هل تدخل الأعراف والتقاليد دائرة المقدس؟
خاص ألف
2010-10-02
منذُ أنْ أعلنتْ فرنسا قرارها منعَ ارتداءِ الحجابِ في الجامعاتِ والمدارسِ وأماكن العمل ثمّ القرار الأخير بمنعِ النقابِ منعاً باتاً؛ وقضيةُ الحجابِ والنقابِ هي الشغلُ الشاغل للفضائياتِ ومحورٌ للجدلِ العقيمِ. فما هي حقيقةُ الأمرِ؟ ولماذا أخذتْ حيزاً أكبرَ من مواضيعَ أخرى كالأزماتِ الإجتماعيةِ والفقرِ التي تعاني منها الكثيرُ من المجتمعاتِ العربيةِ والإسلامية؟
في تسعينات القرن الماضي صدرَ للدكتورِ محمد شحرور وهو كاتبٌ أسلاميٌ متنورٌ كتاباً هو "القرآن والكتاب: قراءة معاصرة" بالإضافة إلى كتب أخرى منها " نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي يقول عن موضوع الحجاب التالي: "الحجابُ الشرعيُ في الإسلامِ بالمعنى والشكلِ الذي يدعو البعضَ إلى التمسكِ به اليوم لم يرد كتكليفٍ في التنزيلِ الحكيمِ، كالصلاةِ والزكاةِ
والصومِ مثلاً وعلينا - فيما أرى - أن نفرقَ بين اللباسِ والحجابِ. فالغايةُ من اللباسِ عند الرجلِ والمرأةِ عموماً -– هي سترُ العورةِ والحماية من الطقسِ . لكن العورةَ ذاتها مسألةٌ تختلفُ باختلافِ الزمانِ والمكانِ، فما هو عورةٌ عند المرأةِ ليس عورةً عند الرجلِ، وما هو عورةٌ في القطبِ ليس كذلك في خطِّ الاستواءِ، وما كان عورةً عند نساءِ القرنِ السابعِ لم يعد كذلك عند نساءِ القرن العشرين. ولا نعني بقولنا هذا إنها مسألةٌ لا ناظمٌ لها ولا منطقٌ. ولقد أحسنَ الخليفةُ عمر حين رسمَ للباسِ المرأةِ خطاً عاماً يحددهُ، فاشترطَ ألاّ يرقَ فيشف، ولا يضيّق فيصف، ثم للمرأةِ بعد ذلك أن تلبسَ ما تشاء، ولو كان الحجابُ تكليفاً بالمعنى الذي يزعمهُ البعضُ لما فاتَ عمر التنبيه إليه. ولا علاقة لغطاءِ الرأسِ لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ بمسألةِ الحجابِ، وإذا نظرتَ إلى الفضائياتِ الخليجيةِ والسعوديةِ فترى كلَّ الرجالِ حتى اليافعين في سنِّ العاشرة بغطاء رأس ولا نرى شخصاً بدون غطاءِ رأسْ، وهذه عاداتُ العربِ وكذلك غطاءُ رأسِ المرأةِ هو من عاداتِ العرب. فلباسُ خديجة التي توفيتْ قبلَ البعثةِ لايختلفُ عن لباسِ عائشةَ التي توفيت في العصر الأموي" .
ارتبطتْ المرأةُ بأسطورةِ الغوايةِ, فحواءُ هي التي أغْوَتْ آدمَ بالخطأِ الأولِ فهبطَ وهبطتْ إلى الأرض. القَص الديني خصوصاً في التوراةِ والإنجيلِ يحفزان التفكيرَ على هذا النحو, ورغم أنه في القصِ القرآني "أغواهما"- آدم وحواء – الشيطانُ ووسوسَ لهما- وتابَ عليهما الله في النهايةِ, فإنَ الخطابَ الثقافي الإسلامي يتجاهل القصَ القرآني لصالحِ الإيقاءِ على القصِ التوراتي لأنه يؤكدُ إنتاجَ أسطورةِ المرأةِ الغاويةِ التي تُبقي على ذكورةِ المجتمع الإسلامي.
يبدو أيضاً أن أسطورةَ المرأة الغاوية إستقرتْ في الخطابِ الثقافي العام بفعلِ فاعلٍ, ففي الكتب التراثية ككتاب " المعارفِ لأبن قتيبة وغيره قتل هابيل قابيل لأن الأخيرَ حظي بإمرأةٍ كان قابيل يريدها لنفسه, أما العملُ الأدبيُ الأشهر في تاريخِ الحضارةِ الإسلاميةِ وأعني به "ألف ليلة وليلة" فإن المرأةَ لا ترغب فحسب في الخيانةِ وممارسةِ الغواية بل أنها إن رغبتْ في شيءٍ فلن يوقفها شيءٌ أبداً, وهكذا دَلَلَتْ قصة الجني الافتتاحية وامرأته التي تحتفظُ بخواتم عدد عشاقها رغم أن الجني يحبسها في صندوق, وهكذا تدللُ حكايةُ شهريار نفسه الذي قررَ الانتقامَ من بناتِ حواء لأن امرأته خانته. ومع شيوعِ أسطورةِ المرأةِ الغاوية في الثقافةِ العربيةِ فإنه تمَّ ترجمتها اجتماعياً في حجابٍ ( بالمعنى المباشر وبالمعنى غير المباشر) بكلِّ دلالاتِ الاحتجابِ والسترِ والإخفاءِ, وتمّ تدعيم هذا الحجاب بعدةِ مقولاتٍ من قبيل أنه صيانةٌ للمرأةِ وأنه تكريمٌ لها وهو ماتمّ التصديق عليه من قبلِ كثيرٍ من النساءِ اللواتي ساهمنَ في إعادةِ إنتاجٍ مستمرةٍ للاسطورة. الغريبُ أن المسكوتَ عنه هو أن الرجلَ يحجّبُ المرأةَ كي لا تغوي الرجلَ, أي أن الرجلَ في الوقتِ الذي يحجّب فيه المرأة بحجةِ الحفاظِ عليها فإنه في حقيقةِ الأمرِ يعملُ لصالحِ نفسه لأن احتجابَ المرأة معناهُ حمايةُ الرجلِ من الوقوعِ في الغوايةِ ولذلك فإن القولَ بأن الحجابَ صيانة للمرأة هو قولٌ مغلوطٌ ويجب تعديله بالقولِ إن الحجابَ صيانةٌ للرجلِ!
يقول المفكرُ التنويري نصر حامد أبو زيد (النظرُ في كلِّ المبرّرات الدينية، وغيرِ الدينية، لتغطيةِ المرأةِ وحجبها عن الوجودِ في الفضاءِ الاجتماعي العامّ، يفضي إلى نتيجةٍ يجب أن تزعجنا جميعاً: أنّ الهدفَ الأسمى هو "حماية الرجل" من فتنةِ المرأةِ، حمايته من غوايةِ النظرِ إليها. لا أحد يتحدّث عن حمايةِ المرأة من فتنةِ الرجلِ ويطالبُ الرجالَ بسترِ فتنتهم. تبدو غواية الرجل للمرأة – في الوعي العام – أمراً مقبولاً، إنّه الطبيعي. فتنةُ المرأةِ هي غوايةُ الشيطان. هكذا يعودُ الوعي العامّ إلى أسطورةِ الخلقِ التوراتية، حيث أغوتْ حوّاء أدم؛ فارتكبَ معصيةَ الأكلِ من الشجرةِ المحرّمة، فطُرِدَ وهي من الجنّة. القصةُ التوراتيةُ تقول: إنّ المرأةَ هي مدخلُ الشيطان إلى الرجلِ، وهكذا يصبحُ الرجلُ هو "الإنسان" والمرأةُ بعضه الأعوج، الذي يحتاجُ طولَ الوقتِ إلى تقويمْ. كلُّ هذه العناصرِ التوراتية لا وجودَ لها في القرآنِ نصاً، وإنما دخلتْ نطاقَ الفكرِ الديني عبرَ كتبِ التفسيرِ التي استعانتْ بهذه التفاصيلِ لشرحِ ما لم يذكره القرآن. وحده محمد عبده في، أواخرِ القرنِ التاسع ِعشر وأوائلِ القرنِ الماضي، تنبّه لهذه المشكلاتِ في الفكرِ الدينيّ. والفكرُ الدينيُ الآن بتراجعهِ إلى ما قبل لحظة محمد عبده يسحبُ المجتمع إلى الوراء. لكن علينا ألا ننسى أنّ المجتمعَ، في الأصلِ، هو الذي سحبَ الفكرَ الديني إلى الخلف، ثم استسلمَ له ليقوده. من هنا فإنّ السبيلَ الوحيد لمقاومةِ أيّ نهجٍ، أو نمطٍ جديدٍ من التفكيرِ، هو الصياحُ ورفع يافطة "الثوابت" و"الفكر الغربي"، و"المناهج المستوردة"، كأن ما أنتجه الأسلافُ لا يقبل الفحصَ والنقدَ والردَّ. وقضايا المرأة في الفكر الإسلامي بصفةٍ عامةٍ تثارُ في مصرَ أوّلا، ثم ينتقلُ الجدلُ الصاخبُ منها إلى المجتمعاتِ العربية؟ في حدودٍ علمي إنّ منظومةَ القضايا المتعلّقة بوضعِ المرأة ومكانتها في المجتمع – وقضية الحجابِ أو النقابِ واحدةٌ من هذه المنظومة – هي "كعبُ أخيل" في العالم الإسلامي طولاً وعرضاً. لكن لأنّ المجتمعَ المصري كان قد تجاوزَ هذه المشكلات وتخطّاها، منذ بداياتِ القرن العشرين، فإنّ حالةَ الارتداد التي يمرّ بها، منذ عقودٍ تلفتُ الأنظارَ إليه. ماذا حدثَ للمصريين؟ تساؤلٌ طرحَهُ المفكّرُ "جلال احمد أمين" منذ فترةٍ، وما زالَ يُحْتاج النظرُ فيه. للإجابةِ على هذا التساؤل ينبغي عدمَ استبعاد التأثير الخليجي - السعودي الوهّابي بصفةٍ خاصةٍ- على وعي المصريين، الذين تزايدَ عددُ مهاجريهم بحثاً عن فرصِ عملٍ أفضل، منذ بدايةِ السبعينات من القرن الماضي. الإسلامُ الخليجي, هو بشكلٍ أو بآخر, إسلامُ الجزيرة العربية، وهو أشدُّ صيغ الإسلامِ تشدّداً وتزمّتاً. إذا كان الإسلامُ الأوّل هو إسلامُ الحجازِ، فالإسلامُ السعودي/الخليجي هو إسلامُ نجد القرن الثامن عشر. وشتّان بين إسلامِ الثقافةِ العاليةِ، في القرن السابع – ثقافة التجّار والمدن – وإسلامِ بداوة "نجد"، المتمثل في "الوهابية"، التي لم تتطوّر في مقولاتها الأساسية خطوةً واحدةً منذ مؤسّسها "محمد بن عبد الوهاب". بل إنّ المعارضة السياسية/الدينية للنظامِ السعودي تكفَّر حكامَ السعودية، لانحرافهم عن الدين الحقّ، الذي أسّسه ابن عبد الوهاب. هذا هو الإسلامُ الذي غزا، بقوةِ المالِ، وعيَ أبناءِ المجتمعات الأخرى، وعلى رأسها مغتربي المجتمعِ المصري. بالإضافةِ إلى هذا العاملِ, ثمة عاملان جوهريّان مكّنا هذا العامل من أن يلاقي أرضاً خصبةً: أحدهما التحوّل السياسي الاجتماعي، الذي أحدثهُ الرئيسُ السادات في بنيةِ الدولةِ، منذ تولّيه سلطة الحكم في أكتوبر 1970، أعني الانتقالَ من نظامِ "رأسمالية الدولة" إلى نظامِ "الاقتصاد الحرّ"، بشكلٍ عشوائيّ. هذا الانتقالُ العشوائيّ – الذي أطلقَ عليه أحدُ الإعلاميين النابهين، الراحل "أحمد بهاء الدين" : الانفتاح السداح المداح – كان له، وما يزال، تأثيره الفادح على الطبقاتِ العاملة المصرية؛ فاختفتْ الطبقةُ الوسطى تدريجياً لحسابِ انقسامٍ طبقيّ حادّ بين أغنياء سفهاء وفقراء معدمين. صار المجتمعُ المصري، الذي كان مجتمع التكافل الاجتماعي، تحت مظلة الدولة الاشتراكية، مجتمعَ الصدقة والبرّ والإحسان، تحت رحمةِ رجالِ الأعمال. من المهمّ هنا أن نؤكّدَ أنّ هذا الوضع أدّى إلى تحالفٍ بين طبقةِ رجالِ الأعمالِ من جهةٍ، وبين رجالِ الحكمِ وفصيلٍ من المثقفين والأدباء والفنانين من جهةٍ أخرى. فضيحة "شركات توظيف الأموال" في الثمانينات كشفتْ انضمامَ المؤسسةِ الدينيةِ الرسميةِ إلى هذا التحالفِ، الذي ضمَّ أيضاً "الإخوان المسلمين"، أكبر المدافعين عن رأسمالية السوق الحرّة).
أخيراً فإنّ المسكوت عنه أيضاً في أسطورةِ المرأة الغاوية أنها -أي الأسطورة- ليست دليلاً ضدَ المرأة قدرَ ما هي دليلٌ لصالحها ذلك أن الأسطورةَ في النهايةِ صُنعتْ على يدِ رجلٍ وليس على يدِ إمرأةٍ بمعنى إنها تحملُ تصور الرجلِ عن المرأةِ وليس حقيقة المرأة ولا تصورها عن نفسها.
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |