تغييب الوعي وتسريد التاريخ
2008-01-01
قلنا إن الوعي هو حالة عقلية، يكون فيها الإنسان متميزاً بالقدرة على الإحساس بالذات، وإدراك الواقع، والمحاكمة المنطقية للعلاقة بين كيانه الشخصي ومحيطه الخارجي.
فللوعي مقدمات ثلاث، هي:
1ـ توفر الحالة العقلية السليمة.
2ـ الإحساس بالذات.
3ـ المنطق السليم.
والسؤال هو: ماذا يحدث عندما تتخلف مقدمة واحدة، أو جميعها، عن الحضور، عند مناقشة واقعة ما؟.
أو فلنصغ السؤال ـ وفق العلاقات السابقة ـ في ثلاث صيغ:
1ـ ماذا يحدث عندما يتصدى شخص فاقد للعقل للحكم على حادثة ما؟.
2ـ ماذا يحدث عندما يتصدى شخص فاقد لإحساسه بذاته للحكم على حادثة ما؟.
3ـ ماذا يحدث عندما يتصدى شخص، لا يمتلك القدرة على محاكمة الأشياء وفق المنطق السليم، للحكم على حادثة ما؟.
حسناً. سوف أحاول هنا الإجابة بموضوعية عن كل سؤال من الأسئلة الثلاثة على حدة. فأقول، جواباً على السؤال الأول:
كلنا يعرف أنه عندما يتصدى شخص فاقد للعقل للحكم على حادثة ما، فسوف تتصدى الهيئة الاجتماعية له بالمنع والرفض، واتخاذ الإجراءات الكفيلة بمنع ترتب نتائج مادية أو معنوية على حكمه، واعتباره كأن لم يكن.
أما في الجواب عن السؤال الثاني: عما سيحدث عندما يتصدى شخص فاقد لإحساسه بذاته، للحكم على حادثة ما، فيمكن القول بنزاهة شديدة: بأن الهيئة الاجتماعية سوف تمحضه سخريتها وازدراءها الشديدين، بما يؤدي إليه ذلك من عزل نفسي، وتقرير جمعي، بمنع ترتب نتائج مادية أو معنوية على حكمه، باعتباره حكماً صادراً عن شخص قاصر الإحساس بذاته، ومن ثم اعتبار هذا الحكم كأن لم يكن.
إن أخطر ما يمكن أن يواجه المجتمعات، هو هؤلاء الأشخاص الذين يتناولهم السؤال الثالث: أشخاص فاقدون للقدرة على المحاكمة المنطقية للأشياء، ومع ذلك فهم مصرون على التصدي للحكم، على أكبر الحوادث وأجلها في المجتمع. إنهم حمقى، وخطورتهم تنبع من كونهم حمقى، لا يستطيعون الإحساس بأنهم يجربون حمقهم، في مجالات لا تحتمل عواقب الحمق. وإذا ما فقدت الهيئة الاجتماعية القدرة على اتخاذ الإجراءات، الكفيلة بمنع ترتب نتائج مادية أو معنوية، على أحكام هؤلاء الحمقى؛ فسوف يتعرض المجتمع برمته لضرر كبير.
لكن السؤال الأشد خطورة من كل ما مضى هو: ماذا يحدث عندما يتولى بعض هؤلاء الحمقى السلطة السياسية في بلد ما؟.
بين يدينا بعض ما يمكن لحاكم أحمق أن يفعله، في السطور التالية من التاريخ:
عند حديثه عن ابتداء ولاية الحاكم بأمر الله الفاطمي، في العام 386هـ ، يترجم ابن تغري بردي لأحوال الحاكم، بما حصيلته أنه منع الناس من صلاة التراويح، عشر سنين، ثم أباحها. وأنه أمر بقتل الكلاب، وقطع الكروم، ومنع بيع العنب. وأنه أراق العسل في البحر، لكي لا يحوله الناس إلى خمر. وأنه عندما علم أن بإمكان الرطب أن يتحول إلى خمر، منع بيعه وشراءه، ثم جمعه من الأسواق وأحرقه. ويتحفنا ابن تغري بردي بنوادر أنكى علينا من نار الجحيم، منها أن الحاكم بأمر الله منع الناس من أكل أي طعام يكرهه أو بيعه؛ حتى وصل به الأمر إلى قتل كل من باع الفطر أو الملوخية، أو السمك، أو أكل شيئاً منها.
وفي عام 404هـ خطر للحاكم بأمر الله أن يمنع النساء من الخروج، فمنعهن وألزمهن المكث في بيوتهن ليلاً ونهاراً. وزيادة في تأكيد المنع أمر بتحريم صناعة الأحذية النسائية، وأن لا تنتعل المرأة إلا نعلاً خشبيا، يصلح للبيت ولا يصلح للطريق ـ ولعل ذلك كان ابتداء صناعة القباقيب ـ فلم تخرج امرأة واحدة من بيتها، طوال سبع سنين وسبعة أشهر، حتى مات الحاكم بأمر الله.
وألبس الحاكم بأمر الله اليهود العمائم السود، وكلفهم بتعليق قرامي الخشب في أعناقهم، طوال مرورهم في الشوارع. كما منعهم من الركوب مع المسلمين في سفينة واحدة، وحظر عليهم استئجار أي خادم مسلم، أو ركوب حمار مملوك لمسلم.
أما النصارى ـ الذين يشكلون جزءاً كبيراً من رعايا مملكة الحاكم ـ فقد هدم أديرتهم وكنائسهم، بما فيها كنيسة القيامة بفلسطين، وكان ملك الفاطميين قد وصل إليها. كما أصدر مرسومه القاضي بضرورة أن يلتزموا بتعليق أثقال من الصلبان في أعناقهم، كلما ساروا في الطرقات، مع العلم أن طول الصليب كان يصل إلى ذراع، ووزنه خمسة أرطال مصرية.
وقد عرف الشعب المصري ـ بدهائه التاريخي ـ عرف كيف يواجه هذا الحاكم الأحمق بما يستفزه، فكلما مر الحاكم بالسوق، راكبا حماره، اعترضه (بعض رعاياه)، بورقة يتهيأ للحاكم أنها شكوى، ليكتشف من آخر النهار أنها مجرد رقاع، مختومة بالدعاء عليه وسبه، وسب آبائه، والوقوع فيه وفي حرمه. وقد بلغ من مكر المصريين بحاكمهم أن نصبوا في طريقه تمثالاً من الورق، على هيئة امرأة بخف وإزار. وعندما تناول الحاكم يدها ليعبدها إلى البيت وجدها مجرد تمثال من ورق. فلما فتحها ورأى أنه تعج بالشتائم القبيحة، علم أنه مسخورٌ به، فعاد من وقته إلى قصره، واستدعى قادة الجيش والشرطة، وأمرهم بضرب القاهرة بالنار، ونهبها، وقتل من يظفرون به من سكانها.
فاجتمع القاهريون، وقاتلوا عن نفوسهم. واستمرت الحرب بينهم وبين جيش الحاكم ثلاثة أيام. كل ذلك، والحاكم بأمر الله يركب يومياً إلى القرافة، ويطلع إلى جبل المقطم، ويشاهد النار، ويسمع الصياح، ويظهر التوجع.
ولم يتوقف حمق الحاكم بأمر الله عند هذا الحد، بل بلغ به الأمر إلى ادعاء الربوبية، وتقريب جماعة من الجهلة والمنتفعين، مهمتهم أن يقولوا له، كلما مر بهم، أمام الناس:
ـ السلام عليك يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت.
وهكذا تكتل أوباش الناس، وسخفاء العقول، وتجار الولاءات، حول الحاكم، يدعون الناس إلى حاكميته، حتى مال إليه خلق، كثير طمعاً في الدنيا، وتجارة بالدين.
والسؤال هو: هل كان أي حاكم دنيوي مستطيعاً أن يدعي كل هذه الخوارق، ويأمر بكل هذه الحماقات، بمعزل عن (حكايات الدين)؟.
لقد أدرك حكام الشعوب العربية استحالة حدوث ذلك في العصر الحديث. ولأنهم يريدون ذلك ويسعون إليه، فقد جرى اختراع الشعارات الكبرى.
لقد هتك الفيلسوف الفرنسي ليوتار كثيرا من أستار الخداع المعاصرة؛ عندما قرر أن كل نظرة شمولية، تتم العودة إليها في التفسير، هي مجرد نوع من السرديات الكبرى (Grand narratives) وأن كل دعوى، تستقي مشروعيتها من أساسيات كبرى، سابقة على الوجود، هي مجرد حكاية يتم التلهي بها عن حقيقة العلاقة بين الإنسان والواقع. إنها مجرد خدعة كبرى، تتخذ شكل الحكاية ـ حكاية التأسيس، حكاية الأفضلية، حكاية الحق الإلهي ـ حيث يسعى (البطل/ الملهم) لبلوغ غاية الأمة، نيابة عنها.
فبأسلوب الحكاية هذا، وببلاغة تتوسل باللغة بديلاً عن العقل، يهدهد الطغاة أحلام الجماهير، ويسيطرون على عقولهم ويخدرونهم، ويستلبون ثروتهم.
وها نحن نرى في الواقع كيف يتم تسريد الماضي، ورفعه إلى مراتب الأسطورة، حيث ينادي كل طغاة الواقع العربي بضرورة اصطفاف الجماهير من حولهم، ضماناً لتحقيق مجد الأمة الأفضل في الأرض. إنهم يدغدغون الناس بذكريات ماض لم يكن إلا ماضيهم هم، لا نحن الجماهير المطحونة. إنهم يريدون فتح الأندلس من جديد، ليتخذوا منها الجواري، وليبنوا القصور، ثم لنسكن نحن في بيوت الصفيح، ونأكل من المزابل. وعندما تهب رياح الهزيمة سوف يرحل (أبو عبد الله الصغير) بأمواله عن البلاد، ويدع شعبه نهبا للقتل ومحاكم التفتيش. ألم يحدث هذا دائما؟. ألم نتعرض نحن للحصار، بينما واصل الحاكمون التمتع بأفضل عيش وأهنأ واقع. إن حكاما من هذا النوع لن يكونوا مستعدين للتنازل عن السلطة، رحمة لأنين الجوعى والمحزونين.
فلننظر كيف يرفع الحكام عقيرتهم بصرخات النصر الكاذبة بعيد كل هزيمة. فلنتأمل كيف يدغدغ الطغاة أحلام المجد لدينا، في الوقت الذي يتوسلون فيه للعدو قليلا من الحوار. فلنراقب كيف تتصاعد ضغوطات أجهزة قمعهم لحرياتنا، كلما تكلموا عن الحرية التي يكفلها حلمهم الجميل الذي لن يتحقق. ألم يحن الوقت لمراجعة كل هذا الركام من الحكايات عن (الماضي الجميل) الذي يحاولون الآن تخديرنا بعودته؟. إن أمة تنادي أمواتها للقيام وصناعة النصر صباح مساء، لأمة مخدرة وقاصرة وراغبة عن بذل ما يصلح حالها. وإلا فقولوا لي بربكم أي فخر هذا الذي يستشعره عاقل، من سماعه لكل هذه الأصوات الزاعقة، تستنهض صلاح الدين أن يقوم من قبره؟. ومن قال أن صلاح الدين سينجو حال عودته من قمع الحكام وأجهزة الأمن؟. وأي ابتزاز نتعرض له، كلما طالبنا بقليل من الخبز والحرية، فتعرض حكامنا لنا بالسؤال المهدد: أتريد الخبز أم القدس؟. وأي رعب يمنع ألسنتنا من الرد على هذا الابتزاز، بالمطالبة بالتساوي في المغارم ريثما تأتي المغانم؟. وهل يمكن لشعب جاهل جائع مقهور أن يسترجع القدس؟. ثم ماذا لو قال أحدهم أنه يريد الخبز أولاً؟. ألا يحق لي أن أتوقع عندئذ أن يقوم حاكم متخم باللحم والنساء بقطع عنقه بتهمة الخيانة العظمى؟!.
إن كل هذا يحدث لنا لأننا نملك مستودعا ماضويا هائلا يثقل كاهلنا بأحلام تعجز أمريكا عن تحقيقها. وإن أمة لا تعرف لها مرجعا إلا الماضي، وتستنكف عن الأخذ بأسباب المستقبل؛ لجدير بها أن تواصل تراجعها، كلما أنتجت لغتها معلقة أخرى. إن الأمم تتطلع إلى المستقبل، ونحن نتطلع إلى الماضي.
08-أيار-2021
06-آب-2016 | |
25-أيار-2015 | |
28-أيار-2014 | |
01-آذار-2013 | |
25-تموز-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |