قصة / الفُتات
2010-08-10
الفُتات
جلس على كرسيّه المصنوع من خشب "السّحاحير" ، ولف رجلاً فوق رجل، شبّك ذراعيه حول صدره ، وأغمض عينيه ، ليتلّقى شعاعاً رقيقاً ، تسرّب عبر النّافذة العالية في " الكردور" الطّويل، ثم شرد!!
قرصته نسمة باردة . اختبأ في كرسيّه . حاول أن يقاوم، أن يعيد الحالة ، لكنه أخفق. نهض. وبخطا بطيئة سار ليعود إلى مهجعه . على حافة النّافذة، وقف عصفور مشاغب، مسح منقاره بحديدها، وراح يتنقوز.
وقف يراقب المشاغب الصغير، لكن المشاغب عندما رآه، سخر من هيكله، وطار.
دخل إلى المهجع ، فتتّت رغيف الخبز ، ونثره على حافة النّافذة المفتوحة، ثم عاد إلى المهجع . أغلق الباب الحديدي المصمت خلفه، وراقب النافذة من " الشّرّاقة"*.
اقترب عصفور بحذر ، وسرق نثرة خبز، وطار بها، ثم عاد بعد قليل، وسرق نثرة أخرى وقبل أن يطفئ صديقه المذياع، كانت باقة عصافير تثرثر هناك، وتسرق الفُتات ، وتسِّرح ريشها بمناقيرها، وهو خلف الشّراقة يراقبها.. وقلبه كان يطير معها, خفيفاً يرفرف كورقة عنب بريّة...!!
صباح اليوم التّالي، وبعد فتح أبواب المهاجع بقليل فتح نفس النّافذة ، وبسط على حافّتها فتات الخبز، وجلس قُبالتها،ينتظر صغاره، وينفخ في كفّيه، ويفركهما، ويفرك ركبتيه، وينقل بصره بين باب الجناح، وأبواب المهاجع وشرفة النّافذة المفتوحة.
خرج صديقه غاضباً من لسعات البرد المفاجئة...
النّافذة مفتوحة ،وبرد المنطقة يخز الأطراف والمفاصل, ويترك أجسادهم المتألمة من معادن الأمس وخيزرانه طعماً سائغاً, وهو يبرد قُبالتها..!! فماذا يحدث؟!
لكنه لم يسأل. أغلق باب المهجع، وعاد ليختبئ في فراشه، وعند الظهر عرف أن العصافير كسبتْ صديقاً جديداً ، قد يخسره هو بسببها..!!
قرقعت السّطول على باب الجناح معلنةً وقت الغداء..
راح يبحث في المهاجع عند أصدقائه عن خبز فائض عن الحاجة، ليطعم العصافير ، ليزرعه على حافة النّافذة، ويجلس، يمرّر وقته الجاف بعبق حركاتها ورطوبة ثرثراتها ، وحذرها المثير.
كان يدمن نشرات الأخبار ، ويستغرق في التحاليل، ويجد دائماً من يصغي إليه، كنا نطلب منه أن يكتب تحاليله..فيرد تضيع الفكرة إذا أمسكت القلم...اكتبوا أنتم ..لاوقت لدي أضيعه ثانية....
ثم تسرّب الضّجر إلى أيّامه قطرةً قطرةً .
أخفق في إحدى الليالي عن إيجاد خبر ما في محطة ما, يشغله، يوصله إلى حافة النوم ،فاعتبر أن مهمة المذياع انتهت,ثم أهداه في نفس الليلة إلى صديقه الذي كان يحلم بمذياع خاص به,تردد صديقه معتبراً أنها هدية فوق تصوره..لكنه بعد إصراره أن مرحلة البحث الإذاعي خلصت, وأن المذياع أمسى عالة عليه قائلاً :
-هيك أحسن...أصلاً ما عم إعطيك هدية أنا عم إعطيك ورطة..
رغم معارضة صديقه، ورفضه قبول الهديّة ،إلا أنه كان صارماً, وبعد أيّام تأكد الجميع ، أنّه لم يعد راغباً بسماع المذياع.
استغرقته العصافير، شغلته، ويوم سمع زقزقة عصفور يصرخ أمام باب الجناح، ظنّه تائهاً، وجائعاً .
فتّتَ قطعة خبز، ونثرها هناك. هرب العصفور، فتركه، وعاد إلى كرسيه، لكنه لم يستطع منع عينيه من مراقبة الصغير التّائه.
في صباح آخر، فتّتَ رغيفاً في النافذة، ورغيفاً أمام باب الجناح، ومضى نهار كامل، لم يقترب فيه عصفورٌ من هناك.
أثناء التفقد المسائي، طلب الشرطي أن نكنس فتات الخبز المنثور قبل أن يغلق أبواب المهاجع علينا.
اشتعل العتب ليلاً قبل أن ننام بسبب فتح النافذة صباحاً...أولاً نخسر خبزاً نحن بحاجة إليه,وثانياً نلفت انتباه الشرطي أن الخبز مرمي خارج الجناح فيعتقد أن كمية الخبز الموزعة تزيد عن حاجتنا فيقللها...
خجل.خاصة حين قال صديقه المريض :
ـ كُرمى لفٌتات العصافير.. أخذت برداً..
لقد اختار صديقه أقل الكلمات لإيضاح المشكلة دون أن يزعجه ,فالجميع يعرف حساسيته المفرطة,وكلمة واحدة في غير سياقها تجعل أيامه القادمة مثقلة بالألم..
يستطيع نثر الفتات للعصافير، ويغلق النافذة، فيخلص من عتاب أصدقائه، لكنه لا يستطيع أن يراها وهو جالس، لذلك كان يفتحها.
وعلى الرغم من ذلك فقد وعدهم، أن يغلقها.
وقبل أن ينام الجميع، كانوا منكسري الخاطر, لقد أفقدوه للتو لحظة فرح ,أتت غفلة عن الجميع ..
تلك الليلة لم ينم. اقترب من الشراقة، ووقف خلفها، يرسم بعينيه نافذة أخرى، يعرِّش عليها اللبلاب، وتمتلئ بأعشاش العصافير، نافذة يزورها فتات شمس دافئة في النهار، ونجومٌ لا تعرف القلق في الليل.
اغتسل بهدوء، بلا صوت، ليذيب ملوحة وجهه الجافة وأرقه الفاتر...
استلقى في فراشه، كان متأكداً، أن العصافير هي الكائنات الوحيدة التي تدخل هذا المكان بدون أن تلوث إبهامها بالحبر، أو ظهورها بالسِّياط...
في اليوم التالي، نثر فتاته على باب الجناح، ووقف على كرسيّه أمام النافذة، وكلما اقترب عصفور منها، كان يؤشر له بيديه ويردد: الخبز عَ الباب.. عَ الباب الخبز..
آخر النهار، اجتمعت جوقة عصافير، تنقر الفتات من هناك،و تتهامس سّرا,و تتلفت على تمثال من لحم وقطن، يتحرك ببطء فوق كرسيه الخشبيّ ، ويحتذي " شحاطة" مطاطية مرقعة بالقماش. يراقبها بصمت. يفتّت الخبز، وينثره، ولا يرد على الشرطي، عندما يطلب منه أن يكنسها...
بعد العشاء كان توّاقاً ليتحدث لهم...
كيف اقترب عصفور منه!! كيف وقف على ركبته تحت مرمى عينيه ويديه!! تَنَقْوَز، مسح منقاره بسرواله، ثم طار.
كانت عيناه، تتفتحان، ويداه تشاركانه الحديث، وهو يحاول إعادة رسم اللوحة، وكان يقسم بين مفاصل الكلام، ويكرر:
ـ لماذا فعل العصفور ذلك؟!
ـ ماذا أراد أن يقول؟!
وكلهم كانوا يعرفون.
في يوم آخر، بعد منتصف الليل بقليل. انفجرت ضجةٌ هائلة.
فصمتت المهاجع، صمتت تحت وقع الأحذية الثقيلة، والأصوات الآمرة
" بضبّ الأغراض"!!
ـ " ضب اغراضك..وجهّز حالك.." .." بسرعة جهز حالك ...."
أنزل حقيبته القماشية والتي صنعها بنفسه.
وتحت حث مفردات الاستعجال، رمى أشياءه داخلها، ودسَّ قطعة خبز في جيب منامته، ثم حمل حقيبته بيدين مرتجفتين. ولما طُلب منهم الخروج رتلاً واحداً، خرج.
أدخل يده في جيبه، وفتّت قطعة الخبز، فقد كان يفكر أن ينثرها أمام باب الجناح بدون أن يخرج عن الرتل وبدون أن يراه الشرطي. لكن العيون كانت كثيرة, والأحذية متراصة، فأخفق.
في السيارة الحديدية التي كانت تنقلهم، كانوا مقيدين ساكتين ، وكان يحترق ببطء!!
ببطء كان يحترق!!
ـ فمن سيفتّت الخبز؟!
ـ من سيطعم الصغار؟
ـ وإلى أين نمضي ثانية... إلى أين؟!!!
نقل المواد من الموقع دون الإشارة إلى المصدر يعتبر سرقة. نرجو ممن ينقلون عنا ذكر المصدر ــ ألف
08-أيار-2021
22-حزيران-2019 | |
12-تشرين الثاني-2018 | |
11-تشرين الثاني-2017 | |
28-تشرين الأول-2017 | |
10-تموز-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |