ردود الفعل على قرارات صباح عبيد / هذياناتُ الفجر......
2007-08-18
لماذا فيروز وليست هيفاء؟
تشيرُ بعضُ الأبحاث إلى أنّ المدرّسَ يفقدُ خمسة بالمائة من ذاكرته كلّ سنة. في أولى سنواتي التعليمية لم تسمح لي كبريائي بتقبل هذه النبوءة، لكن لمّا رأيتُ أعراضاً عصابية وهستيرية تظهرُ عندي مترافقة بصراخٍ ليليّ، وجدتُ فقدَ الذاكرة أكثرَ نبلاً. وبعد بضع سنواتٍ لم يعد ممكناً تجاهل عضّات الزهايمر، فقرّرتُ أن أنقلَ لكم ماعندي قبل أن تفقدوا ذاكرتي الثقافية. واسمحوا لي أن أستعيرَ أسلوبَ جدنا الجاحظ، وألفّ بكم على ذكرياتي الموزعة عشوائياً بين تلافيف دماغي. وبما أنّ المعلومات الأكثرَ طزاجة تضيعُ مني أولاً فلنبدأ منها.. من لفة شيخ الفنانين صباح عبيد وقنبلته الأخيرة.. منع أصالة من الغناء في سورية لنقدها قراره السابق منع هيفاء وأليسا وروبي وكلّ من استخدم وثنية الجسد في الفنّ.
القرار الأول مازال موضعَ خلافٍ بين معارضين ومؤيدين.أمّا بالنسبة لمنع أصالة فالتفسير الفني غائب بالطبع. القضية إذاً قدح وذمّ اقترفته أصالة، مع أني لا أصدّقُ أنّها بلغَ بها الغرورُ والتوهّمُ أن تستخدمَ صلاحيات الحكومات العربية في الشجبِ والتنديد. وإن كان مسّها شيء من الجنون فأتمنى أن تحافظَ الآن على بعض السلامة العقلية لتتمكّنَ من طلبِ اللجوء السياسي قبل أن يختفيَ صوتها الرائع.
أمّا ما أعرفه عن وصول الغضنفر إلى الرئاسة ففيه وجهة نظر. سمعتُ أنّ بعضَ الناخبين اختلطَ عليهم الاسم، وظنوا صباح فخري عاد لترشيح نفسه فأعطوه أصواتهم في عجلة، ثم ندموا حين لا ينفع الندم.أمّا النساء في المنازل والاتحاد النسائي و الجمعيات والمنتديات الثقافية النسائية فقد دعونَ له بعمرٍ مديد في النقابة مستبشراتٍ بعصرٍ خالٍ من آهاتِ أليسا و غنج هيفا التي سطت على شخصياتهن الاعتبارية الأنثوية وأفاعي روبي السامّة متجاهلاتٍ دموعَ الأزواج المتجمّدة في المحاجر اليتيمة.
ويبدو أنّ الشيخ النقيب يملك استشرافا وبعد نظر- لم أملكهما شخصياً- حين لم يجمل نانسي عجرم معهنّ.
فتجاهلُ نانسي للصحفية الإسرائيلية التي أقبلت على محاورتها في عمّان، جعل جميعُ السوريين يؤكدون أن الننّوس علامة وطنية يُسمَح لها بالغناء في سورية.
وسمعتُ أنّ هيئاتٍ حزبية ومسؤولين حكوميين كبار يقترحون وضعَ صورتها على أختام الوزارات والطوابع البريدية وتدريس سيرتها في كتاب القومية الجديد، وتعليق أجمل صورها خلف مكاتبهم إلى جانب صور السيد الرئيس وحسن نصر الله.
أمّا مافعلتُ بالجدرانِ فقصة لا تسرّ معظمكم. كنتُ أتمنى ألا تعرفوها، لكن ماذا يضيرني أن تكشفوا جرائمي وأنا أغوصُ في بحر النسيان العميق؟
نعم لقد اعتديتُ مرّة على الهيفا والننوس، لكن هذا كان قبل أن تصبح الأولى رمز الأنوثة المضطهدة والثانية رائدة وطنية، وكيف كان لي أن أعلم بالمستقبل؟
في لحظة فتحٍ مهنيّ تخيلتُ أني أقود طلابي إلى مستقبلٍ عظيم. اقترحتُ عليهم أن نحوّل جدران الصفوف إلى صفحاتٍ ثقافية وفنية مستمرة الإصدار، ولتأكيد التنوع والثراء أوصيتُ كلّ شعبة بتبنّي شعار خاص، وأطلقتُ شعاراتي الثورية الجاهزة: عبّروا عن أنفسكم. اكتبوا وارسموا ماشئتم. لبّت جماهيري المنشودة ندائي وانطلقت إلى ميادين العمل. كان الإنتاجُ أسرعَ مما تخيلت، وغمرَ المردود الوفير صفوف ثانويتنا الدمشقية المهترئة.
دخلتُ إلى شعبة المحبّة، وللاسم قصة مثيرة دعوني أرويها لكم.. فقد احتفت تلك الشعبة بعيد الحبّ أيّما احتفال. القلوبُ الحمراء المنتفخة تدلّت من السقف لتلامسَ شغافَ قلوب مراهقيّ الذين أتلفهم الوجدُ في ميعة الصبا والفتوّة. كانوا طبيعيي الميول قدّموا بطاقاتِ تهنئة ووروداً حمراء صناعية للمدرّسات فقط، فالحبّ عندهم شأنٌ نسائيّ لاعلاقة للمدرسين الغلاظ به.
ولسببٍ لم أعلمه- فقد كانت عبستي لاتفارقُ وجهي- اختاروني ضحية أهوائهم الصاخبة. ماإن فتحتُ بابَ الصف حتى فوجئتُ بشريطٍ أحمر يمتدّ أمامي، والصفيرُ والهتافُ يعلوان بينما محمود الذي كنتُ قد فصلته قبل أيام يناولني المقصّ لأفتتح حصتي الجميلة بالحب. ويبدو أنّ طيفَ ابتسامة مرّ على شفتيّ أفسدَ الخواص الترهيبية لعبستي، إذ ماكدتُ أتجاهل المقص وأخطو بحزمٍ إلى الداخل حتى صفع أذنيّ صوتٌ: وشششششششش! ظننته بف باف، لكنّ رذاذاً أبيضَ كالقطن المندوف انهمر على رأسي وملابسي، وراحَ يحوّلني تدريجياً إلى دبٍّ ثلجيّ.
في غرفة المدرسين أطلقنا على هؤلاء الطلبة طلاب الفالنتين، بينما اختلفوا هم حول شعار صفهم. بعضهم أراده فينوس وآخر عشتار ولم تتأخر كثيراً بقية الآلهة المؤنثة. كمدرّسة تؤمن بالحرية وقديرة معاً قرّرت لهم اسمَ المحبة. علّق نضال:" ياآنسة ليش بتحبّوا تعقدوا المعلومات؟ < كلمة من حرفين > والله أحلى!
يوم َ إطلاق معرض الرسوم والثقافة دخلتُ إلى شعبة المحبة هذه لأجدَ صورَ هيفاء ونانسي تغطّي جدران الصف كلها. قضى طلابي أيامهم السابقة يرسمونها ويؤكدون مواهبهم الواعدة من خلال تمجيد الأكتاف العارية والتبشير بحكمة النهود.
أظنّهم قالوا إنّ الغيرة هي ماأعمت بصري وباصرتي وجعلتني أمزّق الصور وأنعتهم بقلة الأدب والذوق.
ماكادت تلك الحصة تنتهي حتى استدعاني المديرُ الكريم متحدّثاً بهدوءٍ ومشيداً بجهودي الكبيرة في توجيه طاقات الطلاب إلى الإبداع، ثم أضافَ:" لكنّ صفوفك كلها مليئة بصور الفنانات. لقد ضجّ المدرّسون، ولم يستطيعوا فعلَ شيء أمام إصرار الطلاب أنّ هذه توجيهاتك".
تذكّرتُ زميلنا في دورة اللغة الانكليزية لمّا دخلت فاطمة بثوبٍ بحريّ يكشفُ ثلاثة أرباع جسدها الجميل. قالَ يومها:" الشباب ضاجوا! كنّا رح ناخد غطا الطاولة ونرميه عليها"!
ازدادَ شعوري بأني المسؤولة عن فشل الدروس ذاك اليوم بعدما زاغت عيونُ المدرسين الأفاضل ووهنت مفاصلهم، خاصة أنّ الشعب الأخرى ألصقت صوراً جاهزة .. كبيرة وجميلة للفنانتين.
فشلت محاولاتي لمعالجة الأمر، فقد ثارَ الطلاب ضدي واتهموني بالخداع والتغرير بهم وحرمانهم من حقهم الطبيعي في التعبير عمّا يرغبون ويحبّون. صرخَ أحمد في وجهي:" شو بضرّك إذا علّقنا صورة لوائل كفوري"؟ هتفتُ في أعماقي: معه حقّ. صوت وائل بجنّن، لكن بما أني لم أرَ صورته فعليّ إغلاق الباب قبل أن يتسلّلَ مطربون آخرون إلى دروسي.
حاولتُ أن أرفعَ عني تهمة التآمر الرخيص مع نظام السجن المدرسيّ. قرأتُ لشعبة المحبة مقطعاً من قصيدة جبران التي تحمل نفس العنوان، واقترحتُ كتابتها على لوحة مع صورة للشاعر أو لفيروز التي غنّتها. صرخوا جميعاً:" لماذا فيروز وليست هيفاء"؟ معهم حقّ.. ماذا يفعل مراهقو اليوم بالعجوز الفيروزية؟
استنتجتُ أنّ مكتباتنا خالية من صورة لها أو لجبران. أسبوعٌ مرّ والجدران خالية، فتراجعتُ عن تكليفهم مالاطاقة لهم به، ثم وجدتُ الحلّ برسوم علي فرزات التي أرضتني وأعجبتهم.
لطلابي سماتٌ خاصة وجب عليّ مراعاتها.. أرى جرحاً في أذن طالبٍ وديع. أسأله:" ماهذا يا تميم؟ هل تعرّضتَ لحادث"؟ يجيبني مبتسماً:" لا آنسة. هاده صاحبتي كانت عم تؤدّبني". أقولُ لمنار الذي يتبعني بعد نهاية كلّ حصّة، ويضع يديه على ذراعيّ وهو يثرثر بأيّ شيء رغم حديثي الدائم عن أولادي الأربعة لإقناعه بأمومتي، ولكفه عن لمسي:" بنات ثانوية أبو بكر عم يشكوا منك يامنار.. ليش عم تلحقهم"؟ يجيب:" أنا ياآنسة؟! أعوذ بالله! من شان الله تقوليلي مين قلّك.. رجاء وعبلة ورولا ولاّ رزان وسيما وناريمان"؟ ثم يضيف ضاحكاً:" ياآنسة في حدا مابحب البنات؟ يسلملي الله اللي خلقهن"!
هكذا أفهم لماذا لم يتسع الجدار لصورة فيروز التي كانت أغانيها صلاة، أو لصورة ذاك الحالم المتمرد جبران.. لقد انقضى عصرُ فنّ شاحب من الأسى والتفكير، وجاءنا فنٌّ مورّدُ الخدّين خفيف الخطا راقص القلب والذهن والروح.
بعد حرب العراق والإخفاقات العربية المتوالية تهافتَ معظمنا على السوبر ستار والستار أكاديمي وغيرها من برامج المسابقات التي بلغت حدّاً كبيرا من التنوع والابتكار السخيف أحياناً.
قد أقول كما يقول غيري إنّ الجري وراء هيفاء ونانسي وغيرهنّ أفضلُ من الدعاء للمنظمات الإرهابية، أو إشهار الإنسان سلاحاً في وجه أخيه، وقد أقولُ إنّ تفصيلَ الأغاني على أجسادهنّ ليس أسوأ مما أصاب الأغنية الريفية من انحدار، فمن نصري شمس الدين وجوزيف صقر إلى علي الديك ووفيق حبيب بونٌ شاسع.
رغم تقديري لجمال هيفا ولطافة نانسي اللتين تبدوان كأم كلثوم نسبة لمن أتى في أذيالهما، ورغم عدم نفوري من الديك كما يحصل لي مع مقلديه المتسللين من الكراجات إلى شاشات التلفزة، لن أستطيعَ مواصلة تقديم المبررات. آسفة.. إنّي أخشى يوماً تكتَب فيه ترجمة لمارسيل خليفة فيقالُ عاش في عصر هيفا والحاصودي، أو كان معاصراً لوفيق حبيب.
لن أؤيّد صباح عبيد في قراراته البهلوانية. سأنتظرُ شيئاً أجملَ يطغى على عبادة الجسد الأنثوي والتي مازالت طقوسُ الفن منذ بجماليون تكرّسها وتعلي من شأنها، مع أنّ بجماليون نفسه لم يقف عند حدود الجسد، بل بحث عن شيءٍ آخر فيه يستحق البشرية.
أتمنى ألا يقاضيني عشّاقُ الهيفاوات الذين يذوبون مع الفن الدلّوع. صدّقوني لقد قلتُ لطلابي:" علّقوا ماشئتم من صور الفنانتين في غرفكم . أمّا هنا؟ هذه مدرسة شباب"! فجاءتِ الأمهاتُ يركضن:" شو صور لهيفا ونانسي؟ بدّك رجالنا يسكنوا بغرف الأولاد ويعطلوهم عن دراستهم"؟ اعتذرتُ ثانية، فدراسة طلابي.. شعلات الغد المنير هي الأهم. ووجمتُ محتارة: لماذا لم تكن مدرستي كبيرة لتتسع لأهواء طلابي وطموحات مجلس الآباء؟
08-أيار-2021
26-تشرين الثاني-2010 | |
21-تشرين الثاني-2010 | |
01-أيار-2010 | |
29-آذار-2010 | |
14-تشرين الثاني-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |