكذا بدا لي يرد محمود والهلع يسكن كيانه .
الليل موحش .. تمزق أوصاله هو الآخر عاصفة هوجاء ورياح قوية ، ورعود متقطعة صاخبة.
يتسلل محمود إلى فراشه كما تتسلل ( الشعرة من العجين ) بعدما مسح فمه من بقايا أطعمة باردة كان قد تناولها في همس
يا رب تستر ، الليلة ليلتنا ..محمود محق فيما يقول ، تغمغم مبروكة هذه الكلمات وبعلها يعلو شخيره كالثور الشبعان
تحاول مرة ثانية أن تدفن رأسها تحت الوسادة .. لكن سرعان ما يعاودها الفزع ، وقد ازدادت درجته ، فترتجف كأرنب لسعها البرد في ليل صقيع بارد ، ثم ما تلبث أن تردد في صوت يكاد يسمع :
لعل ( الفلاقة ) ( الثوار ) يتربصون بنا ونحن لا ندري في الأمر شيئا ، أو لعلهم ينتظرون مرور الهزيع الأخير من الليل لينقضوا عليها خلف ( الزريبة (العُنة)( حضيرة الحيوانات ) )
كل الاحتمالات مقبولة وواردة ما دام الخطر يحدق بنا ..
حفيف شجرة الخوخ الوحيدة ( بالحوش ) يقع صاعقة على قلبها الهش كأتربة ترعة أصابها الانجراف .فيزيد من خوفها وروعها .. وهي في صراع مع نفسها ، وما يمكن أن تقره في هذه اللحظات الحرجة .. محاولة الاستقرار والإقرار ، تردف مغمغمة: :
إذا قدر اله ووقعنا في قبضتهم ، أقول لهم أن رابح هو الخائن ، ولا أستطيع صده عن ذلك .
وكمن يثق بنفسه وفي قدراته تقرر :
(ادبر راسه هو بغى هكذا..افكها بسنيه واش أداه ) غدا تستقل الجزائر ويصبح وصمة عار أمام أسياده ، وإلا راه افكر في الرحيل مع ( لالاه فرنسا)
سأبذل كل ما في وسعي لأنجو ومحمود . ) )
الرياح الهوجاء تهز أغصان الشجرة الوحيدة بعنف ، يصل صداها الغرفة .. تقفز مبروكة .( يا رب ( هاهم جاو) هاهم جاؤوا ) تقولها جهرا .. يفزع لها الحاج رابح ..
- ما بك يا مبروكة .. ما دهاك ، ماذا حدث ؟ ..أكابوس أصابك ؟
استعيني بالله من الشيطان .. نامي ..
تحاول أن تخفي هلعها :
لا شيء ، لا شيء .وخزني ألم في رئتي ، ينتابني منذ أسبوع كما تعلم ، أنصرف الآن لأطبخ (الشيح )لعله يزيل عني بعض المرارة
تتذرع بهذا ، لكنها لا تقوى على مغادرة الفراش . يجثم الحاج رابح فيقوى شخيره .. فزع ًُ أصابه بين يقظة وحلم . ينطفئ النور الخافت ..صياح الديكة ونقر الماعز الأجرب بالإسطبل يفضحان الفجر الذي بدأ ينثر أشلاءه في حياء تام ليوم مشرق وضاء بعد ليلة هوجاء عابرة ..
عيون ( مبروكة ) يملؤها الأرق والسهاد ..
وحتى طلوع الفجر باتت تهلوس كلمات مبهمة .
**** ********
(الضاوية ) العرافة في كوخها تقرأ أبجدياتها ، كوخ يحاذي مشارف القرية من الغرب ، يقبع على ربوة تحفها الأوساخ وفضائل علب السردين الفارغة وركام من علف التمر الأحمر وقد انبت( نخيلات) متوحشة جد صغيرة ( مجمرها ) الطيني مملوء دائما بالنجوم . شعرها الوسخ ، الخفيف .. المنثور كسنابل في أرض بور . أصابها الجفاف منذ مطلع الخريف . جلدها المجعد يرسم عدة خرائط . بروز شرايينها يضفي ألوانا على رسغها الرقيق جدا . العامر بالوشم ، ويد تبدو للرائي من بعيد كنمنمة بصناعات تقليدية .فمها الكريه من كثرة (الشمة )( نفح شعبي ( تبغ ) ، غاسق كالليل من قلة الأسنان التي تناثرت عبر السنين .
