"هبوط اضطراري" عندما يدق تشيخوف باب الحارة
خاص ألف
2011-02-26
السخرية برأيي نوع من التفاؤل, وهي مَلَكة مانعة من الوقوع في الكآبة, وتعبير عن روح تأبى الاستسلام لليأس وإن بدت للوهلة الأولى غير ذلك. وهي طريقة للتعبير عن الألم بإزاحته خارج الصدر, أو نفثه بعيداً بدل أن يتحول إلى ربو مزمن يقتل صاحبه بسبب ضيق المجرى التنفسي للحرية أو تلوّث أوكسجين المحيط. والسخرية سلاح مجرب يُشهر بوجه المحصّنين بخنادق المَنَعة والعزة التي توفرها مواقع القوة والنفوذ. يروي الكاتب التركي الساخر عزيز نيسن عن السبب الذي دعاه للدخول لفن الأدب الساخر والبراعة فيه فيقول: كنت في صغري فتى ضئيل الحجم ضعيف البنية وفي سني دراستي الأولى كان هناك من الطلاب منْ هم ضخام الجثة مفتولي العضلات وكان الكثير منّا يخافونهم ويخشون غضبهم. ولم أكن بارعا بشيء قدر براعتي باختراع القاب وأسماء مضحكة واطلاقها على من حولي واكتشفت حينها إنها سلاح يمكنني استخدامه ضد كل من يتعرض لي بسوء وهكذا أمنت شر اولئك الفتيان مفتولي العضلات ولم يتعرض لي أحد منهم خشية الألقاب الساخرة التي قد أطلقها عليهم. ثم تطورت الحالة لدي لتصبح مَلَكة قادتني إلى الأدب الساخر. مادعاني لاستذكار الأدب الساخر هو كتاب "هبوط اضطراري" الذي يحمل عنواناً فرعياً هو قراءة بيضاء في الصندوق الأسود للدكتور عبد القادر المنلا الصادر عن دار نون للنشر في حلب. وهو عبارة عن مجموعة من المقالات (الآراء- الشهادات) على عمل المثقف إبداعاً وإدارة على حد تعبير المؤلف الذي يؤكد في مقدمته على (أننا أمام زمن ثقافي يفترض أن يكون ناسخاً لما قبله, أعيد نشر تلك الشهادات بعد تجميعها في كتاب, وأترك للقاريء الحكم عليها ومقارنتها بشهادات الزور التي نشرت في الفترة ذاتها, مستعداً لتحمل كافة النتائج وعليه أوقع).
يعتبر كثير من كبار النقّاد في العالم العربي السخرية بأنها أرقى أنواع الفكاهة لأنها تحتاج الى الذكاء والدهاء، وهي لذلك من أدوات الفلاسفة والكتّاب الذين يسخرون من بعض العقائد والخرافات، ويتم استخدامها من جانب الساسة للاستهزاء والمساس بخصومهم. وكان فن السخرية قد ترسّخ في الأدب العربي على يدي الجاحظ في القرن الثامن الميلادي حيث شكّل كتابه "البخلاء" معْلمًا بارزًا في فن السخرية بايراده قصصًا متنوعة وعديدة عن البخل والبخلاء، علاوةً على ما جاء في كتبه الأخرى من روح السخرية الظاهرة والخفيّة. وقد كانت سخرية الجاحظ أداة للتعمق في الأشياء، وإلقاء الضوء على عيوب المجتمع والأفراد. وقد "كان الجاحظ في سخرياته يعتمد على إبراز الصورة كما يراها الرائي، وكما يرسمها المصوّر الماهر، مستشفًا الحركات الشعورية، متغلغلا في الخفايا النفسية، مستبطنا للإحساسات الخفية، ملاحظًا الصلة بينها وبين الحركات الظاهرية, السخرية قائمة على فكرة المقابلة بين الحق والباطل، او بين الصدق والكذب، او بين الصحيح والمزيف، أو بين الكمال والنقص، أو بين الطبع والتكلّف، وبعبارة مختصرة بين ما يكون وما ينبغي ان يكون".
بعد أن قرأت كتاب "هبوط اضطراري" باسلوبه الساخر تذكرت خطبا طريفة على شرائط كاسيت لشيخ مصري هو الشيخ عبد الحميد كشك, كانت منتشرة أواخر سبعينات القرن الماضي, كانت تلك الخطب تتميز بأسلوبها الفكاهي الفريد من نوعه, على سبيل المثال: في أحدى خطبه يذكر الشيخ عددا من الأفلام والمسرحيات المصرية المشهورة حينها, يبدأ خطبته بالقول: لو كنت شاباً لسكنت في "قاع المدينة" ولدخلت "مدرسة المشاغبين" ولصعدت من "السلم الخلفي" فوجدت "في بيتنا رجل" يصرخ ويقول " أين عقلي" فأقول له "أريد حلاً", ثمً يبدأ بحمد الله قائلا: الحمد لله الذي أعطانا رئيساً لم يكمل البسملة (في اشارة للرئيس السادات وخطابه في الكنيست الاسرائيلي, عندما قال بسم الله "فقط" ) وفنانا يتنفس تحت الماء وامرأة في السبعين من عمرها تقول خذني بحنانك خذني عن الوجود وابعدني, وهكذا يدخل الخطيب إلى عقول المستمعين من باب الطرافة والسخرية ويتناول مواضيعاً غاية في الأهمية, وتشمل جوانب عديدة دينية واجتماعية وسياسية وفكرية. لذلك ساتناول ماكتبه الدكتور المنلا مستعيرا من الشيخ كشك اسلوبه ومن المقالات عناوينها اللافتة بطرافتها ومواضيعها المتعددة التي تكشف عن الكثير من الحقائق المؤلمة ومنها الزيف المستشري في حياتنا على أكثر من صعيد بسب روح الاستهلاك التي طغت أو تكاد تطغي على كل شيء, لنتحول إلى جزر معزولة يحيط بها سيل المصالح الفردية التي لا تقيم وزنا للأصيل من أصحاب العلوم والمعارف والفنون وتدفع إلى السطح بالقشور دون اللباب, في صراع محموم نحو الأضواء والمجد الزائف والشهرة الفارغة بأي ثمن. تتسم المقالات بروح السخرية التي تأخذنا بعناوينها إلى هبوط اضطراري في ساحة الأحداث التي تسبب "نسيان الذاكرة" في دعوة صريحة إلى النسيان الجماعي الذي يمارسه أكثرالمثقفين. ولكي نرصد "الأرانب الطائرة" التي انتشرت في حياتنا الثقافية والفنية, واحتلت موقع النجومية. علينا أن نقف لنكتشف أيا منّا الأصلع ثقافيا الذي يرى إن صاحب الموقع والنفوذ هو صاحب انجازات بالضرورة. ولكي لا نسجن حقائقنا بالسجن الانفرادي المؤبد في دواخلنا, علينا أن لا نبحث عن الحقيقة في جيب أحد. بل إن الحقيقة الأصلية كالمحبة لا تريد لأحد امتلاكها. ولأن "أصحاب القرار الثقافي ينسون كل مرة, وفي كل رحلة ثقافية أمراً ما قد يؤدي إلى كارثة, فكثيراً ما تُطبع دواوين يُنسى فيها الشعر, وتُقدم فيها عروض على الخشبة بلا مسرح, وتؤلف ألحان بلا موسيقى" وهكذا نعلم إن "ثقافتنا التي أقلعت إلى لا مكان بحاجة إلى الهبوط الاضطراري في أقرب أرض صالحة للهبوط لإعادة التزود بالطاقة, وتفقد الأجنحة والذيل والمكابح". ثم يأتي الحديث عن المرأة في "هبوط اضطراري", الحديث عنها له مساحة مساوية للحديث عن الرجل فالأمراض المستشرية والمعاناة والعلل التي تصيب الشخصية والنكوص نحو أدوار عفا عليها الزمن هي هي لدى الطرفين. لكن للمرأة المتثاقفة فسحة جديرة بـ " تاء التأنيث المتحركة " (ونزعة الاسترجال التي تذهب المرأة باتجاهها وهي تدافع عن وجودها فتزاحم الرجل على "النوع" وليس على وجودها الحقيقي ككائن غير منقوص. ولهذا ارتبطت قضية تحرير المرأة في كثير من الدعوات ببعد خفي هو مزاحمة الرجل على النزعة الذكورية, دون التخلي عن الجنس/ النوع). تقول الشاعرة الأميركية الكسانردا بودين في إحدى قصائدها:
النساء يبعن الآمال
والرجال يبيعون الوعود
وكليهما يشتريان ما يجدانه
الرجال والنساء يبدأون علاقاتهم بسوء تفاهم لذيذ
وينهون هذه العلاقات بفهم عميق لبعضهم
أخشى أن أقول,
لكنني على يقين بأن حركة تحرير النساء
تحرر الرجال أكثر
من تحريرها للنساء
ننتقل بعدها وفي مقالة أخرى لنكتشف "متعة الأمية وضلال المعرفة". قي قول مأثور يشرح المعنى كالتالي: ( More you know, more mesrabel you are – أن تعرف أكثر يعني إنك أكثر تعاسة). إذن "لقد أ صبح الجهل ضمانة لحياة كريمة, متسقة, سعيدة, فما أروع الأمية, وما أشد ضرورتها لبناء ثقافة سعيدة, ثقافة السعادة الجاهلة, الغائبة, المغيبة, في مقابل ثقافة المعرفة المأزومة, المتأزمة,القلقة , المقلقة". ثم تنقلنا عناوين المقالات إلى "قرار انحراف" يعلمنا "من أين تؤكل الكتف" ويحدثنا عن الإهمال الحاصل بحق "الشدة" من " (الأكفّاء) في المواقع الثقافية", والأكفّاء جمع كفيف بمعنى الأعمى وليست هي جمعاً لأصحاب الكفاءات, فهل "بات الواقع الثقافي بحاجة إلى نظارة طبية وإلى عكازة يمشي بها لكي لايصطدم بكتاب أو قصيدة, أو مسرحية, أو أغنية, وليستطيع عبور الشارع الثقافي بلا مخاطر". ولكي لا اتجاوز اشارة حمراء تدعوني للوقوف هنا لكي لا أفسد على القاريء متعة التنقل الشيق بين باقي المقالات, أقول إن الكتابة الساخرة واللغة السلسة بكل العايبها التي ابتدعها المؤلف والمواضيع الكثيرة التي تناولها جديرة بالقراءة هذا أولا وثانيا لكي يعرف القاريء كيف دق تشيخوف باب الحارة.
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |