في عالم يسعى إلى قتلك – بأكثر من معنى – إلى ظلمك, أو نفيك, أو تهميشك, أو جعلك نسخة غير مصدقة أصولاً... تنهض عوالم تبدو للوهلة الأولى عوالم محنطة.. ميتة.. عوالم مومياوات من غابر السنين.. ثم ما تلبث أن تتحول بين يديك إلى حياة ضاجّة .
في فيلم كوميدي خفيف ( ليلة في المتحف) يواجه الحارس الليلي مفاجأة كبرى, إذ يتحول كل ما في أقسام المتحف إلى أحياء, وما أن تطلع الشمس حتى يعود كل شيء إلى موته المخصص له.
حين تمسك كتاباً تكون على وشك خوض مغامرة شبيهة بتلك, أو تكون على أهبة الاستعداد للسفر على متن مركبة فضائية, إنك الآن تجتاز مرحلة الإحماء والاستعداد للانطلاق.. صفحة ثم أخرى ثم أخرى, وتجد نفسك في عالم آخر تتلمس أمكنته, تتحسس أزمنته, تراقب مخلوقاته, تتجسس على حياتهم.. تتعاطف مع بعضهم أو تستاء من بعضهم.. يذكرك هذا برجلٍ من حارتك, وتتشابه هذه مع ابنة قريب لك.... إنها باختصار رحلة في الزمن, لكن كثيرين منّا لا يتعامل معها بهذه الطريقة, وبما تستحق من استعداد واختيار.
في حياة لا نملك فيها شيئاً أثمن من الوقت المخصص لنا على متنها, ستغدو الرحلات عبر الزمن واكتشاف عوالم لم نعرفها ولم نعشها- عبر قراءة الكتب- إضافة حقيقية على أعمارنا, أو جوائز ترضية, أو عرضاً لشحن بطاقة عمرنا برصيد إضافي.
يمكن للكتاب أن يلعب دور المضاد الحيوي الذي يوصف لنا عندما نتعرض لهجمة فيروسية حادة, لكن لكل فيروس مضاداً مختلفاً, ولكل منها طريقة استعمال ومواقيت, فلا يجوز أن تتناول كبسولات الدواء على هواك, وإلا فإن فعاليته ستتلاشى, هكذا وبطريقة مشابهة تكون قراءة الكتب واختيار ما يناسب فكرك, دواء فعالاً على أن تتعاطاها بانتظام.
هل يمكن للكتب أن تغدو متاريس تحمينا؟ بلى.. قد تفعل لأنها قد تحمينا من النفي أو من التهميش أو الشعور بالظلم حين تفرد لنا شاشة عوالمها, لنتصرف بها ونعايشها ونتماهى مع من نختار, إنها تحمينا من الغدر والطعنة القادمة من الخلف, هنا لا غدر ولا يد تمتد من خلفك.. هنا أنت, المنفي المخنوق صوته, تصبح الأمير الحاكم الذي يبسط سلطته على الورق والسطور, تفتح دفتي الكتاب أو تغلقهما, تقرأ مستلقياً أو جالساً, تحمل الكتاب في كل مكان تذهب إليه إن شئت, وهو سينصاع لمشيئتك, حين يعاندك كل من حولك حتى نفسك, إنه فانوس سحري ما أن تلمسه, حتى تدخل مدناً وعواصم وغابات ومغامرات وتعيش كل المشاعر, هنا في صحبتك إياه, يمكنك أن ترفع صوتك وتصرخ وتغضب.. تشتم هذا وتتعاطف مع ذاك, بينما لا تقدر في حياتك اليومية أن ترفع صوتك, إلا لتصب اللعنات على نفسك!
في كل ما قرأت عن الكتب يستوقفني اليوم ما قالته نينار إسبر – ابنة أدونيس – عن الكتب وعلاقتها بها في كتابها ( أحاديث مع والدي أدونيس ) الصادر حديثاً عن دار الساقي إذ تقول: ( لقد بدأت أبغض الكتب منذ سن مبكرة, ففي البيت في بيروت, كانت الجدران كلها قد غدت مكتبات ) لقد سرقت الكتب والدها منها, ولذا كانت تكرهها, ولكن ثمة علاقة أخرى ولدت بينها وبين الكتب: ( خلال الحرب وأثناء القصف كنا نلتجئ إلى الرواق بجوار رفوف ضخمة..... لقد غدت تلك الكتب متراساً لنا يحمينا من القنابل) ثم تقول: ( منذ بداية هذه التجربة تغيرت علاقتي بالكتب فقد تحولت من أعداء إلى أصدقاء, إلى حراس .. كنت أحبها من أجل هذا ثم غدت أشياء أليفة عطوفة يُدخل حضورها السكينة إلى نفسي)
يخطر لي الآن أن أشبه العلاقة بين الكتاب والناقد باختبارات الحمل الكاذب, وللأسف فقد كثرت حالات الحمل الكاذب في عالم الكتب. الكتاب بما يحمله من معنى, أو بما يعد من مضمون, يشبه المرأة الحامل التي يعد بطنها المنتفخ بمولود جميل. بعض النساء ولفرط رغبتهن بالطفل يعانين أعراض الحمل, لكن سرعان ما يكتشفن أن الانتفاخ لم يحمل جنيناً, والحال هذه تتشابه مع كثير من الكتب الفخمة الأنيقة المترافقة بضجيج إعلامي وإعلاني, لنكتشف في النهاية أنها لم تكن أكثر من حمل كاذب.
تتفاوت أشكال الحمل في الكتب, فقد تضع بعضها خدّجاً بحاجة إلى حواضن تمدها بالأوكسجين والغذاء! بعض الكتب تأتي نتيجة طبيعية لحمل طبيعي وولادة طبيعية, بينما يأتي بعضها الآخر نتيجة ولادة قيصرية عسيرة, وقد يكون الوليد جميلاً أو مشوهاً, أو يعاني خللاً. إذاً من المسؤول عن كشف كل ذلك؟ إنه النقد بالتأكيد بدءاً من الكاتب نفسه الذي يجب أن يكون أول ناقد لنصه, ثم القارئ, ثم الناقد الخبير الذي يأتي عمله مشابهاً لعمل اختبار كشف الحمل الكاذب أو الحقيقي.
في المكتبات كثير من الكتب – الأجنّة غير المكتملة بل والمشوهة, فمن المسؤول عن ذلك؟ أليس لدور النشر علاقة بذلك؟ أليس للجان القراءة في المنافذ المخصصة للموافقة والتصريح بالنشر علاقة بذلك؟ قبل كل هذا إنه التوق إلى الحمل لإرضاء الشعور بالامتداد وتضخيم الأنا.
مثل هذه الكتب المولودة ميتة تعتبر سرقة علنية موصوفة من حصتنا بالمتعة والفائدة, ومن رصيد عروض الشحن المجاني لأعمارنا. ولأن الوقت هو أثمن كنوزنا, فإن مثل هذه الكتب تنتهك وقتنا الذي لم يعد فيه متسع للهدر, فكم عمراً يلزمنا لنقرأ كل هذا الركام؟ ولماذا؟ بعض الناس يرى أن التراكم الكمي سيفرز تألقاً نوعياً, لكنني أرى أن الأكوام علت وعلت وكادت تخنقنا بكل ما ينبعث منها من ملوثات ذوقية, وهي مسؤولة عن كثير من الأمور لعل أولها العزوف عن القراءة, والقطيعة بين الجيل الجديد والكتاب.
أود لو أن فئة ما من المثقفين تؤلف محكمة أدبية, تختص بالنظر في الدعاوى المقدمة من الناس قرّاء وكتاباً ونقاداً ضد كتاب أو كاتب, لو أن مثل هذه المحكمة رأت النور, كم سيبلغ عدد القضايا المنظور فيها يومياً برأيكم؟ للأسف.. سنعود هنا مجدداً إلى المربع الأول: من سيؤلف المحكمة؟ من سيعين القضاة؟ من سيضمن نزاهة القضاة والأحكام الصادرة؟ من سيضمن تنفيذها....؟؟
كل كتابة سيئة هي اعتداء سافر علينا, كل كتاب لا يحقق لك فتح عوالم الخيال والمتعة هو سرقة لوقتنا, ومع كل ما ومن يسرق أعمارنا, أما من غربال يهمل الحصى الصغيرة العالقة بحبات القمح؟ أما من سدّ يحتجز اندفاعة سيل الكتب الكاذبة؟ أما من قفص يوثق حرية اعتداء هؤلاء علينا بحجة ممارستهم للحرية في التعبير والكتابة؟!
سوزان ابراهيم
[email protected]
عن جريدة الثورة مرسلة من الكاتبة للموقع