لم تنجب بالرغم من تقلبها على عشرة أزواج طلقوها كلهم لتعاطيها ( الشمة ( تبع محلي ) ولبشاعة وجهها ورائحتها الكريهة المنبعثة من فمها .
تملك( شويهات) نحيفة جدا ، وقطة. تأنس بها ولا تقبل من يؤديها .
تسمع نقرا خفيفا بالباب بصحبة عزف أهوج لريح عاتية ، تنهض بصعوبة وقد أخفت ( أوراقا ) تحت وسادة علاها الصدأ من كل جانب . وبصوت رديء مفعم بالحشرجة تقول :
من بالباب ؟
- افتحي ، الزيتونة
- تتسلل خارج الكوخ ، والليل موغل في الحلكة ، تلقي نظرات في كل الاتجاهات ، تفرك عينيها الضيقتين جدا ، بعدما اطمأنت من صفاء اللحظة : أدخل .
- يتسرب ( الزيتونة ) يلقب هكذا لشدة سمرته . تناوله خبزا ظل مردوما في الرماد يسمى ( الملة ) يقضم أجزاء كبيرة منه ثم يردمها بثلاثة كؤوس من الشاي لتملأ فراغا ببطنه ظل ملازما لها منذ مغادرته ( المركز ) فجر أمس
- استرجع ( الزيتونة ) بعضا من أنفاسه وقواه ، ودون أن يحاورها عرفت( الضاوية) مهمته – أو بالتقريب - بالرغم من أنها تراه للمرة الأولى .
- اسمي ( الزيتونة ) . جئت موفدا من قبل الجبهة لاختطاف محمود ابن الحاج رابح .
- وكمن يتأكد من مقدراته ، ومؤهلاته في شأن من الشؤون تقول الضاوية :
- - علك لن تفلح هذه المرة في مهمتك نظرا للظروف والملابسات التي تحيط بهذا الخبيث وابنه ، إنه عزز الحراسة في المدة الأخيرة على بيته ، خاصة لما انتهى إلى مسمعه أنكم تتربصون لاختطافه .
- الزيتونة بلهجة ثورية :
- من أفشى الخبر ، وقد أحطناه بالسرية التامة ؟ الضاوية بكل تأكيد ، وبهدوء ..
- هذا ما راج في القرية هذه الأيام . قد تكون ( فاطمة ) زوجة الحاج مسعود ( الحوانتي ) لقد صعقتني بهذا النبأ عجوز جاءت تتطلع مستقبل بنتها البائرة .
- ( الحاونتي بياع بلادو ) هو الآخر لنا معه شأن .
- في نبرة ممزوجة بحسرة يقول الزيتونة .
- تقاطعه الضاوية :
- لا تقدم يا بني على هذه العملية الخطيرة حتى تمهد لها . وتنشيء لها سبلا توصلك إلى الهدف . قد لا تنجح فيما أعتقد .
- يزداد الليل سوادا . مواء القطة قرب الكانون يرسل ذبذبات متقطعة ليمزق سكون الليل . رذاذ المطر بدأ يتساقط ، يبلل أجزاء كبيرة من فراش ( الضاوية ) الموضوع في غير نظام فوق صندوق خشبي مزركش بألوان ضاربة في الخضرة . نقرات المطر المتسربة من السقف الخشبي المشقوق ترن بقاع القصعة الحديدية التي لا تغادر هذه البقعة .
- تتكاثر دقات المطر حتى كادت تملأ القصعة .، فيما تظل (الضاوية) بين جيئة و ذهاب من زاوية لأخرى ترتب شؤونها . تغطي بردائها الوسخ شمعة تشرف على الانقضاء .
- تقفز القطة وقد لسعتها قطرة مطر باردة مباشرة فوق أنفها ن يهتز لهولها ( الزيتونة ) سرعان ما تتبين الحقيقة فينكمش قرابة الكانون ملفوفا في ( جلابته ) الجديدة شاردا ، وقد ارتسمت عائشة زوجته أمام مخيلته بشعرها الليلي الطويل .
- تمنى لو كان يسامرها .
- كما انتصب أمامه ابنه مصطفى الذي لم يره أبدا منذ أن وضعته عائشة في محتشد القرية حتى كاد يموت من الصقيع وهو ابن ليال ثلاث .
- هذا ما سمعه من أحد المسبلين ( الفدائيين ) القادمين من القرية المجاورة .
- لم يزر ( الزيتونة ) بيته المهدد دوما بالانفجار منذ عشرين شهرا، حتى ولده حبلت به عائشة بعد أن طهرت مباشرة من العادة الشهرية في زيارته الأخيرة .
- وأسماه عمه الذي استشهد بإحدى الزنزانات ولم يعترف .
- - اسمح لي يا ابني ، تركتك وحيدا ، كنت أحضر لك مكانا لائقا لترمي فيه جسمك المنهك ، تقول( الضاوية )هذا ،وتتوسط الكانون . تنفخ في (الكير ) وتواصل :
- - تشهد القرية هذه الأيام على غير عادتها تحركات يقودها اللعين رابح . منذ أسبوع فقط فتشوا كوخي . شرّ تفتيش ، مزقوا وسادتي ، كسروا جرتي التي أختزن بها بيض الدجاجة الوحيدة التي تغذيني . قتلوا شاتي الرابعة رميا بالرصاص . وأحرقوا كومة التبن وبقية العلف المدخر وبعضا من ثيابي الرثة . لكن من حسن حظي لم يعثروا على وثائق الجبهة . وقد أخفيتها تحت عتبة الباب بكل حكمة .
- - لم تحدثني .. كيف حال الجماعة ؟ كيف حال الجيلالي ، الناصر ، قدور ، السي لعرج ، أمازالوا أحياء ، والجماعة كلها ؟
- -كلهم بخير ويقرئونك السلام ..يؤكدون فقط على الوثائق والحفاظ عليها
- .
- لا تخف ..( دسيتهم وين ادس القطة أولادها )
- تتعجل اللحظات كأنها على موعد.
- تسرد الضاوية جملة من الأحداث عاشتها القرية خلال أسبوع تعتبر حديثة . لم تبلغ مسمع الزيتونة بعد .
- الزيتونة يطرق رأسه صوب الأرض ، يخاطب الضاوية :
- - يبدو لي أن القبض على اللعين بات سهلا ، أو على الأقل اختطاف ابنه محمود كرهينة ، فبحكم موقع كوخك "الاستشرافي" أقترح أن تجلبي إليك ( مسعودة ) خطيبته وتتطلعين مستقبلها . تدّعين أنك رأيت في المنام أنه سيهجرها إلى بنت أخرى ، تعقدين موعدا. الأفضل أن يكون في يوم ممطر أو بارد ، إن أمكن أيضا ان يكون محمود مرافقا لها لقاء صدق القراءة ..
- يغمغم ( الزيتنة ):
- كل يوم ممطر لي معه موعد
- كل يوم مثلج لي معه موعد
- قالت الضاوية ضاحكة : :
- ما هذه الهلوسة .. يكون النعاس يا لزيتونة قد أفقدك التركيز والتخطيط ، يقاطعها :
- فعلا نال مني العياء مناله .
- الضاوية تضحك ملء فيها ، ثم تردف :
- خطة فاشلة منذ الانطلاقة ، استراتيجية ميتة في المهد ، ما هذه خطط الظفر يا ولدي ( الزيتونة ) . دع الأمور هذه لخالتك ( الضاوية ) المحنكة. إنك لم تفلح هذه المرة في رسم خطة للهجوم ، بالرغم من ثوريتك ، أبهذه السهولة نطرح أمرا كهذا بالغ الخطورة ، يالزيتونة ياولدي ( لا تغضب مني ) .
- لا يا خالتي ..
- اتركني ( راسي يقابل ) ترد الضاوية .
- رد الزيتونة : هذه نكت الثوار يا خالتي الضاوية .. تصبحين على خير .. النعاس يحاصرني ..
- وعائشة أيضا تقول الضاوية مازحة .اهجع لبعض ا لسويعات . فإنك منهك ، أو أن ثمة شؤونا أخرى تشغلك ؟ .. إنها ليلة أنس مع شمطاء .. خذ هذه (( القطعة )) .
- تناوله خرقة بالية تفوح برائحة نتنة . عائشة تدغدغ مشاعرك يا ولدي ، سيأتي اليوم الموعود ، وتنعم بها وبجسدها الممتلئ.. كما تروي نساء القرية المجاورة .. سأقرئها سلامك . لا تخف . مع أول امرأة تأتيني من هناك .
- يبتسم الزيتونة .. تبادله الابتسامة وأي ابتسامة ، ؟؟ خليط من التخويف .. لو كان طفلا لبكى ، لكنها تختزن حبا كبيرا للوطن .. وللجزائر
- ****** ******
- كان الفجر قد انفلق عندما انتهى الزيتونة من استعراض تفاصيل العملية على مسؤوله الأول بالمركز..
- ومرت اللحظات الراعشة .
- استوطن النفوس يوم جميل مشمس .. خرجت فيه أهالي القرية تقضي أغراضها المختلفة .
- التحفت الضاوية رداءها الرمادي المعتاد . وانتعلت حذاءها الأسود الوحيد .. وراحت تترنح كالضبع .
- كانت السوق العامة تعج بالعساكر والخونة .. لفائف من السود .. حملقت في وجهوهم واحدا واحدا بوجه شاحب . مبالغة في بلادتها كالعادة . مرت دون أن تتعرض للتفتيش . لكنها لم تنجو من شتم بالفرنسية لم تفهم كنهه .سألت شيخا يقرفص على قارعة الطريق عما إذا كان الحاج رابح قد خرج من بيته ، لأنها لم تره في الساحة العامة للقرية .
- أومأ بالنفي .
- اتجهت مباشرة صوب منزل الشيخ مبروك تهرول ، تجر أثوابها الرثة ، استوقفها طفل حاف ، سرواله ممزق من قفاه . لا يتعدى السابعة من عمره . بائس كالشتاء :
- قال :
- أجئيك الآن ، أمي تطلبك في أمر تقول أنه مستعجل .
- وصل بها الأمر أن بصقت على الأرض قبل أن يجف ريقها ،يجب أن أكون قد وافيتها بالجواب .. وإلا سجلت علي تهاونا .
- وقفل الطفل يركض كجواد مدلل ، يمزق الأمتار والأزقة الملتوية برجلين حافيتين متصدعتين كأخاديد أحدثها هطول أمطار غزيرة على منحدر أو جرف .. شعره الأشعث لا يطاوع الوسخ من أن تبعث به لكثرة الأوساخ وبما علق به من بقايا التمر وقش الوسادة .. قفاه الأحمر من البرد يبعث لونا مميزا من خلفه ..
- توارى في لمح البصر عبر زقاق ملتو .
- انزلاق الدقائق كحبات السبحة من صبيحة ذلك اليوم ... وانسحاب بائعي اللبن من الأزقة يوحي للضاوية بالضحى وخروج الرجال ..
وصل القمح في ذلك العام شأوا بعيدا من الغلاء .
لم تحبل السماء بالمطر إلا نادرا .
( الزلط ( الفقر ) ما يظلمش ) أولاد الكلاب .. ما زالوا طامعين في قمح ( لاساس ) ( اكريفوا ) بمعنى موتوا ) يلعن أماتكم .
ينبعث هذا الصوت من بعيد ، إنه الحاج رابح يجر برنوسه في خزي :
تلتفت الضاوية إلى طفل واقف يقضم خبزا يابسا :
( روح قل لآمك راني جاية )
تعج الساحة بالمتسولين والعجزة . كان يوم توزيع القمح بالحفن . يحتشد الناس أمام مبنى ( لاساس ) ( مسؤول المقاطعة العسكرية ) وجوه كدرة.. تتطلع غدا مخبوءا في قبو الآتي .
اندست الضاوية وسطهم .. غيبها الزحام ، التقطت كل ما قيل حتى الخطب التحريضية المترجمة إلى العامية من قبل العملاء / الخونة .
لم تكن الساحة مشجرة.
وحدق الكل في قرص الشمس .. وهم يحملقون في حبات قمح يبدو قريبا من الصفاء . وبعض الملابس يقال أنها مهداة من منظمة غوث اللاجئين .
صقيع الفجر الخريفي يصفع الوجوه الشاحبة .. في يوم تسمّرت فيه أرجل الأطفال من برد لم يعهده سكان القرية منذ خمس سنوات . ما تبقى من ستائر المنازل ذات الاسقف الوطيئة .ظل يتراقص . يصفع جدرانا علاها الندى خاصة في جذورها ، الوجوه الشاحبة يملؤها الشؤم ، ترفع رجلها المثقلة بالوحل والطين بين جيئة وذهاب عبر الأزقة الضيقة جدا في يوم رتيب أغارت فيه قوات العدو على أحد مخابئ الثوار .
عراجين البلح جادت هذا الخريف بما يسد رمق السكان طيلة فصلين لاحقين . لم تجُد كسنوات مضت يشهد لها شيوخ القرية بالعطاء المتميز لكنهم تمكنوا من جنينها قبل أن تدركها أمطار الخريف المضرة وصقيع الأجزاء الأخيرة من ليال أكتوبر .
صبية ُ يركضون في غير نظام ، يتبارون بكومة قماش محشوة بالحلفاء ، تسترهم خرق وسخة مبللة بالوحل والطين وعسل تمر بال أحدث بقعا كأنها ملصقات آخر الموضة أو لوحة إشهارية في عصرنا الحاضر . تسكن عقولهم البراءة وأساطير العجائز وبعضا من سور القرآن الكريم . لا يفقهون في أمور الدنيا سوى الإيمان الجازم بأن الثوار يصعدون الجبال كلمح البصر ولا يتعبون أبدا وأنهم ليسوا مثل البشر يخطئون ..هذا ما تختزنه ذاكرة كل واحد منهم . إلى جانب اعتقادهم الراسخ بأن الأرض يحملها ثور فوق قرنيه .
يسكنهم الإدراك بأن الثوار يأكلون خمس حبات تمر فقط وينتصرون على ( الفرنسيس ( الكفار ) أو يقتلون في كل معركة مائة جندي أو أزيد ..تتصدع أرجلهم وتنفجر بالدم .. يبكون .. وينصرفون .. ويتهامزون بالألقاب .. سيقانهم كادت تضمر وتهزل كأنهم جياد حبسوا رغم ركضهم طول النهار .
يحملون همّا بكثافة الواقع ، لكنهم ممتلئين زهورا ..ترتطم أجسادهم الصغيرة ، النحيفة بالأرض فيسقطون .. ويتهامزون بالألقاب .. في عالم كوني ممزوج بالظنون الموروثة وبعض الأحاجي العالقة بأذهانهم لحداثتها .. يحملون الجوع بكثافة الواقع أيضا .. ولا يأبهون .. تخترق مسامعهم أصوات متفاوتة في الإيقاع ويتناثرون عبر الأزقة كتبن بعثرته ريح همزى .
وينتهون إلى منازلهم ذات الأسقف الوطيئة .
(علي) الأخ الأصغر( لمحمود البقرة )كان معهم .. تميزه بدلته الجديدة وقد لفحتها هي الأخرى شظايا الطين والوحل .
السماء في ذلك اليوم الصقيعي لم تتغير ملامحها . ظلت ثابتة كإطار معلق على جدار ..
وظل حلم (الضاوية) هو الآخر معلقا كالإطار ..
ووارى الجميع ليل صقيعي بارد .
قنّ الدجاج الأحمر ( البري ( البلدي ) لم تتغير أحواله . لم تبض الدجاجات .. ولا النهار الذي مر رتيبا ، سوى نحنحات الحاج رابح وأعوانه عبر باحات القرية تقطع طولا وعرضا الأحاجي العالقة بأذهان الأطفال ، تمزقُ البلح المدخر للفصلين اللاحقين .
أحمد ختاوي ../ خاص ألف
×××××××
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر.
ألف
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2020 | |
21-تشرين الثاني-2020 | |
17-تشرين الثاني-2010 | |
27-تشرين الأول-2010 | |
29-أيار-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |