لَيْسَتْ هَذِهِ حلب يا والدتي !!!
خاص ألف
2010-11-03
( 1 )
الشوارعُ مُستقيمةٌ , صنيعُ ذهنٍ إفرنسي لُيتاحَ للجندي قَنصٌ , بيوتٌ طينيَّة وأُخرى تَلْهَثُ نَاحَ الحضارة متلهِّفَةً إلى بناءٍ إسمنتي قميء , البيوتُ ها هنا مفتوحةٌ , خلال سنواتٍ هاجرَ الكثيرون إلى بلادٍ تحترمُ الإنسان , لقد كانوا يكذبون على زوجاتهم : الوضع سليمٌ ( ميّة بالميّة ) ولاشيء مائة في المائة سوى الركونُ إلى الكَسل المُستَحَبّْ , هربوا من ( الذلّ ) !!!
أينَ الذلّ في مدينةٍ غير موجودة أصلاً , أجل , لطالما ظننتُ أن المدينة غير موجودة , مجردُ شبحٍ , حينَ عودتي من حلب إلى عامودا كنتُ أعتقدُ كلما اقترب الباص الى المدينة أنه لن يتوقف بل سيتابعُ السير نحو ماردين التركيَّة وأن العَراءَ الذي يحوي عامودا سوف لن نتأمَّلهُ نحن الركَّاب إلَّا حُطَاماً ورماداً بشريَّاً لكن صوتُ المعاون الغبي وهو يقولُ ( الحمد لله على السلامة ركاب عامودا ) كانَ يعيدنا إلى الواقع كَصَفعَةٍ قويَّةٍ مباغتة من رَجُلِ أمن .
( 2 )
النساءُ ها هنا مُشوَّهات لا عمل لهنَّ سوى تربية الدجاج وتنظيف البيوت وتوبيخ الأطفال , هناك نساءٌ طبيبات ومحاميَّات وشاعرات ومجرمات و .. و.. و.. , لكن !!! لمجرّد الحديث مع إحداهنَّ ستكتشفينَ الخواء العميق بكل يُسرٍ , والدتي لا هَمَّ لها سوى المازوت والحطب لنكونَ نحن الأولاد دافئينَ من الخارج ومن الخارج فقط ليست مهمتها الحوار مع ابنها ولا سؤالهِ عن معاناته ولا عن أي شيء آخر (شو صار معك من شان ماسورة المي ) أو ( ولاك رحت عالبريد من شان دفع الفاتورة ) والأقسى من كل ذلك حرقها لمجموعة كتبٍ خلال فترة تغيبي عن المنزل بدعوى أنها لا تفيد وتخَرِّبُ عقل الولد وكأن عقل الولد عقلٌ حقيقي ؟؟!!! يا للمخدوعة .
إن حديثي عن والدتي ليسَ مَبعثهُ استياء أو ضَجَر كلا مطلقاً , الوالداتُ هنا أشدُّ رأفةً على أولادهن من أية أمهاتٍ أُخريَات على سطح الأرض , ما أريدُ قولَهُ عن النساء أنهنَّ لطيفات , طيّبات , مُضَحّيات وغبيَّات , أبي دخلَ السجن في عام 1996 إلى أن ماتَ ( وفي السجنِ أيضاً ) عام 2000 والسببُ سوءُ تقديرٍ لعلاقاتهِ , حيثُ صديقٌ زوَّر توقيعهُ على قسائمَ بيع الحبوب بمبلغٍ ضخمٍ سُجِنَ على إثره , أتذكَّرُ عندما أُلقيَ القبضُ على والدي , إقتادوه بكل مودَّةٍ واحترام !!! من مقرّ عملهِ إلى سجنٍ , لم نَرَهُ مدة ثلاثة أشهر , أخبرتنا الحكومةُ بعدها بأمرِ القبض عليه , فقط هكذا : لقد أُلقيَ القبضُ عليه وَكفى , خلال ثلاثةِ أشهر تَمَّ حجزه في غرفة ضابط ضمن دائرة الأمن السياسي ثم ليُنْقَلَ إلى سجن المحافظة المركزي حيثُ باتَ بمقدورنا رؤيتَهُ , بدا والدي حين الزيارة الأولى عجوزاً جداً ( على الرغم من أنه لم يُضْرَبْ أبداً خلال فترة السجن ) , كانَ يرطمُ رأسهُ بالجدار وهو يصرُخ : لِمَ أنا في السجن ؟ هَلَّا تُفصحون ؟
للأسف لم نكن لِنعرفَ السبب أيضاً , بَعدها توضَّحت الأمور واعترف الناس الذينَ قاموا بتزوير توقيعهِ لكن لم يُفرَج عنه وتم تعديل التهمة من ( اختلاس وتزوير ) إلى ( إهمال وظيفي ) , أغبياء .
بعدَ الإعترافات تم نقلهم إلى سجن حلب للمحاكمة , سنة ونصف السنة لم نرَ والدي , لا أنا ولا أحد من أولاده ,
_ عمي يجبُ أن أزورَ والدي لقد اشتقتُ له !!
_ لا , لا , لا , حلب بعيدة جداً ,
هذا الجواب نَسَجَ في ذهني بخيوطٍ قاسية مسافةً من عامودا إلى حلب وكأنها من المستحيل , أحياناً كنتُ أعتقد بعد سماعي لجواب عمي أننا لو ركبنا الباص متوجهين الى حلب فلن نتوقف بل سنقضي عمرنا كله ونحن نسير دونما وصولٍ , إلى أن ماتَ والدي في السجن , لم أرى والدي بعدَ سنة ونصف إلا جُثَّةً مُمَدّدة في مطبخ بيت جدي مُعرَّى لغسلهِ , كانت جُثَّتهُ مبتَسمة على غير عادةِ الجُثثْ , بمقدوري هذه اللحظة تَذكُّر بريق سنِّهِ الأماميَّة الذهبيَّة, بعدَ نجاحي في امتحانات الثانوية العامة قررت دراسة علم الإجتماع في جامعة حلب , أتذَكَّرُ عندما كنتُ أُحَضِّرُ نفسي للمغادرة إلى حلب , ذلك التوتر الذي لن أنساهُ أبداً , انطلقَت الحافلة صوبَ حلب عند الواحدة بعدَ منتصف الليل , نِمتُ حالماً باللاّوصول ,
_ هَيْ .. هَيْ ..هَيْ ..... لقد وصلنا إلى حلب !! كانَ المُعاون يهزني لأستيقِظْ .
لم أفعل سوى النظر إلى الساعة التي كانت تشيرُ بكلِّ وَقاحَةٍ إلى الخامسة صباحاً , اللعنة ,
من ذلكَ اليوم إضطربت علاقتي بالساعة وبالمواعيد , تلكَ الساعة جعلَت مني متخلِّفَاً عن كل موعد حتى تلك الحكوميَّة .
صَرَخْتُ في وجه المعاون القَذِرْ :
_أنتَ متأكِّد من وصولنا إلى حلب ؟
_ بالطبعِ وصلنا ..!!!
_ ولكن ليست هذهِ حلب !!!
_ هل زرتها من قَبل ؟
_ لا لم أزُرها ....
تَرَكَني المعاون وهو يشير بكَفِّهِ للسائق , الحركة كانت شبيهةً بتلكَ التي نأتيها عندما نريدُ قولَ : ( يبدو أنَّ الفتى مجنون ) دونَ أن نَجْرَحَ .
نَزلتُ من الحافلة لأجلسَ على الرصيف وأنا أبكي , الرصيفُ ذاك أمقُتُهُ , من سنواتٍ بعيدة لي طَقْسٌ أداومُ عليهِ دونَ كَللٍ , عندما أصلُ حلبَ أبصقُ مراتٍ على الرصيف , أتذَكَّرُ يوماً كنتُ فيهِ ثملاً ( لم أكُنْ أعي ما أفعلهُ غير أنَّ الاصدقاء أخبروني فيما بعد الصَّحوة )
_ لقد حَررَّت عُضوكَ والناسُ مذهولونَ لصَنيعكَ , ثُمَّ أغرَقْتَ الرصيفَ .
إنَّها الأرصفةُ لا تُغَادِرُ روحي , مغروسةٌ في اللاّشعور , في أيَّامٍ ماضية عانيتُ كوابيسَ عن الأرصفة , أرصفةٌ مُسَلَّحة تلاحقني , أرصِفَةٌ مليئةٌ بالجثث , أرصفةٌ , أرصفة , أرصفة , أقسمُ بالربّ العليّ العظيم إنَّها أرصفةٌ يا والدتي , وإنَّ هذه ليسَت حلب .
جوان تتر عامودا 2009
08-أيار-2021
23-كانون الثاني-2021 | |
29-أيلول-2018 | |
17-حزيران-2017 | |
17-آذار-2015 | |
18-أيار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |