ما تبقى من ألوان الصورة
خاص ألف
2010-11-29
توسلتها ابنتها ناطالية أن تعثر لها على صورة أبيها لتشبع فضولها في النظر إلى حقيقة شكله كما هي لا كما رسمته في خيالها، لقد أفرطت أمها لويزة في وصفها إلى درجة شوّقتها إليه و جعلتها تعيش غربة قاسية.
كانت لويزة وحيدة إلا من ابنتها صاحبة العشرين ربيعا، لقد حفتها بحنان لا نظير له و ناطالية تعتبر أمها العزاء الوحيد في هذا العالم.
أخبرتها أنها لم تكن هناك من صورة لأبيها و أنها تعرفت عليه لأيام ثم هجرها، قالت لها انه رحل إلى أمريكا، و أنه كان يهاتفها بين اللحظة و اللحظة دون ان تدري شيئا عنه و لا عن مكانه و لا عن عمله، أخبرتها أنها ثمرة ليلة سعيدة نثرا فيها أمانيهما لنجاح رابطة أزلية بينهما، لكن هناك خطب ما حال دون ذلك.
لقد هجرت لويزة المدينة التي كانت تقطنها من عشرين سنة و ناطالية لا تعرف إسما واحدا عن عائلة أمها و لا عن عائلة أبيها، كل ما تعرفه أصدقاءها في الحي و زملاء الجامعة و الظاهر أن لويزة كانت تقطن مونبيليه ثم رحلت إلى العاصمة باريس و استقرت بصفة نهائية، لا أحد يعرف عن تاريخها شيء، الأمر الوحيد الذين علموه أنها أشد تكتما في أسرارها و أقصى درجات التكتم مما يتصور أحدهم.
لمّا كانت تلح عليها ناطالية في معرفة على الأقل فردا واحدا من عائلة أمها كانت تخبرها بوجود شقيقة لها، لكن للأسف هي موجودة في مونبيليه و بالضبط في مستشفى المجانين.
ناطالية لطالما تخبر أمها بما يلوكه الجيران من كون أمها ذات ميول جنسية غريبة، و بأنها زانية رغم علمهم بمزاولتها مهنة التدريس في كولاج الحرية.
لما كانت تضغط ناطالية بشدة كانت لويزة تهدّأ من روع ابنتها واعدة إياها بزيارة قريبة لخالتها المجنونة، لقد تألمت ناطالية كثيرا و طويلا و مع هذا لا زالت تأمل في لقاء أحد أقاربها ذات يوم.
تمكنت ناطالية من إقناع لويزة بزيارة خالتها روزا المجنونة و لأول مرة رأتها على كرسي متحرك، كانت خالتها تشبه ناطالية كثيرا إلى درجة يستحيل التفريق بينهما و تصدّق نفسك أنها أختها الصغرى، و لولا هذه التجاعيد التي بدأت تظهر على روزا بالقرب من عينيها السوداوين الواسعتين لخلتها توأمها.
كان بريقا يتوهج من بؤبؤهما و من بياضهما، عينان تبرزان براءة كاملة، كانت روزا ذات بشرة صافية بنقاء ظاهر، زادها جمالا حاجباها الرقيقان المسطّران كأنهما هلال يشيع ضياءً فضيا يأسر ناظره، نظرت روزا في لويزة و تهلّلت أسارير وجهها و قالت: مرحبا
نظرت لويزة نحو ناطالية، ثم رمقت روزا الوافد الجديد مع لويزة و باستغراب، تغيرت ملامح وجهها و سألت مشيرة برأسها لناطالية:
- من تكون؟
و قالت لويزة أنها الطفلة الصغيرة التي لطالما حدثتها عنها.
سكتت روزا برهة كأن صاعقة من السماء وقعت على رأسها، أمرت الممرضة بأخذها إلى غرفتها، لقد تحوّل فرحها لقدوم لويزة إلى ضيق و كدر، و بدت لها هذه اللحظات سكينا معتّقا بالسم بج بطنها و أحدث موتا فظيعا، لم تكن ناطالية لتتركها، لكن روزا أبدت ردة فعل سلبية بمجرد أن قبّلتها على جبينها و خاطبتها باسم "خالتي روزا"
لم تكن ناطالية سعيدة بهكذا لقاء، نظرت في أمها متسائلة عن سبب إنزعاجها و عن لقاء بارد فاتر كما الصقيع الذي يدفن الدفأ في الأرض.
- أهكذا حالتها دائما؟
- ليس دائما، خالتك روزا مسكينة إنها مريضة.
- كنت دائما تتكلمين عن مرضها، دون التحدث عن الأسباب التي جعلتها تدخل هذه المصحة.
- الأطباء قالوا تعرضت لصدمة نفسية عنيفة، أفقدتها توازنها العقلي و النفسي، قالت لويزة ذلك بحسرة كبيرة ظهرت في صوتها الذي بدا صوت الذي أخذه النعاس:
- ألم أقل لك يا بنيتي إنها مريضة.
- رأيتها مهللة الوجه فرحة، لكن تبدّل ذلك برؤيتها لي و بمجرد ما خاطبتها بإسم خالتي روزا.
نظرت لويزة إلى ابنها كما تنظر الفرس إلى مهرها ثم وضعت رأس ابنتها في صدرها و ضمتها بحنان واضعة شفتيها على شعرها الحريري و أنفها يشم عبق رائحته.
تعددت الزيارات، لم تعد الخالة روزا تتكلم، و لا تنظر في الوافدين عليها و اقتصر اللقاء على حضور كالغياب، مع هذا ناطالية سعيدة بإكتشافها لأحد أفراد عائلة أمها و تطمح في معرفة أفراد آخرين كما تأمل في رؤية أبيها كل يوم تشرق فيه الشمس، أمل يحدوها و تصّلي للرب لأجل ذلك اليوم.
لويزة تتغيب مرات و تأتي متأخرة مرات مخمورة فاقدة الوعي و في كل صباح تعتذر لناطالية عن إقدامها على ذلك و ناطالية بقلب المتسامح تتفهم الأمر.
هناك داعي ما دفع ناطالية أن تتجرأ و تسأل أمها لما لم تتدبر رجلا و تعيش حياتها خاصة و أنها لا زالت جميلة و عمرها يفوق الأربعين بسنة أو سنتين، يمكنها الزواج لو تقدم لها رجل و وافقها على نحو من عيشها، قالت أنها لا زالت جميلة وكل رجل يحلم بها و قد يقع أحد ما في حبها لو فتحت الطريق لذلك.
- لا شك هناك في الكولاج من يقع في حبك و يبادلك الغزل من المستحيل لا يوجد من بين المدرسين عزاب ومطلقين، الإنسان كله مشاعر و أحاسيس و هناك إلتقاء ما بين الأرواح. قالت ناطالية ذلك ثم ضحكت لأمها كأنها تشجعها على ذلك.
شعرت لويزة بحرج و مع هذا لم يمنعها ذلك من التبسم ثم لمّت شفتيها المطليتين بصبغ شفاه بني، عظّت على شفتها السفلى قليلا ثم أخذت على حين غفلة ابنتها بحضن.
- من الصعب الحصول على حبيب، حتى و لو حدث لا يمكنني الزواج هذا قرار اتخذته من زمان.
- لماذا؟
- إنها مسألة شخصية يا ابنتي، كل ما يهمني الآن هو أنت، ما حدث صار في الماضي و مهما تأسفنا يبقى قاطبا في الزمن، إنها إختياراتنا، في النهاية ملزمون بتحمل تبعاتها. قالت لويزة بنبرة أسف.
كانت ناطالية قد دخلت عامها الواحد و العشرين و سعدت بحصولها على شريك يحبها و يهتم لأمرها، علمت لويزة بذلك فلم تبدي رفضا و تركت الأمور تجري على طبيعتها بل لم تعلّق حتى مجرد التعليق.
كان كولاج الحرية في وسط باريس يشهد حركة إنتقال الأساتذة كما باقي لييكولاج كل نهاية سنة دراسية و لقد انتقل أستاذ رياضيات من الضواحي إلى كولاج الحرية، كأن أستاذ الرياضيات من أصول مغاربية، كان والده قد هاجر في الستينات إلى فرنسا عاملا في إحدى مصانع النسيج، كان اسم الأستاذ بيار عصمان، كان رجلا أسمرا طويلا، بأنف مدبب، حاجباه بهما شعر كثيف شديد السواد، عينان كبيرتان تلمعان و صوت يقترب إلى البحة، كان يتأنق الكلم و اللباس، متميز في سلوكه و لو أن رغباته تكاد تكون مضطربة من خلال ميولاته ومعاملاته مع طلبته، جذب إليه الكثير من الأصدقاء وتفاعل معهم سريعا.
كان في الأربعين من العمر، لم يكن متزوجا، أبدت لويزة إعجابها به، لم تستطع كبح مشاعرها، كابدت حبه سرا ثم تحول ظاهرا، بيار عصمان أغرم بها أيضا، حدثت بينهما بعض اللقاءات المتكررة الخفيفة تبادلا الحب بجنون .
كلّمها بيار عصمان عن جديته في الزواج بها، لكنها كانت كل مرة ترفض الحديث في هذا الموضوع.
- لا يمكننا أن نتزوج لنبقى حبيبين.
كانت تبدو في لحظة تفكير، في حالة من التأمل بعينيها العسليتين، تحدق فيه، وجهها مائل بمقدار بسيط إلى جهة اليسار، رقبتها المزينة بقلادة ذهبية كبيرة و المرسوم عليها وجه إمرأة رومانية، هذا العنق الجميل أضفى سحرا و تناسقا بين وجه مليح صارخا في الجمال و هذا الصدر اللطيف المواتي لحوضها، كتفين عريضين، خصر نحيل، ساقين جميلتين ممتلئتين، صدرها المتكور كأنه مرسوم بريشة فنان ماهر، هذا الجسد المتناسق كأنه خضع لعملية تجميل و تغيير، إضافة إلى روحها المرحة وإنفتاحها على الآخرين.
لقد أحب فيها بيار عصمان كل شيء ، ألح عليها أن تفتح قلبها له، تقاسمه أسرارها، لكنها كما العادة ترفض بدعوى ابنتها أو بداعي آخر، الشيء الذي صارحته به أن لها عشيقا آخر، و يتوارى عن الأنظار، حتى ابنتها لا تعلم بذلك.
صارحت بيار عصمان بحبها له و تريد نسيان علاقتها بعشيقها الآخر، ولكن قبل ذلك كله قررت أن تخبره الحقيقة ليطمئن قلبه و يختار، و حتى تشعر هي على الأقل براحة ضمير.
لقد صار بيار عصمان مجنونا بها، صارت سلوكاته تجنح لقسوة و عنف إتجاهها، باحثا عن ذاته الأخرى التي تمثلت له في لويزة، أبدى قبوله بالحقيقة التي أخبرته بها و صار قابلا للتأقلم مع الوضع الجديد.
كان بيار عصمان أكثر من أوروبي برغم ثقافته المزدوجة و التي تعلّمها من أسرته العربية، كان شهوانيا و مازوشيا يتلذذ بالألم الذي يعانيه جراء حبه للويزة، يعذب نفسه في سبيلها و يرضى بكلها، و الحقيقة أن الحب صنع فرسان وأبطالا و عبيدا و قتلى و قتلة.
كانت ميولات بيار عصمان و لويزة متقاربة، لقد عرف بيار عصمان الذي لم يكن يعرفه عن حبيبته، ظل متمسكا بها و أبدى استعداده للزواج بها.
لم يمر كثيرا من الوقت حتى صارت لويزة و بيار زوجين سعيدين. فرحت ناطالية بذلك كثيرا لأنها ستتعود على حياتها الجديدة مع شريكها ميشال الطالب في السربون .
مرت سنين، لم ينجبا أولادا و أرادت عائلة بيار عصمان ذات الأصول المغاربية و العربية أن ترى أولاد ابنها كما عادة العرب المتوارثة في رؤية الأحفاد، لكن ما من أطفال حتى الآن.
لم يرضى عاشق لويزة الأول بزواجها من بيار عصمان، خطط لطريقة في التخلص من بيار، وكانت جريمة قتل .
صارت القضية في يد الشرطة، ملابسات كثيرة توصلت المباحث من خلالها إلى القاتل، كان القاتل قد قدم إعترافات كانت مفتاح المعرفة على الغامض.
لما استدعت الشرطة لويزة كان لزاما عليها الاعتراف بجنون عشيقها و تهديده الذي لم تأخذه مأخذ الجد، لم تفكر أنها ستنفضح ذات يوم.
قدّمت مصالح الأمن تقريرها حول الجريمة مستبعدة "مصطلح الجريمة العنصرية" كما برأت فيه لويزة.
لم تقوى لويزة على البوح بتلك الحقيقة التي تخفيها من سنين، توسلت المحقق القيام بذلك قبل أن تنفضح في الجرائد.
استدعى المحقق ناطالية أخبرها بأن المسماة روزا و التي توجد في مستشفى الأمراض العقلية لن تكون إلا أمها الحقيقية.
- روزا خالتي المجنونة أمي؟ قالت هذا باستغراب كبير.
- نعم، رد المحقق.
و أضاف:
- أصيبت أمك و التي كانت أرثودوكسية محافظة لصدمة افقدتها عقلها، لقد وضعتك في مستشفى الأمراض العقلية و حضر ولادتك الكثير من الأطباء و المجانين كان بعضهم عباقرة، لقد قال من تحرى عنك أنك أخذتي عبقريتك من هناك و لذلك تتفوقين على كل طلبة الجامعة، أنت الآن تحضّرين الدكتوراه أليس كذلك.
- بلى، سيادة المحقق من تكون أمي، أو بالأحرى لويزة؟
لم يستطع ضابط الأمن المحقق إخراج الكلمة التي بدت له أنها الكلمة التي ستعلن القيامة و تفتح الجحيم:
- إنها ... أ. ب. و . ك
خرجت من الكوميسارية و تحت أشعة الشمس الحارقة، بدت شاحبة و الحياة باردة، اتجهت صوب مونبيليه و بالتحديد إلى مستشفى المجانين و في قلبها شوق كبير إلى أمها التي لم تحضّنها يوما ونابت عن ذلك لويزة أو بالأحرى أبوها.
لما دخلت المستشفى و بمجرد رؤيتها لأمها روزا هوت ناطالية على ركبتيها، حضّنتها بقوة لدقائق. استأذنت الممرضة لأخذ أمها في نزهة للحديقة المطلة على الشارع الرئيسي في المقلب الآخر، دفعت الكرسي المتحرك و في ذهنا الصور تعبر كأطياف، كانت ناطالية تملك قلبا يقوى على الغفران، سقطت أحلامها الجميلة في رؤية صورة أبيها، لأنها لن تراه أبدا.
كانت تحدّث نفسها أن الصورة التي لم تراها تبقى الاجمل بالنسبة لها، وأن الإنسان الذي لا يرضى بطبيعته التي خلقه الله عليها لا يعرف القوانين الحقيقية التي تدل على العدالة و أي عدالة هي عدالة الله ، وأي ظلم يحدثه الإنسان للآخرين بتعديه لهذه العدالة.
08-أيار-2021
22-شباط-2011 | |
29-تشرين الثاني-2010 | |
13-آب-2009 | |
05-آب-2009 | |
27-تموز-2009 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |