دور إسرائيل في حكم العرب ومعارضتهم
2008-01-28
كيف نفهم أبعاد الدور الإسرائيلي في المسرح السياسي العربي حكما ومعارضة وما مدى قدرتنا على التعامل مع الرهانات الدولية الحالية حتى نفهم هذا الدور ونقدر على التحرر منه ؟ ذلك أن كيفيات التعامل مع إسرائيل هي العلامة المائزة بين النضوج الموضوعي الذي يفصل بين القدرة الفعلية ومجرد الإرادة في العمل السياسي. فالقدرة الفعلية تتميز بما تطلبه من توفير لشروط الإمكان المحدد. أما مجرد الإرادة فيستغني عن هذه الشروط تجاهلا لمبدأ الواقع وشروط التعامل معه بحكمة و نجاعة.
وهذه المقابلة تصدق على من هو في هذه الوضعية بحسن نية فضلا عمن هو فيه بسوئها: فالكثير من المتعنترين هم أشد الناس اعتمادا على إسرائيل في جوهر وجودهم لأن المطاولة في التعنتر تحول دون الاستعداد للتحرر منه للانتقال من المقاومة التي هي رد فعل إلى القيام الذي هو فعل مشروط بالندية مع العدو. فلا يمكن أن تزعم الحرب على العدو ثم تنتظرمنه أن يكون إنسانيا معك فلا يستعمل كل ما لديه من أسلحة لم تفعل شيئا لتكون ندا له فيها: إنك بذلك لا تكتفي بالتسليم بتفوقه المادي بل أنت تشهد له بالتفوق الخلقي لكأنك تقول له اتركني اكذب على شعبي وحافظ علي في منزلة المتعنتر المانع من الفعل الموجب الموصل للندية بأدواتها الفعلية.
إن الوعي والإرادة المجردين يطلبان ما يشتهيان من دون توفير شروط ما يسعيان إلى تحقيقه: وهذا هو ما يبدو غالبا على تعاملنا حكما ومعارضة مع إسرائيل. أما النضوج الموضوعي والقدرة على الفعل فهما يقدمان تحقيق الشروط على السعي إلى المشروط. ولعل كيفية تحقيق إسرائيل لأغراضها بتقديم تحقيق الأسباب وعجزنا عن تحقيق أدنى شرط من شروط ما نسعى إليه في صدامنا معها كافيا لفهم الفرق بين الإرادة العرية عن فن التعامل العلمي مع محددات الفعل والقدرة المدركة لشروطه.
لم نفهم ما فهمته أوروبا. فهي قد فهمت أنها خرجت من الحرب العالمية الثانية فاقدة لشروط الدور العالمي الذي كان لها قبلها فصارت مستعمرة يتقاسمها القطبان. وكذلك كان مآل المستعمرات الأوروبية ومنها نحن. اختارت أوروبا الصف الرابع وتوحدت فصارت ثاني قوة في العالم. واخترنا الصف الخاسر وتفرقنا فصرنا في ذيل العالم. ولا زلنا في عنادنا مع الصف الخاسر.
ولعل مثال واحد يساعد على فهم القصد من الصف الخاسر الذي اختاره العرب الحاليين. فيكفي أن تقارن ما يحدث في دبي بما يحدث في سنغفورة. فسنغفورة جعلها الصينيون-مثلها مثل تايوان وهونج كونج- مصاصة لرأس المال الغربي لتمويل اقتصاد أمتهم وهي على مقربة من أن تصبح ثاني قوة اقتصادية في العالم . ودبي جعلها العرب-مثلها مثل كل قبائل الخليج- مصاصة لرأس المال العربي لتمويل اقتصاد أعداء أمتهم التي هي على مقربة من الإفلاس المطلق بمجرد أن ينضب زيت الحجر: والدليل حجة لجوء أوروبا لهذه المصاصة فهم يفضلونها على الصين وروسيا في التمويل الخارجي لأن أصحابها ليست لهم سياسة مالية تسعى إلى تحصيل التحكم في الشركات بل هم مجرد تجار في المضاربات المالية يخضعون لإرادة البلد الذي يهربون إليه ثروات بلادهم لأنهم ينوون الهجرة إليه!
إذا كانت إسرائيل تعمل بأدوات تمكنها من تسخير القدرة الدولية بأدواتها الأساسية (المال والإعلام والاستعلام والقوة السياسية والقوة العسكرية ) لما تريده, فمعنى ذلك أنها مهدت لذلك بعلم الأمرين وبتحقيق التوافق بين ما تريده وما يسعى إليه من بيده القدرة الدولية بحسب الظرف الدولي المواتي. ومراكز القدرة على الفعل الدولي التي تستند إليها إسرائيل اليوم فتستعملها لأغراضها ضربان:
إحداهما في أمريكا التي بيدها شروط القدرة المادية الأولى في العالم الحالي وتسعى إلى تحقيق شروط القدرة الروحية بمنافسة أوروبا التي ما تزال محافظة عليها.
والثانية في أوروبا التي بيدها شروط القدرة الروحية في العالم الحديث وتسعى إلى تحقيق القدرة المادية التي ما تزال بيد أمريكا.
لذلك فإسرائيل تستعمل أمريكا خاصة لتوفير شروط قيامها المادي, دون أن تهمل استعمال طموح أمريكا إلى القدرة الروحية. وهي تستعمل أوروبا خاصة لتستمد شروط قيامها المعنوي, دون أن تهمل استعمال طموح أوروبا إلى القدرة المادية. فالأولى تسلحها وتمولها لتستعملها أداة في سيطرتها الإمبراطورية الفعلية. والثانية تمدها بشرعية من عقدتي ذنبها إزاءها (كل التاريخ المسيحي ثم النازية) وتغذيها لتتخلص من أخطائها الخلقية ورمزا لسيطرتها الروحية.
وكلا بعدي إسرائيل هذين يعلمهما النافذ من النخب العربية علم اليقين بل ويستعملونهما كلما دعتهم الحاجة إلى ذلك فيتوسلون إسرائيل ولوبياتها ليرضى عنهم الرأي العام الغربي: يتوسلونها لتبييض صفحتهم في الرأي العام الغربي أما الرأي العام العربي فهو آخر همومهم. ومثل هذا غني عن التمثيل, إذ لا وجود لنظام عربي واحد يقبل الاستثناء من مثل هذا السلوك. ولعل ذلك يصدق خاصة على الأنظمة التي تجاهر بأكبر عداء لإسرائيل: إنها أكثر الدول العربية لجوءا لمثله.
فإسرائيل تسهم مباشرة مع أمريكا في حماية الكثير من الأنظمة العربية عامة والأنظمة التي تجاهر بالخروج عن خرافة الإجماع العربي في الموقف من إسرائيل ماديا وذلك في المشرق والمغرب على حد سواء. وإسرائـيل تسهم بصورة غير مباشرة مع أوروبا في حماية الكثير من الحركات التي تدعي التحديث وذلك في المشرق والمغرب على حد سواء.
وحتى الحركات التي تدعي الأصولية فأغلب زعمائها يعيشون في حماية أوروبا وأمريكا وبالتالي في حماية سلبية من إسرائيل التي ترضى لوبياتهما عن بقائهم تحت أعين الاستعلامات الغربية. وما لم نتخلص في الحالتين من الحاجة إلى مثل هذه الحماية يبقى دور إسرائيل ولوبياتها المنتشرة في العالم, دورها في سياستنا العربية رئيسيا وجزء لا يتجزأ من المعادلة العربية الداخلية.
ويجتمع كلا الإسهامين في صيرورة أمريكا وأوروبا بالذات وإسرائيل ولوبياتها فيهما بالوساطة الجسر الضروري والكافي في كل مبادلات الدول العربية الاقتصادية مع العالم بضائع وخدمات وخبرات وأدوات تبادل استثمارا وتمويلا وتسويقا: وذلك يصح على حركات رأس المال الخليجي الذي هو سيولة مالية لا يمكن أن تعمل حقا إلا بتوسط أرباب البنوك في العالم وعلى حركات البضائع والخدمات (كالسياحة مثلا) في بلاد المغرب العربي والتي هي بيد يهود فرنسا ممن هاجر من المغرب العربي.
أما دورها في وسائل تكوين الرأي العام الدولي فإنه من البين أنها قد صارت الجسر الذي تمر به إيجابا أو سلبا كل الأنظمة والحركات العربية لتسويق ذاتها في دوائر صنع القرار وفي الرأي العام الغربي النافذ. لذلك فكل من يتحدث عن معركة المقاطعة والتطبيع من دون أخذ هذه الأمور في الاعتبار لا يغالط إلا نفسه: وهو يكذب على الشعب العربي. معركة المقاطعة خسرها العرب بمجرد أن أصبح الرهان غير مقصور على إسرائيل الجغرافية.
فالرهان في العلاقات الدولية تجاوز الحيز الضيق بين العرب وإسرائيل بمقتضى العولمة إلى كل الشبكة التي بيد من يأتمر بأوامر اللوبيات ذات الصلة الوطيدة بإسرائيل: وهو أمر لا يمكن لأي عربي صادق أن ينكره خاصة والإنكار حائل دون الفعل الحقيقي الوحيد القادر على الصمود أمامه قصدت توحيد العرب وتكوين كمنوالث إسلامي قادر على التعامل الندي مع اللوبيات العالمية التي تعمل لصالح إسرائيل.
فمن عدم الحكمة مواصلة هذا التصدي السلبي بالأسلوب التقليدي الذي عهدناه حتى لو سلمنا بحكمة الشروع فيه من الأصل: إذ لا يمكن أن تقاطع العالم كله لتقاطع إسرائيل مقاطعة يكون ضررها عليك أكبر من ضررها عليها. والبديل الذي نقترحه يحقق أمرين: فهو أولا يغنيك عن المقاطعة لأنه يعطيك الندية في العلاقة فيكون التهديد وحده بالمقاطعة أقوى حتى من الكذب بمقاطعة مستحيلة. وفهم هذا الأمر ثانيا يقلل من كثرة الكلام عما يسمى بسلاح البترول العربي أو سلاح الأموال العربية بصرف النظر عن عوائق استعمالهما الأخرى وخاصة شرط الإجماع فضلا عن كون المرء الذي يعيش من مورد واحد لا يمكن أن يستعمله سلاحا إلا بقتل نفسه لأنه أحوج لبيعة من شاريه لشرائه.
والفرق الوحيد بالنسبة إلى الأنظمة التي تتكلم باسم القومية هو أن دور إسرائيل في سياساتها لا يبرز للعيان رغم كونه لا يقل عنه في سياسة الأنظمة التقليدية, ورغم كون البعد الجامع بين دوريها هذين لا يقبل الإخفاء كما يتبين من أمثلة الصدام بين الأنظمة القومية والحركات الدينية غير التقليدية الصدام الذي يفضح كل الدعاوى والمغالطات كما حدث في الكثير من المناسبات داخل نفس القطر أو بين الأقطار العربية أو حتى بين بعضها وبعض الأقطار الإسلامية.
ويصبح الاعتماد على الوساطة الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة أوضح من فلق الصبح في حالة المعارضة العلمانية حتى وإن كانت المعارضة الإسلامية نفسها باعتمادها على الهجرة إلى الغرب تكاد تكون في نفس الوضعية. فهي لا تستمد ما يمكن أن تتمتع به من نفوذ وحرية نسبية في بلادنا إلا بما تضمنه لها أوروبا والإعلام الغربي (وهنا يكمن دور إسرائيل النافذ) من حماية.
وحصيلة القول هي أن إسرائيل قد أصبحت لاعبا أساسيا في المعترك العربي الإسلامي بجميع أبعاده في مستوى الحكم والمعارضة على حد سواء وفي كل المجالات الاقتصادية والثقافية وحتى الاجتماعية (التحركات النقابية وكل تنظيمات المجتمع المدني مثلا) مما يوجب التعامل معها على هذا الأساس من موقع التمييز بين البحث عن شروط القدرة المستعملة للموجود سعيا لتغليب المقبول منها على المرفوض عند الصادق من النخب ومجرد التعلق بأوهام الإرادة عند الديماغوجيين.
لذلك فلا بد من الاعتراف بأنه لا يمكن للمرء أن يعالج القضايا الأربع الأولى من دون حسم هذه المسألة. فهي يمكن أن تكون العائق الجوهري ويمكن أن تكون المحفز الأساسي بحسب التعامل الناضج المستند إلى القدرة الفعلية الحاصلة والمخططة لتطوير نفسها أو التعامل المراهق المستند إلى مجرد التنديد والوعيد. لا يمكن أن نواصل التعامل مع إسرائيل في ظرف الشرق الأدنى وكأنها ليست من العناصر الأساسية المؤثرة في كل وجوه الحياة العربية فضلا عن قوميات الشرق الأوسط غير العربية.
ففي الحكم لا واحد من الأنظمة التقليدية بقابل للاطمئنان للأنظمة غير التقليدية وجلها إن لم تكن كلها تعتبر إسرائيل الرادع الوحيد دون الأنظمة القومية التي تشعر بأنها تهدد عروشها ومصالحها بناء على تجارب يصعب أن نشكك في دلالاتها: وبهذا وحده يمكن فهم الاصطفاف المسمى صف الاعتدال وصف التطرف أو صف الصمود وصف الاستسلام بحسب مصطلحات الصفين المتقابلين.
وفي المعارضة لا واحدة من الحركات التحديثية العلمانية بقابلة للاطمئنان للحركات التأصيلية الدينية. لذلك فهي تتناسى الأنظمة التي تهدد حريات أفرادها مكتفية بالاحتماء الإعلام والرأي العام الغربي لها وهي حماية ذات صلة وطيدة بإسرائيل حتى وإن حاول البعض إخفاء ذلك لتتفرغ للحرب على الحركات الأصولية وقيم الأمة.
ولسوء الحظ فإن هاتين الحقيقتين من الأمور التي لا شك فيها: وهي من ثم علامتا الدور الأساسي لإسرائيل في السياسة العربية حكما ومعارضة. ومن ينفي ذلك يكذب على الأمة ولا يريد الكشف عن الداء الذي أوصلنا إلى هذه الوضعية لئلا نعالجه العلاج الشافي. والتصريح بهذه الحقائق رغم ما فيه من آلام يمكن أن يخلص السياسات العربية الحاكمة والمعارضة من الازدواجية فيحررنا من العنتريات الزائفة.
دلالة تردي الإبداع والإعلام العميقة
يمثل تردي الإبداع والإعلام في الحضارة العربية الإسلامية الحالية- وهو ترد لا ينكره أحد لتواتر علاماته, رغم ما أشرنا إليه سابقا من نضوج النخب العربية في الجملة- عرض الدائين الرئيسيين اللذين يكاد يحصل حولهما شبه إجماع توصيفي لأمراض مجتمعنا العربي الإسلامي الحديث. لكن هذا الإجماع وجه التشخيص والعلاج إلى حلول أحادية النظرة فأفسد شروط التحليل العلمي لأهم هذه الأمراض في لحظتها الراهنة وحال دون إصلاح شؤوننا العامة. فأما العلامة الأولى فهي ما ألم بمجال الإبداع الأدبي الذي يكاد أن يغرق في مستقنع الطحالب والزعانف. فلا أحد يمكن أن يزعم أن الحل والعقد في تحديد المعايير والقيم العامة المسيطرة على الساحة الإبداعية يوجد بيد أفضل المبدعين ولا حتى أقرب المفضولين إلى ذوي الفضل: ولعل أكبر مؤيدات هذه الظاهرة ما يغلب على اتحادات الكتاب العربية. فأغلب روادها من عيون الأحزاب الحاكمة ووزارات داخلياتها. وأما العلامة الثانية فهي ما أحاط بمجال الإخبار الإعلامي الذي يكاد يتلخص في الإيديولوجيا الرسمية وفي بروباجندا الأحزاب وعبادة الأشخاص والأنظمة الحاكمة: وتصح نفس المؤيدات والعلامات حتى وإن اختلف التعين التنظيمي التابع والمتبوع إذ ننتقل من وزارة الداخلية إلى وزارة الإعلام ومن اتحاد الكتاب إلى نقابة الصحافيين.
لكن طابع هذا التوصيف المباشر وبساطته قد يجعلانا نرتاب من بداهة التشخيص الذي ينتهي في الغاية إلى إهمال علل الأدواء لحصر الهم في علاماتها وقصر التشخيص على أدنى العلل أعني العلل السياسية التي يعتقدها البعض ناتجة عن طبيعة السلوك السياسي للحكام والأحزاب الحاكمة. لكأن الحكام والأحزاب بيدهم عصى سحرية يجعلون بها الجميع رهن طوعهم يفعلون ما يريدون. فلماذا يهمل أصحاب هذا التصور العجول النظر في إمكانية قلب العلية خاصة ومن شروط السلوك السياسي صلاحا أو طلاحا الأخلاق العامة التي تجعل الأمرين ممكنين؟ ألا يكون التفسير السريع بفساد الأنظمة والحكام وحده مجرد مهرب هدفه تجنب المعارك الحقيقية وقصر الهم على مجرد الجدل السياسي الذي ينتهي إلى الحل السهل المتمثل في السلوك الانقلابي: لكأننا لم نجرب هذا السلوك ونتأكد أنه لم يغير شيئا بعد قرن كامل من الغوغاء السياسية التي حالت دون كل استقرار مؤسسي شارط للتربية المدنية و للمحكومية السلمية؟ ألسنا نرى الجمهوريات التي عوضنا بها الملكيات ما يزال واقعها أدهى من سلطنات القرون الوسطى؟
ومهما سلمنا بأن أخلاق النخب السياسية ليست على أحسن ما يرام ومهما قبلنا باستحالة تبرئة الأحزاب الفاشية أو القبائل البدائية أوالطوائف العنصرية التي تتقاسم أقطار الوطن بتسلط وعنجهية ذاتيين وبتآمر وتدبير أجنبيين من جرم الاستفادة النسقية من أدواء مجتمعاتنا بدلا من السعي إلى تقويمها, فهل من الجدية أن نتوهم نهضتنا لا يعوقها إلا طبيعة الأنظمة وأخلاق الحكام أو غياب الديموقراطية الشكلية؟ أفتكون أخلاق النخب الأخرى أفضل وخاصة النخبة الجامعية المنتجة لكل النخب وخاصة للتي يزين منها سلوك هؤلاء الحكام؟ هل ترى نخبنا الجامعية الإعلامية تقبل المقارنة مع نظيراتها في المجتمعات التي نعتبرها نماذج تُحتذى, أم إن استشراء الداء في هذه النخبة يثبت أنها أول المتواطئين مع كل المفسدين بحيث إن العلامتين اللتين يكثر النعي عليهما لا تشيران إلا إلى تفشي هذا الداء السرطاني وفساد الأخلاق العمومية والقيم الشارطة للصلاح في المجالين السياسي والمدني؟ لمَ لا يكون النمو العجيب للطحالب والزعانف و"البصاصين" في ساحتي الإبداع والإعلام الناتجين عن تردي التعليم إلى شبة تعميم للأمية وتكديس الخريجين العاطلين علة تبعية المجالين للأحزاب الحاكمة بما توفره لها من نخب مزيفة ومثقفين مرتزقة, التبعية التي سيطرت منذ نصف قرن فأصبحت السمة الغالبة على كل حياتنا الفكرية والخلقية بدلا من اعتباره معلولا لها ؟
وبصورة أدق لماذا لا ننظر في دلالة التعليل المتبادل بين الظاهرتين –فساد القيم الخلقية العامة التي يمثل تردي الإبداع وتبعية الإعلام علامتيها القصويين وفساد الأنظمة التي يمثل توظيف هذا التردي دلالتها المثلى- فنفسرهما بمنطق أكثر جدية يركز على طبيعة التفاعل بين الاقتصادي أولا والتربوي ثانيا والثقافي ثالثا والخلقي رابعا والسياسي أخيرا في المستويين الوطني والدولي تفسيرا يجعل الظاهرة أمرا قابلا للتعليل الكلي الذي يتجاوز الوضع العربي الراهن فتصبح من ثم قابلة للعلاج الهادف إلى تحقيق شروط النقلة إلى وضع سوي؟ إذا قبلنا بمثل هذا العلاج المعقد ومتعدد التعليل صار بوسعنا أن نتخلص من حصر الأمر في النعي على الحكام وأنظمتهم وحدها لكأنهم أتونا من المريخ فلا يبقون كما هم عندنا الآن مناطا نعلق عليه كل مآزقنا التي لا نريد لها حلا لكوننا نهمل التعليل الصحيح والعلاج الأليم لنرضى بالمسكنات والمهدئات الإيديولوجية التي جعلت البعض ينتقل بقفزة يصعب فهم منطقها من هوى الديموقراطية الشعبية إلى الهيام بالديموقراطية البرجوازية.
لا ننكر أهمية الإصلاح السياسي خاصة إذا كان تدريجيا وسلميا. لكن هذا الإصلاح لا يكون البداية إلا بشرط ألا يصبح الغاية. فالسياسة لها معنيان: فن الحكم وطبيعته شكلا وتلك هي الأداة وجوهر الأحكام وقيمها مضمونا وذلك هو الهدف. لذلك فعلينا الخروج من معارك البداية التي طالت قرنا كاملا لنحدد جواب الغاية التي لم يدر حولها حوار جدي: فكيف نعلل الرشوة السائدة عندنا في كل الأنشطة الاجتماعية؟ والانتخابات المزيفة في كل التنظيمات الحديثة ذات الآلية الانتخابية؟ والبضائع المغشوشة في كل الإنتاجات المحلية؟ والخدمات المنحطة في كل المصالح المدنية ؟ والقضاء الذي فقد ثقة المتقاضين في كل الأصناف الحكمية ؟ والتعليم المتدني في كل المستويات التربوية؟ والعملة المتدهورة في التبادلات الداخلية والخارجية؟ والقيم بجميع أصنافها الجمالية والخلقية والمعرفية والحقوقية والروحية التي صارت دون العملة صمودا أمام التآكل المتسارع؟ أليس ذلك كله من الأمور التي لا ينفيها إلا معاند ولا يرتاح إليها إلا مهادن للشر استفادة من ثمراته المرة في المدى البعيد؟
فهل هذه العاهات يكفي لتفسيرها طبيعة نظام الحكم أو سلوك الحكام أو أخلاقهم أو عمالتهم مهما نسبنا إلى السياسي من قوة تأثير؟ أليست النخب السياسية إفرازا لهذا الفساد العام المستشري مما يؤكد بكل وضوح أن الأمم كيفما كانت يولى عليها؟ لا بد أن نسأل متفجعين عن العلل العميقة: لم هذا الانحطاط المتزايد في صفتي كل الأفعال التي تقتضي جهدا بشريا صفتيه التقنية والخلقية بحيث بات لا يصلح في مجتمعاتنا مما هو من عمل الإنسان إلا ما كان منه مستوردا- إن ليس في الواقع الفعلي ففي الرأي العام- مما يعني أننا سنضطر شيئا فشيئا إلى حصر تعاملنا مع الغير في استبدال ثرواتنا الطبيعية التي أعطتنا إياها أرض الآباء بالبضائع والخدمات الاستهلاكية التي تزيد التبعية تعميقا والفقر تجذرا خاصة وعدم التوازن بين حدود التبادل بين الخام والمصنع لا يتوقف تزايده ؟
ما الذي يجعل الجامعات التي مر قرن تقريبا على تكوين البعض منها ما تزال تدور في فراغ فلا تنتج شيئا مما يحتاجه المجتمع بما في ذلك أدوات عملها الذاتية من أبسط التجهيزات المكتبية في الإنسانيات إلى أعقد التجهيزات المخبرية في الطبيعيات, رغم تضخم عدد الشهادات وألقاب الدكتوراهات ؟ لماذا أصبحت كل النخب بحاجة إلى الإيهام بأنها تفعل شيئا لتعلل وجودها في حين يعلم الجميع أن الكل يدور في حلقة مفرغة كما يتبين من خواء أهم قاطرات الإنتاج في المجتمعات البشرية أعني الجامعات ومعاهد البحث التي صارت عندنا معامل تفرخ هذه الطحالب والزعانف أعني كل من كان من أعشار المتعلمين والعاطلين بالكامل والمتفرغين من ثم لملء المتسنقعين الإبداعي والإعلامي, بدلا من أن تكون منبع الإبداع والإعلام المثمرين عندما يكونان وسيلتي خلق المعدوم من المبتكرات وسيلتيه المصاحبتين لتبليغ الحاصل للمتعلمين أو للجمهور عامة ؟
لماذا لا يزال كل شيء يستحق الذكر في منشآتنا ( كبناء المعامل والمستشفيات المختصة ) ما كان حديثا أو حتى محاكيا للماضي ( حتى بناء أكبر المساجد ) يعود إلى الخبرة المستوردة خلال قرنين من محاولات النهوض وبعدهما ؟ ورغم أن هذه الظاهرة تبدو سائدة في بعض الأقطار العربية الغنية أكثر منها في أقطار الوطن الأخرى فإنها ليست بالأمر الخاص بهم, لكون النخب الحاكمة في الأقطار العربية الأخرى تفضل الانتقال إلى هذه المرافق بدلا من نقلها إلى أوطانها ربما بسبب قلة الموارد فتكون من حظها وحدها دون سواها من المواطنين ( المدارس الراقية لشبابها والمصحات المتقدمة لشيوخها والملاهي الباذخة لكل أجيالها ). فهي فيه أكثر بروزا لكون حركة التعمير فيه تحاكي ما يوجد في أكبر حاضرات العالم المتقدم من دون أن يكون ذلك دالا على حيوية تعميرية ذاتية. فكلها منشئات ليس فيها شيء واحد عربي بحق عدا موقعها الجغرافي وملكية الاستمتاع بشروط الحماة. أما التصور والإنجاز والتجهيز والصيانة وحتى التسيير فكلها بخبرات مستوردة ومؤبدة للاستيراد ومن ثم للتبعية حتى في كيفيات العيش وفي أدنى أدواته: وكل ذلك من آيات فشل التعليم وإفلاس الجامعة التقني والخلقي, التقني لعدم الخبرة والإتقان والخلقي لعدم التكوين السليم والضمير المهني.
لا بد من علل أعمق لتفسير وجود هذه الأدواء التي اخترنا منها علامتي أدواء الثقافة الراقية في مستوييهما الجمهوري فرعا والأكاديمي أصلا: علامة داء الإبداع العلمي والجمالي وعلامة مرض الإعلام المعرفي والسياسي. ذلك أنه إذا كان الكثير يبالغ في الحديث عن المستنقعين الإبداعي والإعلامي الجمهوريين اللذين يعسر إخفاؤهما فإن مستنقعي الإبداع العلمي والإخبار الإعلامي في المستوى الأكاديمي وضعهما أسوأ. فهو أصل دائي المستوى الجمهوري اللذين يمثلان اليوم أبرز علامات الفساد العام المستشري في جسد حضارتنا التي هي ميتة ذاتيا ولا تستمد حياتها المستعارة إلا من الخبرات المستوردة ومن ثم من أجهزة حياة مصطنعة مثل المريض الذي يبقيه الأطباء في حياة نباتية آلية. فإلى تردي مستوى الإبداع والإعلام الأول يعود تردي مستواهما الثاني لكون الجامعة هي التي تخرج منتجيه الذين يستمدون نماذجهم منه. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الصراع المفتوح في مستنقعي الإبداع والإعلام الجمهوريين ييسر فضح الدجالين والمبتعدين عن أخلاقيات المهنتين بخلاف مستنقعي الإبداع والإعلام الأكاديميين اللذين يغلب عليهما منطق المافية الحائل دون فضح الدجالين وكشف المبتعدين عن أخلاقيات الحرفتين باتت فداحة الداء بينة للجميع: أسباب انحطاطنا الأولى والأخيرة تعينت تعينها الأتم في جامعاتنا خاصة وفي نظام تعليمنا وتربيتنا عامة.
فكل نظام تربوي مؤلف من مستويين: خاص يمثل منظومة من المؤسسات الاجتماعية التي يخصصها المجتمع لهذه الوظيفة وعام يمثل بعدا من كل المؤسسات الاجتماعية الأساسية الأخرى أعني في منظومة المؤسسات الأسرية وفي منظومة المؤسسات المنشأية الاقتصادية وفي منظومة المؤسسات السياسية وأخيرا في منظومة المؤسسات الروحية. وإذا كانت المؤسسة المخصصة لوظيفة التربية التي يغلب عليها التكوين العام في كل أبعاد التربية هي المؤسسة المدرسية بكل مستوياتها من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة فإن كل واحد من أبعادها يغلب بصورة عامة على كل واحدة من المؤسسات الرئيسية التي أشرنا إليها: فالمؤسسة الأسرية يغلب عليها البعد العاطفي من التربية والمؤسسة المنشأية يغلب عليها بعدها المهني والمؤسسة السياسية يغلب عليها بعدها المدني و المؤسسة الروحية يغلب عليها بعد التعالي من كل هذه الأبعاد التربوية.
ولما كان كل نظام تربوي تقاس فعالياته التقنية والخلقية بنوع الإنسان الذي يكونه وكانت هذه الفعاليات تتمظهر بسلوك الإنسان والأخلاق العامة السائدة في كل المؤسسات وخاصة في المؤسسة التي توكل إليها الوظيفة التربوية, فإن كل أنظمة المؤسسات الأخرى في المجتمع يقاس نجاحها الفني الخاص بوظائفها والخلقي المشترك بينها جميعا لكونها لا تختلف الواحدة منها عن الأخرى إلا بنوع ظهور الخلق الشخصي والجمعي في ممارسة تلك الوظائف. فيحق لذلك أن نعتبر فساد النظام التربوي علة كل فساد في المؤسسة التربوية وفي كل المؤسسات الأخرى. ولما كانت الجامعة هي قاطرة المؤسسة التربوية التي هي قاطرة ما عداها من المؤسسات, إذ هي معمل المربين ومنبت كل الكوادر في كل المجالات التي أحصينا, باتت الجامعة غاية كل تشخيص للأدواء وبداية كل تحديد للعلاج: لذلك فهي شرط الانتصار في كل معاركنا إذا كنا نريد خوضها بحق بدءا بأدواء الذات وختما بعدوان الغير الذي يكون سلاحه الأمضى عادة ما يستند إلى المعرفة بأدواء الذات. فليس ما يصيب وظيفتي الإبداع والإعلام الجمهوريين إلا مجرد علامات على الاختلال في نبض المجتمع.وهي علامات دالة على ما أصاب وظيفتي قلبه أعني وظيفتي جامعاته: المستوى الفني والخلقي في وظيفتي الإخبار بالحاصل من المعرفة والخبرة وإبداع غير الحاصل منهما لتكوين الإنسان الذي يتحقق بهما فيكونان جوهر قيامه وعين فعالياته في الطبيعة( الاستخلاف النظري وتطبيقاته ) وفي الشريعة ( الاستخلاف العملي وتطبيقاته ).
08-أيار-2021
02-آب-2008 | |
01-تموز-2008 | |
19-نيسان-2008 | |
07-نيسان-2008 | |
01-نيسان-2008 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |