ربما لا تشبه تجربة زاهي وهبي الجديدة «كيف نجوت» (الدار العربية للعلوم/ ناشرون-بيروت) تجاربه الشعرية السابقة التي ظهرت في مطلع التسعينيات، وقد لا تشبه أيضاً تجارب أقرانه من الشعراء الذين ظهروا في بداية الألفية، حيث موجة من أسماء مغامرة
‏ ومسلحة بالثقافة الغربية (الفرنسية) تقتحم المشهد الشعري اللبناني وتطوقه بأفكارها ومشاريعها الحداثوية الناسفة، حاملة وعي وثقافة جيل الستينيات، مع أسماء توجهت نحو الحداثة بعيون مفتوحة وروح مغامرة، وأسست ما يمكن القول عنها حقبة انسلال الشعرية العربية واللبنانية بشكل خاص عن مسارها المعتاد صوب القطيعة مع الموروث الشعري العربي، ليبدأ العد العكسي لإنتاج تجارب جديدة على القصيدة الحديثة وخاصة قصيدة النثر التي أفرختها التجارب الستينية في مختبرات مجلات مثل (شعر) ومجلة (آداب) ومجلة (مواقف) وكتابات معاصرة فيما بعد، فتوضحت معالم هذه الحداثة على يدي يوسف الخال وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا ووديع سعادة و الياس لحود وبعض أسماء شعرية شابة أخرى قوية في اقتراحاتها مثل (محمد عبد اللـه وعباس بيضون ويوسف بزي وعناية جابر وجمانة حداد و زاهي وهبي) وعلى عكس هؤلاء أنتج زاهي وهبي نصاً مقبلاً من منحدرات روحه وتجاربه الشخصية في الحياة والذاكرة الطفولية وارتباطاته مع خضمه الاجتماعي وسلوكياته مع مؤتيات مخيلته الإبداعية التي لم تتوقف عند حد نقلها من إطارها المجرد إلى إطار محسوس يغلفها لغة شعرية عالية مبحوثة وقابلة للتجديد في كل تجربة كتابية وحياتية جديدة، واليوم يصدر وهبي رزمة من نصوص متنوعة فكرياً و بنائياً ومطولات شعرية تعول على استعادة مخيلة جارحة والتنويع عليها عبر لقطات تخالطها مقاطع سينمائية متجزئة ومتلاحمة تقترب من القصيدة التسجيلية حيث يتسلل الشعر رويداً رويداً في جسد نص يتمدد إلى شروح شعرية تطول وتقصر حسب الحيوية والألفة وحسب تناغم الأصوات التي تجول متموجة بين فناء المفردة الواحدة المتكررة والتي تتفتح على شكل حديقة متنقلة صارخة بألوان هادرة تُملئ السياقات بذلك الإيقاع الحساس من ترادف المعاني و الدلالات و تزاوجها الحميم الحار:‏ ‏
ماذا أفعل بكفيّ‏ ‏
إن لم أمسح عن ظهرك‏ ‏
آثام أسلاف قساة‏ ‏
ماذا أفعل بصوتي‏ ‏
إن لم يصر صوتك‏ ‏
ماذا أفعل بموتي‏ ‏
إن لم يصر عشباً للآتين غداً.‏ ‏
يعتمد وهبي وهو صاحب أكثر من أربع مجموعات شعرية على طريقة إيقاع القارئ في أحابيل التكرار المسلية المبطنة ببساطة الفكرة و بداهتها وكثيراً أيضاً ما يتعمد إلى تشويش القارئ بفرض مشاهداته و تأملاته عليه كنوع من البهرجة الشعرية و كضرب من ضروب تنبيهه و إيقاظه أو انتشاله من هامشيته و بلادته: ‏ ‏
مرورك يجدّد الهواء‏ ‏
نظراتك تغسل المدى‏ ‏
يا لهذا الصحو، يا لهذا المطر‏ ‏
يا لهذا العطر الذي لا تحيط به‏ ‏
قامة أو قارورة‏ ‏
يا لهذا النهد المتقدم في الشهد.‏ ‏
(كيف نجوت) نصوص سينمائية بامتياز، حيث الكثافة و التموج اللغوي على مسافة واحدة من إقامة مشتركة و البساطة البنائية و الأسلوبية على مفترق تأثيث جمالية مسلحة بذلك الصفاء الذي لا يتكرر و لا يتوارى، نصوص هي مقدمات في أداء الكلمة أدواراً و أصواتاً أكثر عمقاً مما هي عليها، أكثر ترسيخاً لقلق الكائن المترقب خلاصه : ‏ ‏
ومن أنا‏ ‏
سوى قتيل يبكي قاتله‏ ‏
كلما طلع صباح‏ ‏
أمسى دمعي حديقة ليل خلفية‏ ‏
وقفت قبالة المرآة‏ ‏
أغني على ليلاي‏ ‏
كذئب أكلته ليلاه‏ ‏
أغلب مواضيع كتاب (كيف نجوت) هي عن الحب أو مشاهد سينمائية عن التحام و فراق شخصين يغرزان أصابعهما في السماء و يمضيان جنباً إلى جنب نحو الريح، حكاية ليلى والذئب التي تحولت إلى قطعة موسيقا يتناقلها العشاق في رسائلهم اليومية، مشهد المرأة الضاحكة المكتظة بالينابيع و الأنهار، التي تتدلى من ضحكتها عناقيد النهار، دائماً في كل مشهد ثمة رجل و امرأة يحفران في المشهد أحرفهما الذهبية و يجلسان وحيدين تحت شجرة اللغة متفرجين وضاحكين. ‏ ‏
‏ ‏
منشورات دار العربية للعلوم- ناشرون -بيروت‏ ‏
دمشق
أبواب
الاحد 14 تشرين الثاني 2010