التشبيه المقلوب
2007-12-04
نشر السيد ياسين الحاج في عدة مواقع نص رسالة بعنوان:"وضعيةُ معاصَرةٍ": من النبي محمد إلى المثقف المعاصر" فوجدت فيها آخر ما تفتقت عنه أذهان بعض النخب التي تبحث عن تأسيس لمواقفها في التراث بما يمكن أن نطلق عليه اسم التشبيه المقلوب. وكلما حاولت أن أفهم ما يجري في أذهان النخب العربية التنويرية التي بيدها المبادرة الثقافية الرمزية (النخب الأصلانية بيدها المبادرة الجهادية المادية) ازدادت حيرتي أمام حرصها على الخلط العجيب الذي تفرضه على المعاني الأساسية لتفسد كل شيء بقياساتها المتسرعة قياساتها التي نرى ما أدت إليه منذ بداية ما يسمى بالنهضة العربية.
قرأت سابقا للسيد ياسين الحاج مقالا حول ما اعتبرته المجتمع الجيتوي اقترح فيه حلا للعلاقة
بين العلمانية والأصولية وجدار قمعستان الفاصل بين جنة العلمانية وجهنم الأصولية وصورة الفارين فوق الجدار من جهنم إلى الجنة. وقد حييت تلك البداية لظني أنها بداية قابلة للتحسين. ثم قرأت بعد ذلك لأحد المعلقين على تحيتي لهذا المقال وجدت المعلق يتصورني من القائلين بالدولة الدينية وبالجيتوات المقابلة بل وكاد يتهمني بنظرة سياسية لا تكاد تختلف عن المنظومة اللبنانية.
ولعلي لم أكن واضحا بما يكفي في نفي حقيقة التصورين الثيوقراطي (حاكمية باسم الله) والأنثروبوقراطي (حاكمية باسم الإنسان) وما يتولد عنهما من أنظمة مثل السكتوقراطي (حاكمية باسم الطائفة) أو الديموقراطي (حاكمية باسم الشعب) للسياسة والدولة لأن السياسي من حيث هو سياسي يبقى دائما من نفس الجنس حتى وإن تغيرت الأسماء: إنه خاضع لمنطق الحكم بصرف النظر عن التبريرات الإيديولوجية التي تزيت آليات ذلك المنطق.
فآليات الحكم واحدة مهما تعددت البراقع إنها آليات التحكم في الإنسان عضويا ونفسيا بتوسط التحكم في الرزق والذوق تحكما بدائيا في المجتمعات المتخلفة (الحكم الفاقد للأيدي الناعمة) ومتحضرا في المجتمعات المتقدمة (الحكم المرتدي للحرير المخادع). لكن الآلية هي الابتزاز والمافياوية في العالم كله: فلا معنى للمساواة أمام القضاء مهما كان مستقلا إذا كان القضاء لا يقضي إلا بين من يستطيع أن يدفع ولا يحسم إلا بعد عقود كما لا فائدة للمساواة أمام العلم إذا كان الدواء لا يطوله إلا الأغنياء وكان أربعة أخماس البشرية يتضورون جوعا ولا يكادون يشربون حتى الأجاج !.
التشبيه المقلوب
وها أنذا أجد الآن بنفس القلم أن محمدا الأمي قد كان مثقفا مثل التنويريين الحاليين: لم تكن له رسالة ذات منطلق إيجابي فاعل بل هي ذات منطلق رد الفعل السلبي والنقدي. وطبعا فالقياس يخص التناسب بين الدورين في العصرين لصالح عصر المقيس على المقيس عليه لذلك اعتبرناه تشبيها مقلوبا: صارت الشمس تشبه بأقل المصابيح إنارة !. فيكون محمد أي مثقف حداثي آخر لئلا أقول ياسين عصر جدودنا فيظن بي التعريض بصاحب النص. ويكون أي مثقف حداثي محمد عصرنا. وإذن فالتحديثيون أولى بمحمد لشبهه بهم من التأصيليين لعدم شبههم بما شبه للحداثيين أن محمدا يشبههم به: فهم ضد الجمود ومع التغيير والحركة والاندراج في روح عصرهم بنقد واستقلالية !
التحديثي يعالج وضعية معاصرة فيدرج أمته في حداثة عصرها بنقد واستقلالية مثل محمد. ومحمد أدرج العرب في حداثة عصرها بنقد واستقلالية مثل المثقفين الحداثيين. وهو قد حقق ذلك بالعودة إلى إبراهيم الوحدانية. ولعل السيد ياسين أو أي مثقف آخر سيدرجنا في حداثة عصرنا بإبراهيم العلمانية. ما أجمل هذه القياسات وما أدقها !
هكذا وبضربة واحدة يصبح التاريخ تكرارا للإبداع والفعل عند غيرنا وللتقليد ورد الفعل عندنا. والمعلوم أن التقليد ورد الفعل حتى وإن اتسم بشيء من النقد يبقى تقليدا ورد فعل ومن ثم فهو تبعية وجودية مطلقة: الشعوب تنقسم إلى أمم حرة تبدع الوضعيات المعاصرة وأمم تابعة تحاول الاندراج في تلك الوضعية حتى وإن تجرأت فطالبت بالمساواة ورفضت المعايير المزدوجة ! تلك هي السنة السلفية الحداثية التي يشبه فيها محمد المثقفين العرب الحداثيين: فمن بعد هذه الفتوى يمكن أن يرفض اتباع محمد في التبعية؟!
ولما كان محمد قد حقق هذه التبعية الروحية بالعودة إلى أصل مفقود ليؤسس مبررات التبعية بالانتساب إلى هذا الأصل الواحد فعلينا أن ننتظر من أحد النسابة أن يجد لنا جدا مشتركا مع اليونان (ولعل بعض الدجالين من فقهاء اللغة قد فعلوا ذلك بعد وحتى من محاولي تحديد مستقبل الثقافة في مصر !). آمل أن يكمل الحداثيون تعليل محمد للتبعية الوجودية. فوضعية المعاصرة الحالية فلسفية وليست دينية: إنها تقتضي التبعية لليونان بعد التبعية لليهود.
محمد صار زعيم الاندراج في التقليد الديني الكتابي عامة ولا بأس من أن يكون المثقف العلماني زعيم الاندراج في التقليد الفلسفي الأنترناتي عامة. ويكفي دليلا على ذلك ما ضرب من الأمثلة على لحظات المعاصرة في هذا النص العجيب. لكأن محاولات الاندراج التي أقدم عليها الحداثيون العرب في بعض هذه الأمثلة كالاشتراكية مثلا لم تؤد إلى إفلاس كل البلاد العربية التي حل مثقفوها ونخبها معضلة المعاصرة بهذه الطريقة: اندرجوا في العصر فعادوا بنا إلى عصر الحجارة وأرادوا دولا قومية فعادوا بنا إلى القبلية والطائفية بعد أن كنا أمة تجمع جميع الأجناس والأعراق. والاندراج الجديد سيضيف طوائف جديدة: الليبراليون الجدد والمتمسحون الجدد والطائفيون الجدد إلخ...
ونفس المسار نراه يجري عند الأصوليين بالزي والحداثيين بالمصاهرة والمعاهرة الذين يبنون مدنا غربية تناسب مناخ كثبان الثلج في مناخ كثبانه من الرمال حتى إذا جف ضرعها من زيت الحجارة هجروها إلى حيث هجروا مردود لبنها وعاد الباقي إلى الوبر بعد أن أزالوا المدر وبنوا بالحجر لأنهم لن يجدوا بهذا الاندراج لا الماء ولا الغذاء ولا حتى الهواء الذي أفسدوه بهذا البلاء. لكني أظن أن كلتا النخبتين شبه لهم ما ظنوه وجوه شبه بين مواقفهم من وضعيات المعاصرة ومواقف محمد: ذلك أن موقف محمد لوكان له أدنى وجه شبه بمواقف هذا النوع من التحديثيين لرضي بأن يكون غسانيا أو مناذريا كما فعل التحديثي من نخب العرب تبعية لإمبراطوريتي العصر. لو كان يعتبر الأصالة حفاظا على الماضي لكان جاهليا كما فعل التأصيلي من نخب العرب.
رد الفعل هو الطاغي
كانت النخب العربية بصنفيها في بداية النهضة وبأثر من عقدة النقص والاقتصار على تصور النهضة لحاقا بما يسمونه ركب الحضارة ومجرد رد فعل على ما يجري في التاريخ يبحثون عن السبق فيجدون جل المفكرين الغربيين وأغلب المؤسسات الغربية في المفكرين العرب أو المسلمين والمؤسسات العربية أو الإسلامية. وجدوا العلمانية في ابن رشد والشك المنهجي في الغزالي والماركسية في ابن خلدون والمسرح في المقامة والرواية في الخبر أو ما شابه والوجودية في التصوف إلخ ..من المقارنات السطحية التي ما جنس ما وصفه هيجل ببقرات الغروب التي هي جميعا دهماء أو سوداء وعلى كل فهي ليست شهباء.
وهاهم الآن يكتشفون سبقا جديرا بالاعتبار. لم يبحث أحد عن تلاميد لمحمد في الغرب حتى وإن كان بعض المعقدين يقومون دوره بما يسمونه كلام المستشرقين المنصفين إذ يصنفونه فيرتبونه بين عظمائهم. لكن الآن وجدنا له تلاميذ في الشرق: إنهم المثقفون الذين يعالجون وضعيات المعاصرة بمواقف يشبهها موقف محمد من وضعية المعاصرة في عصره. وذلك هو القصد بالتشبيه المقلوب درجة عليا في الفصاحة والبلاغة. فما محمد رغم أميته إلا مثل أي مثقف حالي أراد أن يندرج في معاصرة عصره. لذلك فهو قابل أن يرشح رئيس حزب للباحثين عن علاجٍ لوضعية عصرهم.
أما أن العصر الذي تصوروه قد حقق الاندراج فيه قد كان عصرا منحطا حتى بالقياس إلى ما قبل الميلاد بخمسة قرون فضلا عما كان موجودا في ما بين النهرين وفي مصر من حضارة فهذا لا اعتبار له عندهم رغم أن محمدا لم يغفل عن ذلك فعلا لا رد فعل: فقد كان يعتبر وضعية العصر منحطة بكل معاني الانحطاط ولم يكن منبهرا بها كما نرى مثقفينا منبهرين بوضعية المعاصرة لعصرهم دون فهم لأدواء البشرية التي جاء الإسلام لعلاجها فاستفحلت في وضعية المعاصرة الحالية.
أما ومحمد قد وقف موقف المؤسس الموجب بمعنى التصديق والهيمنة فقدم بديلا موجبا يفعل ولا يرد الفعل على ما تصوروه ساعيا للاندراج فيه فذلك لا معنى له عندهم: ترى هل من الحداثيين من يقدم بديلا من وضعية المعاصرة التي لهم مع عصرهم أم هم غساسنة عصرنا ومناذرته على الأقل في المستوى الروحي والرمزي حتى لو سلمنا لهم بالحرص على الاستقلال السياسي أعني على المحافظة على دويلات الطوائف وإن بحماية بينزنطة العصر وروماه ؟
أما ومحمد قد ثار على التحريف والجاهلية فهذا لا ذكر له: ذلك أن كل القيم الإنسانية تحققت في وضعية المعاصرة التي يعاصرها مثقفونا وما علينا إلا أن نغرف من المعين الصافي فنكون أفضل من محاولة محمد الاندراج في وضعية عصره لأنها لم تكن بعد قد بلغت الكونية التي ننعم بها !. أما ومحمد أخيرا لم يزعم أنه مثقف بل هو- لحسن حظنا أو لسوئه لست أدري- زعم أنه أمي. أهي الأمية التي جعلته يصبو للاندراج في معاصرة المكتوب لكأن أهل عصره لم يكونوا أميين بهذا المعنى ؟! أم هي أمية البكارة من التقليد لئلا يكون مثقفا يسعى إلى الاندراج في موجود الغالب الرمزي والمادي وضعية معاصرة؟
كل ذلك لا معنى له بل الأمر المهم الوحيد أنه قد حقق الاندراج في وضعية معاصرة لعصره ولم يبق منه إلا هذا الفعل الادراجي فصار أشبه بمثقفينا الساعين إلى الإدراج والرافضين الجمود وتقليد الماضي الأهلي لأن تقليد الماضي الأجنبي هو عين الحركة والإبداع: انتهت وضعية المعاصرة التي عالجها وجاءت وضعية معاصرة أخرى وعلينا أن نفعل ما فعل فنعامل الإسلام معاملته للجاهلية ومن ثم فلنقبل على معاصرتنا ونتبناها كما تبنى هو معاصرة عصره ! هذا هو السني بل والسلفي الصارم !
أيكون محمد قد حاول الاندراج حتى لو وشح ذلك بصفة النقد والاستقلال في عقائد تقول بالشعب المختار وبتأليه ابن الإنسان والمؤسسة الوصية التي تنوبه ونحن لا نعلم ؟ أيكون القرآن ليس كتاب محمد حتى لو سلمنا للعلمانيين الذين يؤلهون الإنسان بان الله لا يمكن أن يبعث كتابا لعربي يعتبر الأنبياء بشرا وعبيد الله مثلهم مثل غيرهم لكنه يمكن أن يكون أبا لأحد أبناء بني إسرائيل ؟ هل الكلام في تحرير البشرية من هذا الطاغوت باسم الإنسان المتأله على الأقل في النصوص من المنحولات التي أضيفت إليه ؟ هل علينا أن نندرج في العصر فنبني مجتمعات ديموقراطية بين قروش الطبقات والعالم والمثقفين الذين هم في خدمة دعايتهم مع وجوب القبول بالاستعمار خارج الحدود لأن الديموقراطية مستحيلة من دون شرط شروطها: مجال حيوي يمدها بالزيت الميسر لحركة الجهاز الديموقراطي ؟
هل نندرج في العولمة المتوحشة بوحشيتها التي هي لها بنيويا وذاتيا لا ظرفيا وعرضيا ؟ هذا ما ينبغي أن نسعى إليه إذا كان محمد قد اندرج في التوراتية والإنجيلية اللتين تمثلان حسب هذا النص وضعية معاصرة اندرج فيها بشهادة العالم الكبير الصديق هشام جعيط الذي يكون قد جعل الإسلام المحمدي أداة عقدية لنزعة عربية قومية حسب هذا التأويل ؟! وطبعا فهذا من الخلط الذي لا يقره من يفهم قصد العلامة جعيط وقبله العلامة ابن خلدون. فكلاهما لا يقتصر على ما يخرق العادات لتفسير التاريخ لكنهما لا يذهبان إلى نفي ما يتعالى عليه.
تكلم ابن خلدون عن الدعوة التي لا تتم من دون عصبية وأيد ذلك بحديث لا يبعث الله رسولا إلا في منعة من قومه. وتكلم جعيط عن الدافع القومي في فكر محمد لكنه لا ينفي عنه البنوة ولم يدر بخلده أن التاريخ يخلو من المقدس. فهل التحديثيون الذين صار محمد شبيها بهم يؤمنون بأن للتاريخ ما وراءه وبأن محمدا حتى وإن صار شبيها بهم ليس فعله مقصورا على وجوه الشبه بينه وبين فعلهم ؟ وبعبارة أوضح هل لهم بديل عما يجري في العالم اليوم أم هم يريدون أن يجعلونا عبيد سيد اليوم فيكونوا أشبه بالمناذرة والغساسنة منهم بمحمد ؟
خرافة الأصل الكتابي الواحد
المعنى الوحيد الذي يستخرج من هذا التشبيه المقلوب هو تصديق بعض المثقفين العرب بأسطورة الاندراج في نفس "التراديسيون" الدينية كما يزعم القائلون بأن الإسلام ليس هو إلا فرعا من أصل الدينين الكتابيين المتقدمين عليه أي التوراة والإنجيل. ولست أدري هل المثقفون العرب يضمرون ما لا يظهرون أم تراهم يجهلون ما استنتجه القائلون بهذه القصة من أمثال ماسينيون الذي كانت له الشجاعة فلم يخف ما استنتج منها: فالنتيجية التي تريدها هذه القراءة والتي هي علتها هي الزعم بأن ذرية إسماعيل هم المجذومون الذين أخرجهم الله من الحظوة التي أعطاها لذرية اسحق وأنه عليهم أن يعودوا إلى دين المنجي (هذا سابقا).
والمعلوم أن ماسينيون قد حدد لمسيحيي الشرق رسالة فكلفهم بإخراج أبناء إسماعيل من وضعية الجذام. وهو لم يكتف بذلك بل كون لها جمعية مشهورة بين أقباط مصر ولعل جل الليبراليين والعلمانيين العرب قد انضموا إلى هذه الرسالة تحت اسم جامع مانع لا يغادر أدبياتهم في مواقعهم: الثورة على البدو الذين هدموا الحضارة في الشرق وهم يجاهدون سعيا إلى تحرير الشرق من آثار البدو القادمين من الجزيرة حتى يدرجوا العرب في حضارة المنجي الآن ومن ثم في المعاصرة التي يريدها لهم بوش وجماعته !
ونحن نرى هذه الجماعات الآن ناشطة وإن بأسماء أخرى وبتمويل معلوم المصدر إما لتنصير المسلمين حبا فيهم حسب رأيهم حتى لا يبقوا مجذومين بمصطلح ماسينيون أو لإدراجهم في العصر حتى يحرروهم من آثار البدو الهمج الذين فتحوا الشرق وأخرجوا منه الحضارة البيزنطية بمصطلح نضال نعيسة الذي يعتبر الإسلام من جنس طوفان التتر ومحمد جنكيز خان وحان وقت تحرير الشرق من البداوة العربية ودينها المتخلف !
هذا هو المعنى أو بصورة أدق الفتوى التي جعلت الحداثي يصبح أكثر محمدية من الأصولي لأنه يريد الاندراج والحركة بدل جمود الأصوليين. فالحركة لا تكون إلا بالتقليد والتبعية. أما الإبداع والريادة وفتح آفاق جديدة للبشرية فلا طمع فيها لأنها حكر على الثقافة اليهودية المسيحية التي اندرج محمد في إحدى لحظاتها ويسعى من يشبههم محمد إلى إدراجنا في لحظتها الحالية. محمد عاش وضعية معاصرة في عصره فعالجها بالاندراج فيها اندراج رد الفعل حتى لو تفضل عليه التشبيه المقلوب فنسب إليه ما تتميز به عليه عبقرية المثقفين المعاصرين أعني النقد والاستقلال ممثلين في مضغ النقد والاستقلال المستوردين من الثقافة الغربية.
والمثقف الحداثي يعيش وضعية معاصرة في عصره ومن ثم فهو محمدي أكثر ممن يتكلمون باسم الإسلام. إنه أكثر محمدية من المحمديين لأنهم جامدون وهو متحرك. والسؤال هو: ما الفرق بين حركة تقلد الماضي الأهلي عند الأصولي وحركة تقلد الماضي الأجنبي عند الحداثي !؟ أرأيتم منطقا أكثر صرامة من هذا المنطق ؟ ألا يمكن أن يوجد بين التأصيليين من يقول بالحركة لا بالجمود إذا زعم أحد أن التحديثيين يقولون بالحركة بدل الجمود ؟ حركة الأخذ والاندراج برد الفعل مهما كان نقديا تبعية روحية ليس فيها شك !
ثم أليست الحركة في الحالتين سلبية: نفي الماضي الأهلي والاستعاضة عنه بالماضي الأجنبي (لأن الحاضر غير مستقر فلا يقلد فضلا عن المستقبل الذي لم يوجد بعد) أو العكس فما الفرق بين الحزبين؟ كلاهما يتصور المستقبل موجودا بعد وعلينا أخذه لأن غيرنا من ماضينا أو من ماضي الغرب يبدعه ونحن نتبعه. لكن لما كان محمد قد قلد ولم يبدع إلا أسطورة النسب الإبراهيمي فإن الإسلام قد كان مجرد اندراج في وضعية المعاصرة ومثله ستكون عملية التحديث العلمانية ! ماذا تريدون أيها الأصوليون: ها نحن صرنا سلفيين أكثر منكم !
أن يكون القرآن متحررا من عقيدة الخطيئة الأصلية وأن يحرر الحياة الدنيوية من الفصام بين بعدي الإنسان العضواني والنفساني حتى إن كل فروضه بدنية أو تكاد بما فيها الصلاة التي هي أقرب إلى الرياضة البدنية منها إلى التهجد الساكن وحتى إن البعث فيه لا بد فيه من البعث الجسدي واللذة الجسدية وأن يبرئ اللذة لذاتها فلا يربط الجنس بالوظيفة العضوية وأن يحرر الإنسانية من الطاغوت الروحاني والزماني وأن يؤسس التاريخ البشري على الأخوة الآدمية –دائما على الأقل في النصوص- فذلك كله اندراج في معاصرة عصره التي كانت تتنكر لكل هذه القيم حتى إن جل الاعتراض على نبوته كان منطلقا منها.
لا يهم أن معاصرة عصره كانت مبنية على نقائض ذلك كله أعني على عقيدة شعب الله المختار والجوهيم والربا والسلطان الروحي والرهبانية والقيصرية والكسروية والأحبار الناكحين لنساء نعاجهم الضالة والأباطرة المؤلهين إلخ...لم يكن الإسلام ثورة مبدعة لحضارة ذات قيم أخرى ولم يكن فعلا إيجابيا بل هو في هذا المنظور مجرد اندراج في وضعية معاصرة بالتقليد حتى وإن زعم أنه يشبه المثقفين المحدثين في ملكة النقد: من لم ير في الإسلام إبداعا لوضعية مستقبلية تصبو إليها الإنسانية هو تقريبا من جنس من تهود أو تنصر من عرب ما قبل محمد. هذا روحيا أما سياسيا فهو من جنس من تنذر أو تغسن فجعل مملكة الطائفة التي يسيطر عليها عبيدا لسيده بتسوطه. أما الطموح إلى إمبراطورية إسلامية مستقلة تحمي القيم الكونية التي أتى بها القرآن فهذا من سخافات البدو ولا علاقة له بالمشروع المحمدي !
طموح الأمة الإسلامية
إن الذين يريدون أن يحيوا ثورة محمد-ولنقبل هذه النسبة لأننا نتكلم مع حداثيين لا يؤمنون بمتعاليات وراء التاريخ رغم ترديدهم لمتعاليات وراء الطبيعة هي شروط الحداثة العقلية التي يتكلمون عليها والتي ينبغي أن ينفوها لو كانوا حقا تاريخانيين ولقالوا بالتطورية الداروينية ومن ثم بما بعد الحداثة التي ليس فيها قيم متعالية لا عقلية ولا نقلية !-لا يسعون إلى الاندراج في وضعية معاصرة حتى ولو زين الاندراج بصفة النقد والاستقلال بل يسعون إلى إبداع وضعيات وآفاق غير مسبوقة تكون فيها قيم الأمة فتحا لأفق جديد لم تعرفه الإنسانية بعد رغم أن الإسلام قد بشر به منذ قرون: وذلك هو معنى تغيير القبلة والذهول عن هذا المعنى يشترك فيه الأصولي والعلماني على حد سواء لأنهما كلاهما مقلد هذا للماضي الأجنبي وذاك للماضي الذاتي.
ما يريده المحمديون هو جعل الأرض معبدا يتساوى فيه كل البشر الذين هم أخوة. ما يريده المحمديون هو تحرير البشر من الطاغوت الذي يراد منا الاندراج فيه تحت اسم الحداثة والعولمة المتوحشتين بالضرورة وليس بالاختيار. فالنظام الرأسمالي والليبرالية ليس صفاتهما الحالية بسب أخلاق أهلهما: بل هي صفات ذاتية للنظامين. الغرب نفسه مثلنا من ضحاياهما إذ إن منطقهما هو منطق المالتوسية والداروينية: وهما يقتضيان الأليغارشية التي تسمى ديموقراطية في الداخل لكنها مشروطة بالاستعمار في الخارج مجالا حيويا ضروريا حتى يرضي المترشح نزوات منتخبيه بنهب ثروات مستعمريه ممن يريد أن يندرج في المعاصرة بالتقليد وليس بإبداع ما بعدها من جديد ! حتى يعيش الأمريكي أو الأوروبي الديموقراطية لا بد من استعباد باقي البشرية لأنك لا يمكن أن تمكن ستة ملايين مليون من النفوس من نفس الحقوق التي يتمتع بها الأمريكي فما في الأرض لا يكفي لذلك. متاع هذا هو حرمان ذاك حتما.
قد يفرح من يتسرع في الفهم فيظن بعض العلمانيين قد صاروا أقرب إلى الإسلام من حبل الوريد إذ بات محمد مثالهم الأعلى في حل مشكل "معضلة معاصرة" بعد أن اقترحوا نظام تعايش جيتوي بينهم وبين الإسلاميين إلى أن ينقرضوا بحكم التطور وبات التنويريون من معسكره في معركة التحديث والإحياء: سيدرجون عرب اليوم في عصرهم كما أدرج محمد عرب الأمس في عصرهم. محمد صار واحدا منهم: فماذا نريد أكثر ؟ والحجة تأويل طريف لأطروحة تنسب إلى شيخ المؤرخين الصديق هشام جعيط: الإسلام لم يعد دينيا كونيا بل مجرد حركة قومية عربية قبل الأوان وستذهب مع أوانها ككل آن. صار الدين الذي أهم مبادئه التعالي على القوميات محركه الأساسي نزعة قومية تمكن العرب من أن يصبحوا لهم مثل اليهود دينهم ورسولهم وكتابهم !
محمد فوق وضعيات العصور
لكأن القرآن لم يقل إن لكل أمة رسولا بلسانها وإن الإسلام هو الدين الكلي الخاتم للعالمين وإن قرآنه رسالة للجميع أي لكل البشر الذي استعمروا في الأرض للخلافة فيها ورعايتها فيعيشوا فيها أخوة كأسنان المشط ! لعل ذلك ليس إلا دعاية محمدية من جنس دعاية بوش للكونية وليس هو عقيدة صادقة ينبني عليها القرآن رسالة للعالمين. لا معنى للآية الأولى من النساء ولا معنى للآيتين 79-80 من آل عمران: كل ذلك كلام ومحمد الذي يشبه التحديثيين لا بد وأنه كان يعلم فن البروباغاندا لحقوق الإنسان تحت جزمة الأمريكان البروباجاندا التي جندتهم لها جونداليزا. كل أفعال محمد أحداث تاريخية ليس فيها ما يتعالى على علاج "وضعية معاصرة": إنما محمد مثقف قومي أراد أن يولج العرب في عصرهم فلم يجد إلا من نكص عن العصر إلى ما قبل الحضارة اليونانية العقلية والمصرية والبابلية الأرقى ليحاكي عقيدته فيجعل مثاله الأعلى قبيلة بدوية اسمها بني إسرائيل التي كانت طالبان العصر !
لكأن التوراة والإنجيل اللذين يتكلم عليهما القرآن هما التوراة والإنجيل اللذان بين أيدي أهل الوضعية التي يراد له أن يكون قد سعى للتعاصر معها. التوراة والأنجيل القرآنيان حدد معالمهما القرآن في كلامه عليهما هو وليس في كلامهما على أنفسهما: لا يمكن لنبي أن يدعي أنه ابن الله ولا لدين أن يجعل مؤسسة بشرية معصومة تتوسط بين الله وعباده كما لا يمكن لرب أن يكون رب شعب يعطيه حق استعباد بقية الشعوب لكونهم جوهيما. والغريب أن ابن خلدون ابن القرن الرابع عشر لم يكن يجهل أن يهود الجزيرة كانوا بادين وأميين ولم يكونوا يعلمون أن الكتاب قد حرف فصار على هذا النحو وأن كل الخرافات والآثار التي استعملت أحيانا في التفسير كانت من هؤلاء البدو فضلا عن إشارات القرآن الصريحة لذلك. لكن نخبنا الحالية تزعم أن محمدا عالج وضعية معاصرة بالاندراج فيها.
ألم يقرأوا القرآن ليدركوا طبيعة الثورة المحمدية ؟ نسبة نصوص الأديان السابقة إلى القرآن هي من جنس نسبة المواد الخام أو الحجارة التي بنيت بها مساجد الإسلام. الصورة التي أبدعها القرآن لا علاقة لها بالصورة السابقة التي كانت لهذه المواد. ألم ير الأستاذ ياسين مسجد الأمويين كما نرى نحن في تونس مسجد عقبة: فبعض الأساطين أو الأركان أو الحجارة من المعابد السابقة لا شك في ذلك. لكنها مجرد خام اندرج في صورة بديعة ليس لها نظير سابق لتندرج فيه: إنه الأفق الكوني المفتوح على السموات والأرضين. الإسلام ثورة أصلية لا صلة لها لا من قريب ولا من بعيد بخرافة الأصل الكتابي الواحد إلا بمعنى عودة الكتابين لما دعت إليه آل عمران من عبادة المعبود الواحد رب العالمين فتكون صلتها الوحيدة بهما صلة الصورة بالمواد أعني مجال الإبداع.
ولنضرب مثال قصة يوسف حتى يعلموا أن الأمر لا علاقة له بما يتصورون. فيوسف التوراة (الإصحاح 37 ثم من الإصحاح 39 إلى الإصحاح 50) شخص تاريخي أدى دور ماكيفال فنصح الأمير بحيلة ليستعبد أهل مصر تماما كما ترى نصحاء السوء في واشنطن. نصحه بأن يفرض عليهم بيع أرضهم التي كانوا يملكونها مقابل القوت الذي احتكره خلال السنوات العجاف: فصار أحرار مصر قبل قدومه أقنانا بعده ! أما يوسف القرآن فهو شخص روائي يجسد مثالا نموذجيا لأنه من شخوص رواية حددتها القيم التي دارت عليها حبكتها أعني القيم التي يتقوم بها الوجود الإنساني.
وهذه القيم هي التي تحدد صورة ما ينبغي أن يكون عليه الرجال الصالحون في الذوق (الحب والجمال) وفي الرزق (الغذاء والمال) وفي السلطان على الذوق وبه (السلطان الروحي أو الخلقي) وفي السلطان على الرزق وبه (السلطان الزماني أو السياسي). وكل ذلك لأنه مسلم مثل محمد لم ينس السلطان الأسمى أعني برهان ربه (الدين الكوني الذي لا يغادر قلب الإنسان). هل هذا فعل أم رد فعل ؟ هل هذا إبداع لعصر جديد أم اندراج في معضلة عصر فاسد بمجرد نقده حتى النقد المستقل المزعوم ؟
إذا كان الاندراج المطلوب هو ما يعدنا به العلمانيون حتى ولو اقتضى بعض المساعدة من الدبابتين الأمريكيتين: الدعائية والعسكرية فنعم المستقبل الموعود للأمة العربية والإسلامية ونعم التلاميذ المحمديين الذين سيقودوننا نحو جنة الوضعية المعاصرة بمنطق التعامل المحمدي عندما يفهم هذا الفهم الذي يباهي المثقفون بالاندراج مثله في التقليد. لماذا ينسى المثقفون أن النخب العربية ومنذ قرنين لم تنفك تدرجنا في التقليد ومع ذلك فهي لم تؤل بنا إلا إلى ما يقضي على التليد ليعوضه بالتقليد البليد؟ هل المجتمعات العربية تعاني من تقليد الماضي أم من تقليد الفاشية الغربية بشقيها اليميني واليساري خلال كل عقود الاستقلال ؟
08-أيار-2021
02-آب-2008 | |
01-تموز-2008 | |
19-نيسان-2008 | |
07-نيسان-2008 | |
01-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |