الكذب بوصفه شهوة
2010-07-20
1
أظنها حرارة الغبطة الأبدية الرقيقة , هي رغوة خفية ما تثير و تعلن متعتها أو ابتذالها , غبطة كلذة قريبة أو بعيدة لا تحتمل لحظات الجسد أو فكر الجسد , إني بمقدوري محاكاة ألمي و مراقبة لغته الاغوائية تحت الجلد المقزز و على سطح العين أو حوافها , و أظنها تعابير الشراسة أو الحماقة العنيفة معا , و يا لها من تناقض سافر لا ينضب و غبطة فضائحية متحركة و جدلية في آن واحد , إنها المباغتة الجسدية التي أتحدث عنها أو أشير إلى التبّجل بها و محاورتها كيقينات عابرة أو كملاذ استثنائي للغة الحقيقية المدفونة تحت اللسان الفظ , أظنها رعشة اللسان النموذج الكلام .
2
و لكي لا تكون لهذه اللغة , اللسان الأخر الحر , جسد أخر أكثر قداسة أو نجاسة من الخيال نفسه فان جملة مفردات تكابد لتؤلف ممرًا أخرا تحت الكلمات المستنسخة الهادئة التي لا تستدل إلا إلى منبعها الشهواني الزلال , اللغة عندما تصبح جسدا مضاء بتضاده , إنها عبارة ملعوبة أكثر تذوقا من جسد هلامي صير و اقتيد ليغدو وصف لله و نقش لاشياءه التي لا تدوم و لا تعاد تصنيعه .
3
طوال أقامتي في اللغة , اكتشفت إني نموذج لغوي مشكوك فيه , الشك عبارة مختلسة من يقين مكسور عاجز لا معنى له إلا في ضروراته و التباساته , أناضل لأشكك أكثر , أما أن أجد يقيني أو أبقى في ركامي و متعة كبتي .
4
البارز إن ثمة كلمات تطول إشعاعها لمدة من زمن و تكاد تكون معجزة في بقاءها نقية محفورة في الغياب أو الضياع , أتكون شبقية أكثر من اللازم , أكثر ألحاحاً للحقيقية اللغوية , أكثر اعتزازا للخطاب الكاذب المتغير , أم إنها نابعة من ذلك الخطر الإيمائي المشبّع بهيولى البلاغة ( جماليات الوصف ) أية كلمات هذه التي لا تكف عن الوصف و الصمت و النظرة الناضجة للأشياء و الأشكال و الصور .5
و هكذا يبدو أن الشعر لعبة إباحية رغبوية اشارية ( جماليات العين و الحركة ) ممارسة في حال من الاحوال للشكل السئ للطفولة المقتلعة من جذرها , أقول الشعر في كونه لعبة فردية مترفة أو نزوة غامضة منحرفة لعمل العين و حركتها و كلام اليد في سكونيتها .
6
العرض في كل الأحوال هو تثبيت الكلمات و تقبلها و لنا أن نقبل الكلمات كيفما تكون و كيفما تشاء , نحن أشكال مصنوعة من تراب صدأ , من كلمات منفعلة ضاجة و تكاد تكون مقلوبة و رائعة الوصف .
7
كل شئ يرجع إلى وصفه الأولي بدءا من الملل نفسه و العفوية نفسها أمام دقة البلاغة أو اضطرابها أمام شهية المرئي المهووس في الإكثار من البرهان و المنطق و العقل لاسترجاع الأشياء و استمرارها كمراجع ذهنية لا غير , و السؤال هنا هل أنا شئ أم مفكك اللغة , أنا شئ أم ضرورة الجواب في استنساخ المرئي ذاته بحجمه و انشغاله , بخطأ منطقي راسخ كرسوخ الخيال .
8
القصيدة برهة معرفية خبيثة و باعثة للخيبة كما هي شأن الحياة الداخلية للشاعر المختل ميتافيزيقيا , إلا يستطيع الشاعر الخارج للتو من التاريخ الحصول على معرفة من نحنحنة الكلمات لا من حنجرتها أو رئتها , و القصيدة بهذا الشكل و هذا الانقباض إلى من تتشهون و تنزلق عندما يتنكر الشاعر اقترافه الكتابة و يصبح شاهدا ماكرا مختلا بلا ناموس .
9
لطالما فكرت أن أكون سينمائيا , الفكرة ظلامية ملبدة و طاهرة في نفس الوقت , عين الكاميرا الرقيقة هي مسألة عضوية أتحسس منها , و الدقة أو الأبعاد هي مجرد قراءات مستلبة محببة , النبل هو في اللقطة الصارخة و الاحتواء التصاعدي للصور , أما البعد هو في أن تكون مؤديا راسخا و صانعا للخطر و الغرابة معا , السينمائي هو محطم التكرار , صانع الصرخة العمياء كلسان النار .
10
من الأفضل أن ننصت إلى هذا الماضي الثرثار , تمجيده بكآبته المعهودة و هشاشته الصاعقة , الماضي قطعة لغوية مبللة باستمرار لا يمكن وصفه دون حاضره , انه بان خيال زلق لعوب .
11
كلما قرأت المستقبل بلعته , ألتهمت لسانه الحار , لحظاته الشبيهة بتذوق رواية كتبها مهرج أو مخترع الضحك النموذجي .
12
الظلمة حالة مرضية و العماء مفارقة فظة و العيش فيهما بكل أعضائك لهو إرضاء كبير لممارسة جسدية حمقاء تدل على بلاهة و صوفية مغشوشة و خطيئة متنقلة سفيهة , ولا يقصد من البلاهة سذاجة محتدمة بل منتجاتها التدميرية , مثل البقاء فترة أطول تحت جسد آخر أقل سماكة و شكا و هستيريا .
13
جئت إلى هذه الحياة متصنعاً الشعر , أكتب و أكذب , سيلان من مخادعة متفقة , و نفاق لا أشك في جماله , أكذب دون أن أتوقف في دفق الحلم إلى الأصدقاء الجوار , عارضا بحيرات و شطآن وراءها باقة نجوم و أصوات لأطفال غامضين و غاضبين , أصوات متقطعة كأصوات الفجر الممزوجة بالصرخات , أكتب بفيض شمس تضمحل كأسطورة حب قاحلة , أكذب و أتحدث عن الظل و العشب الهادئ الحاضر أبدا معنا , أتحدث عنه كأني أتذكر معان جديدة للحجر الفائض و صوت الطفل الغامض الذي يراقب حيوانات القرن الثالث قبل الميلاد و عينه ممزقة مشتعلة كمنقار طائر فك من الموت .
14
نتكلم عن الموت, الموت السهل الأخاذ, البسيط الخالص و الأكثر لباقة و شهية, نتكلم عنه كما نحب, و كما يحب هو و يتذوقه , فليس هناك ثمة طريقة لتركه وحيدا يعاني شر الكلمات و نحن معصوبو الأيدي .
15
من جهتي أتوجه إلى النهاية كإنقاذ للنهاية , و هذا لا يعني أن النهاية هي الضياع أو هدم منتحل صاف , الكثير منا يستهويه السير إلى النهايات دون أن يترك كلمة , أية كلمة , حتى تلك الكلمات المتداولة المستثناة التي لا ابتهاج فيها ولا فرح .
16
إني اذكر كلمة الحب دائما دون أن أعنيه , و على ما يبدو هي كلمة مفرطة متدفقة , لكن إلى متى نضعها فوق أوليات حياتنا القائمة على الكلمات , متى يكون اللفظ تعرية لجنس الكلمة و جذرها البريق المباشر , و أظن إني سأضحك و سأهزئ من الكلمة طالما أن الحياة في تفسخ مستمر و اختفاء مقفرين.
17
الحجر مثله مثل أمواج البحر يصنع الموسيقى, و لو غصت أكثر في عمق الحجر لاكتشفت إيقاع الضوء المبلل يخفق كقلب الموتى.
18
هي الكتب القديمة المتفسخة تحمل الموسيقى, صوت الريح وهي تبتسم بعيدا في متعتها الأبدية, الكتب المتلألئة الواهية كقصبات النار.
19
أحبه ,
هذا الجسم المعلم المكشوف الغائب,
أحبه رطبا كثمرة مرتعشة
كزهر صاف سعيد باخضراره و اصفراره لا فرق.
جسم مبدد كخطيئة مغفورة
ملعونة .
20
لم تعد لنا الحاجة إلى الحياة,
لكي نكتب عن الحياة
هذا يعني إننا نعبر عن الكتابة و القلق معاً ,
لم تعد لنا الحاجة إلى اللغة لإشعال الكلمات أو إخمادها معا.
21
هي الشجر تسير أمامنا, تقودنا إلى خريف متعب عابث, هي أوراق الليل المضاءة في زجاج الأعين, تنقلنا إلى أرض مستعادة مكتملة, أرض ناضجة تسيل منها لغتنا القادمة.
عن ملحق ( ابواب ) الثقافي لجريدة تشرين العدد19
08-أيار-2021
16-كانون الثاني-2021 | |
09-كانون الثاني-2021 | |
27-أيار-2020 | |
02-أيار-2020 | |
30-تشرين الثاني-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |