القمر والثياب
خاص ألف
2010-09-13
لكزتني عناةُ... بعينيها:
- في مصباحكَ غابة, هيَّا حدثني, وسكبتِ النبيذَ ثانية... مسدتُ شعرها مستذكراً تفاصيل الحلم الصغيرة:
- أعرفكِ منذ زمنٍ بعيدٍ, وبعد زمنٍ طويل, أنت برتقالةُ الحنين الكانتْ تُغافلُ أمها لتغطس في البحر, ودم قرنفلةٍ تلعقه الريحْ, أجل, في الألوان ذاكرتي... في الألوان غابةْ!.. تذكّري, لحظة افترقنا غُصني لهفةٍ لم أستطع الوصول إلى مشارف النوم, تذكرتكِ يوم كنتِ تُشاغبين: كانت الثيابُ في المشهد... تخطو باتجاهي, جلّ ألوانها أحمر... أسود ... ورمادّ سميك... وكنتِ القمرَ يخطو أمامي, يخلع عن جسده ثقافةً... يقذفُ بها وجه الثياب المكدّسة, المكدسون يرنون إلى القمر, منهم مَنْ قلب شفته حيرةً مما يراه... ومنهم مَنْ رجم ظهركِ بحجرٍ خشن... لم تتحسسي زُرقَةَ الكدمات, ولم تلتفتي للثياب, هي وثبةٌ وتكتملُ استدارتك خارج اللوحة!... احتدم العنفُ بين الحبِّ والثياب, فاضتْ موسيقاه متنافرة, وربما كنتُ محموماً آنئذٍ... فهمستُ لامرأةٍ بقربي:
- العريُ رائعٌ... جمال ظهر المرأة لا يختلف عليه رجلان, وبستُ زرقةَ الكدمات, هامستني المرأةُ بسؤالٍ:
- أيختلفان على جمال صدرها؟...
- قد يتصارعان حتى الموت!.. ثم كرجتِ المرأةُ عاريةً طابعةً جسدها على الأرض هامسة لي أسرار الأنثى:
- لكلِّ حرفٍ في القصيدة الهيروغليفية... رائحته المميزةْ!..
- لأعد للبداية يا عناة: منذ افترقنا غصني لهفة لم أصل إلى مشارف النوم, أنشبتْ ((هالة[1]... )) في هشيمي أسئلةً غامضةً عن العري:
- هل كانت ثياب هالة حرائقَ الحرب.... فخلعتها؟...
- ألأن الهيروغليفية تُنقذ رشيم الحياة فجّرتْ رخامَ أبجديتها في (الولايات المتحدة...)) وكانت سرّتها فاتحة الأبجدية؟...
- طالما الهيروغليفية أمومة عفوية لِمَ ترجمها الثيابْ؟..
- لِمَ لابسو الثياب السميكة يتلمظمون على وركيها كثيراً؟...
- هل كانت هادئةً وهي تخلع ثيابها...ورتبتها قطعةً.... قطعةْ, أو علّقتها على المشجب لحين عودتها... أمْ مزّقتها في الطريق وانطلقتْ عرياً تبشيرياً أجملَ فهماً: الحياة امرأةٌ أَحِبّوها؟...
امتصّتْ يقظتي بئرٌ سحيقةٌ وأنا أطفئ السؤال الأخير, هبطتْ بي إلى حيث تشكل الحلم الذي تتأهبي لسماعه:
- كنتِ في الحلم كبيرةً, وكنتُ أصغرَ منكِ...
- كم كان عمرك؟..
- كان عمري... وعمركِ... أين كُنّا... كنت تسكنين في بيتنا, حضوركِ غيمٌ, أو أن السماء تمطرُ فوقك فقط, ولكِ حبيبٌ مولعةٌ بكتابة الرسائل إليه, كلما كتبتِ رسالةً أعطيتنيها قائلة: هيّا يا عصفور البرق, ويأتيك العصفورُ بالجواب!... أدركتُ ما معنى أن أكون عصفورَ البرق ولاسيما عندما خرجتِ من الحمام بلا حمالة ثدييكِ, جلستِ على الكرسي تُزلقينَ ساقيك الناعمتين في الجورب الشفاف... ثم ناولتني الرسالة, صفقتُ البابَ ورائي, مزّقتُ الرسالة غيرةً أو أغمضَ.... لكِ رائحةُ روحٍ يا عناةَ؟.. استغربتُ عدمَ استفسارك عن الجواب, سُعدتُ حين تحاشتْ ساقاك عينيَّ, سألتني بعد صمتٍ وضحكةٍ:
- كم عمرك يا صغيري؟.. لِمَ صفقتَ البابَ خلفكَ؟..
- ولكنك بتَّ تناديني بـ (( يا صغيري؟!....))
- طالما أنا أكبر منك فأنت صغيري...
- لكنَ الذي يُحبكِ لا يبقى صغيراً.. ضحكتِ ضحكةً عاليةً, وثبتِ عن الكرسي, قبلتني, وربتِّ على ظهري.
- لن أحملَ جناحيكَ رسائلي.. خرجتُ من عندكِ فرحاً متفجرّاً. ملأتُ طستاً أحمر ماء, صعدتُ به سطح غرفتكِ. تعريتُ, رأيتُ في الطست قمراً, تمددتُ قربه, هززته, تلاطمتْ مويجاته ببعضها, صرختُ مندهشاً: يا إلهي القمر يرقص!... ذوّبتُ القمرَ بالماء ودلقته على رأسي!.. نبتِّ فجأةً قربي شجرةً ضاحكةً, فككتِ عروةً, أخرجتِ ثديك وأمرتني:
- تدفّأْ...
امتصَّ ثديك البردَ مني, فقبلته!... أذكر يا عناة إنني كنتُ عصبياً... ورويداً... رويداً صرتُ قوياً هادئاً في قريةٍ تبدو لي مألوفةً, وكان ثمةَ عرس في هذه القرية, صمتَ العرسُ فجأةً, وانتشرت الناس, ولا أدري كيف وصلتُ إلى حافة النهر... لأُفاجأ بكومةِ ألوانٍ لثيابٍ نسائيةٍ مرميةٍ على العشب الأخضر!.. اضطربتُ... ارتبكتُ... تساءلتُ: أأنبش الثياب علني أتعرفها؟...
أصغي... أنظر حولي, ليس ثمة ما أهتدي به, عليَّ أن أبقى على مقربة من كومة الثياب, تسلقتُ سفحَ الجبل, لطيت وراء زيتونةٍ, يثبُ نظري من كومةِ الثياب إلى النهر, القمر المندلع في السماء غاطسٌ في الماء, يرقص على إيقاع المويجات, يطفو تارةً, ينغمس أُخرى, إيقاع النهر تغيّر فجأةً... وثب نظري إلى كومة الثياب, ثم وثبةٌ أخرى من الألوان إلى عاريةٍ تخرج من النهر وحيدةً... إيقاع النهر يحنُّ إلى رتابته, دنتِ العروس من ثيابها بلا مبالاة, وقفتْ, النهر يسيلُ على جسدها, اقتربتُ, شعرتْ بوجودي, لم تجفل أو ترتبك, بادرتُها مطمئناً: - وجودي هنا محض صدفة... قالتْ:
- أنا أعرفك أكثر من ذلك, مهما كبرت تبقى صغيري... وما وجودك هنا إلاّ وفاءً للماضي!...
صمتتْ فجأةً... أصغتْ... أجالتْ بصرها...
- إلامَ تنظرين؟ سألتها,
- اهرب...اهرب... تخفَّ في الدغل.. وقع أقدام تتربص, رصاصٌ يئزُّ في الفراغ, أمرتني بلهفةٍ:
- تخفُّ بسرعة...
وانزلقتْ في مياه النهر!...
نهضتُ بين الجموع, موهّتُ نفسي برغبتهم,... فرقعة حريق, احترق السفحُ, مياه النهر تشحُّ, رجلٌ يتساءل بعنفٍ:
- أين اختفتْ؟... مع مَنْ كانت تفسقُ؟... كُلّهنَّ هكذا, ما أن يعشقنَ حتى يخلعنَ ثيابهنَّ ولو كانت أسمكَ من بردعة حمارٍ... ويفجرنَ, ثم أمر شخصاً:
- أوثق على ثيابها في عبّكَ!... ومضوا... ذاكرتك أنعشت ذاكرتي يا عناة:
- أعرفكَ أكثر من ذلك....
- وفيٌّ للماضي...
- تبقى صغيري...الخ...
وتذكرت أيضاً الصوتَ الذي احتفظ بثيابك... إنه نفس الصوت الذي كنتُ أُوصل رسائلك إليه... كم كنتُ أمقتُ هذا الصوت!....
وأنا في عزِّ تأملاتي رأيتك تتسلقين ضفةَ النهر ثانية... فراحتْ قدماي تلثغ المسافة إليك, وكلما نضجتْ خطوةٌ خطوتها!... كم كنتِ نديةً!... وكم قبلتكِ... اندغمنا ببعضنا:
مياه النهر مفرطةٌ بالتذكرّ, تفكّرُ وترتعش, الأرضُ المحروقةُ تتفتِّقُ عن تماثيلَ, تمثالاً بعد آخر:
تمثالٌ يعزف على آلة موسيقية..
تمثالٌ يمارسُ الحبَّ...
تمثالٌ يرقصُ..
تمثالٌ يحارب..
تمثالٌ يتألم..
تمثالٌ ... تمثالٌ ... تمثالٌ
وكلُّ تمثالٍ منقوشٌ بشغفِ نسب الطفل إلى المكان!...
بللتُ إصبعي بمياه النهر, وكتبتُ على ثديك الذي امتصَّ البردَ مني:
- إنَ الله حلمةٌ...
وما أن شرعتُ بتدوين إنجيلي حتى أيقظني عنفٌ... يرفسُ بابَ النوم, وأدركت أنني كنتُ منتشراً في حلمٍ!..
لكزتُ عناةَ بصوتي:
- هيه... ما بالُ عينيكِ غائمتين!...
صعدتْ عناةُ من البئر العميقة, تسلقتْ حبلاً من تنهدٍ وابتسام:
- أترغبُ الآن... أن تكون أصغرَ مني أَمْ أكبرَ؟...
- عندما يعرّشُ فيَّ النبيذُ تحت القمر لا أقدر أن أكون كتوماً!...
رياح أصابع عناة تبددُ الغيومَ, اندلعت عناةُ قمراً أحمرَ!!...
---------------------------------------------------------------
[1] هالة: هالة فيصل فنانة تشكيلية سورية خلعتْ ثيابها وخرجت عاريةً في شوارع الولايات المتحدة الأمريكية احتجاجاً على احتلالها للعراق.
08-أيار-2021
13-أيلول-2010 | |
31-تموز-2010 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |