حكايات الفردوس المشؤوم
خاص ألف
2010-12-26
ثمة قولٌ مشهور عن الغربة كونها فعل مطلق وطريق باتجاه واحد ما أن تسير فيه حتى يستحيل عليك العودة منه, وهناك الكثير الكثير من العراقيين منْ فرّ بدينه أو بدنياه إلى خارج العراق لتمزقه المنافي في معسكرات اللاجئين في إيران أو صحراء السعودية أو الغرف المزروعة بالرطوبة والبرد الذي ينخر العظام في حي السيدة زينب وفي ضواحي عمان أو من قضى غرقا في المحيط بين أندونيسيا واستراليا أمام أنظار العالم المتفرج على (تايتانك) عراقية لاتحمل على ظهرها عازف غير الموت. ولطالما وحدنا الموت في الحروب الطويلة والقصيرة الخارجية والداخلية وكأنه قاسمنا وقاصمنا المشترك الذي جمعنا ومنذ أوائل السبعينات حتى يومنا هذا على نار الشكوى من الدهر الخؤون وتكالب الزمان علينا وشدّة الفتن بنا حتى أصبح شعبنا ذو الأرومة الفلاحية رمزا للتشتت والضياع في زوايا العالم الأربع بل شعب الله المحتار بين نارين نار الله الموقدة داخل الوطن وجحيم الغربة والاغتراب والجنون الذي يضرب بالعراقيين في مجمعات اللاجئين ومخيمات المهجرين الذين كانوا مضرب المثل بالتيه واللاجدوى (فلا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنٌ) ومفردات مثل الجنون والانتحار والاكتئاب والعزلة والوحدة تحولت لدى المغتربين من العراقيين إلى مفردات أليفة وحياتية يتم تداولها كالأسئلة عن الصحة وأحوال العيال ومدارسهم. يتسائل الروائي علي عبد العال على لسان أحد شخصياته(هل تظن أننا تخلصنا من العراق أم تخلص العراق هو الذي تخلص منا؟) ومن هذا الجدل يأخذنا الناقد الدكتور حسين سرمك في كتابه الجديد "الفردوس المشؤوم دراسات في منجز حكاء المنافي -علي عبد العال- الصادر عن دار الينابيع في دمشق, في رحلة نقدية جديدة -كما عودنا- عبر المنهج النفسي لتحليل الأعمال الروائية والقصصية للروائي المغترب علي عبد العال الذي أمضى أكثر من ربع قرن في السويد فردوس الخلاص المشؤوم الذي يفتح الباب واسعا للموت الأبيض, أي موت العزلة والوحدة واللاجدوى. فمن ينجو من العراقيين من الموت الأحمر الدامي الذي دفن الوطن لعقود ولايزال يحفر قبوراً مدماة لضحاياه, سيواجه موتاً أبيضاً نضراً كالجليد والثلج الذي يرتفع أعلى من هامة الانسان.
يقدم حسين سرمك الكتاب بإهداء لضحية من ضحايا المنفى وأحدى حكايته المريرة: إلى ضحية عذابات حياة الغربة وجحيم المنافي أخي الروائي العراقي "مهدي علي الراضي" زرعت بذرة الشعور بالذنب السوداء في تربة روحي مرة وإلى الأبد..يوم أخبرتني صباحاً بأنك سوف تنتحر ليلاً ولم أصدقك. ونفذت الأمر فعلاً.. لماذا لم أصدقك, وآخذك معي إلى الغرفة أيها الطفل الطيب؟..لماذا؟ ثم ينقل لنا حسين سرمك في بداية كتابه عن صحفي منفي –من كتاب التحليل النفسي للمهجر والمنفى مانصه " لقد تمّ الحكم على أولادنا أن يكبروا ضمن لغة غير لغتهم, وحُكم على أعيننا أن ترى الشوارع والأشجار التي لا نعرف. لقد حكم علينا أن نشهد كيف يموت أهلنا وأجدادنا عبر رسائل البريد, وكيف يولد أبناء الأخوة والأخوات عبر المكالمات التلفونية. ومع ذلك, يبقى الألم الأكبر هو أن نرى وطننا يبتعد كالمد والجزر البعيد والغريب عنّا وكيف أن أجسادنا تبدأ. رغماً عنها وربما إلى الأبد. الإعتياد على بلد لم تختره بإرادة حرّة." يتحدث حسين سرمك في الفصل الأول عن علي عبد العال اختصاصي أدب المنافي ويعرّف القاريء بقصصه ورواياته التي تدور كلها حول ظاهرة المنفى والهجرة القسرية أو الطوعية بحثاً عن أمل في حياة أفضل, ثم يتحول في الفصل الثاني عن الفردوس المشؤوم عندما يبدأ من القصة الطويلة أو الرواية القصيرة "المهاجر" (60 صفحة) من مجموعته القصصية عالم صغير جداً فيقول (( يقدّم القاص قصته (المهاجر) بالقول "بعض هموم لاجيء حزين في السويد" وهو هنا يقوم بـ "تصغير" المعضلة التي تنتظرنا من خلال استدراجنا بـ"بعض" لنفاجأ مع توغلنا في مسار النص السردي أننا أمام جبل هائل من الهموم المميتة التي تحاصر (سلمان ماجد) صديق راوي القصة. القصة تسرد بضمير الأنا رغم إن البطل الفعلي هو سلمان وليس الراوي. صدمة ثقل "كل" هموم لاجيء حزين في السويد نلتقيها من لحظة الاستهلال: " في غرفة صغيرة. في قلب العاصمة ستوكهولم؛ تحول لسان خلّي وصديقي القديم "سلمان ماجد" إلى مبضع صغير حاد وصقيل تركته يسري في لحم الأيام القاسي كنصل يشق وجه الماء- ص 37" إن الحدة الوصفية لطريقة حركة لسان الصديق كمبضع يسري في لحم الأيام وكنصل يشق وجه الماء تسهم في تهيئة استعدادنا النفسي لاستقبال ضربات الآلام المقبلة. ولو أمعنا النظر في هذا الوصف الاستهلالي فسنجد الانتقالة الموفقة التي تحقق من خلال التناقض بين فعل استعادة الصديق لكتلة جسيمة من ذكريات خانقة وموجعة ذات لحم قاس ينبغي "تشريحها" بمبضع لساني لأنها عصية عن الاستعادة والاختراق اليسير, وبين انفلاتة الصديق بالحكي المحموم الذي ينطلق انفجارياً وببساطة تشبه السهولة التي يشق بها النصل وجه الماء. وفي الحالتين هناك دقة في تشبيه اللسان بالمبضع والنصل شكلاً وفعلاً, لكن الاحتفاظ بحقيقة إن السرد أصلا هو شق لأوصال المكان؛ وتقطيع لجسد الزمان ومن عادة علي عبد العال أنه لا يترك ثيمة أو موقفاً أو وصفاً في مسار السرد إلا و"يعتصره" عصراً من خلال الطرق المتكرر, وعلى مفاصل مختلفة كل مرة, إلى أن يفككها و"يفصخها" تماماً لذا نجده يعود مباشرة إلى القول: "صديقي الحزين الذي فارقته منذ أعوام؛ راح ينثر الكلام من خط وردي رفيع يستقر وسط دغل كثيف لذقن اختلط فيه سواده بغلالات من البياض- ص38". وليواصل بعد أربعة أسطر يتحدث فيها عن شعر لحية صديقه الكث جداً الذي يجعله " يشبه أجدادنا القردة " كما يقول: "بدا وكأن لا شفاه له, وإنما فتحة وردية اللون تنبثق منها الأصوات المبحوحة الهادئة المغموسة بعذابات ضائعة – 38. وبعد صفحة تقريباً يخبرنا فيها الراوي عن إنه وصل إلى السويد قبل بضعة أيام وعن الصورة الخيالية التي رسمها لعاصمتها, ويختمها بدعوة صديقه لأن يكون دليلاً له. يعود إلى موضوعة اللسان- المبضع والفتحة الوردية فبقول: - سأريك كل شيء أجاب بهدوء, ثم انسل المبضع الصغير من الفتحة الوردية غائراً في زبد الكلام-ص39. هنا نقلة نفسية لتصاعد المسار السردي ولـ" الكم" الكلامي الانفجاري الذي سيواجهنا, ففي المرحلة التمهيدية التي بدا فيها المبضع يسري في لحم الأيام الصلب, شق النصل وجه الماء من خلال الحضورالمادي المهيمن للصديق الذي سيتحول إلى سارد رئيس رغم أن من ينقل لنا وقائع القصة هو الراوي الأول الذي سيمتد دوره النفسي رغم انزوائه السردي, على نقل ما يقوله سلمان أولا ووصف الإطار المشهدي الذي يحيط به ثانياً ولعب دور "المحلل النفسي". وهو دور شاق ومضلل. لأفعال صديقه ثالثاً وإعادة تنظيم الأسانيد والتسلسلات التاريخية لذكريات سلمان رابعاً والامساك المحكم بحلقات السرد ووصلها بمهارة خامساً وهكذا يتطابق الراوي مع القاص حتماً)). هنا نجد الدكتور سرمك وقد أوغل في استخدام منهجه النفسي في تحليل الشخصيات والظروف التي تمر بها مبتعداً قدر الإمكان من الدخول في نقد الرواية نقداً لغوياً أو أدبياً رغم إنه يؤكد على أهمية السرد وما يسميه الوقفات الوصفية باعتبارها المرتكز الفني للعمل الأدبي؛ لذلك نجده يؤكد في مكان آخر من كتابه على إن رفع الفسح السردية تحول الرواية إلى مسرحية فيقول: ((عندما نرفع من الرواية ما يمكن أن أسميه "الفسح السردية" سوف تتحول الرواية إلى مسرحية لأنها لن يبقى منها سوى الحوار والحوار لا يبني رواية أبداً. إن قيمة الرواية ومرتكزها الفني يكمن في الفسح السردية الممتدة بين الحوارات. هذه الفسح التي تشمل التأملات الفلسفية والوجودية للكاتب "من خلال شخوصه طبعاً" التي تستثيرها مواقف صراعات الشخصيات وعقدها وتتطلب تأويلا من الكاتب أو استثماراً يمرر تحت أغطيته رؤاه وآراءه, والوقفات الوصفية لحركة الشخوص ومكونات المكان وحركة الزمان)). الفردوس المشؤوم كتاب من خمسة فصول, 1- اختصاصي أدب المنافي. 2- الفردوس المشؤوم الذي حمل إسم الكتاب.3- كوجيتو المنفى: أنا أتذكر إذن أنا موجود.4- أيها المنفيون: كلنا في إجازة مؤقتة من الموت. 5- علي عبد العال: أناالسجين الحر في المنافي.
ختاماً نذكر هنا أعمال الروائي والقاص علي عبد العال وهي كالتالي:
*المشي في الحلم –قصص-1987.
* مقتل علي بن ظاهر ومتاهته- رواية-1996
*انشودة الوطن. انشودة المنفى. قصص مشتركة.1997.
*العنكبوت – قصص- 1998.
*أقمار عراقية سوداء في السويد – رواية- 2004.
*ميلاد حزين- رواية – 2005.
*أزمان للمنافي- ثلاث حكايات- 2005.
*عالم صغير جداً –قصص- 2006.
*جمر عراقي على ثلج سويدي (جيسيكا) – رواية- 2008.
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |