العائلة – مقتطفات من كتاب لباراك أوباما / ترجمة
خاص ألف
2011-03-18
كل من تسنت له الفرصة للقاء زوجتي أكدوا أنها رائعة. و هم محقون بذلك – فهي لبقة و مرحة و فاتنة حتى أبعد الحدود ، و هي أيضا جميلة جدا ، و لكن ليس على النحو الذي يستفز الرجال و لا الذي يصد النساء. جمالها من النوع الذي تراه لدى الأمهات و رجال الأعمال المحترفين و ليس في الصور المبالغ بها التي نراها على أغلفة المجلات البراقة. و غالبا ، و بعد أن يستمع بعض الأشخاص لخطاب لها في بعض المناسبات أو بعد إنجاز عمل برفقتها في مشروع ، يقتربون مني و يقولون شيئا مثل " كما تعلم نحن نعرف عن العالم الذي تعيش فيه يا باراك ، و لكن زوجتك ،... آه منها ". فأهز رأسي ، و أتيقن أنه إذا دخلت في منافسة معها ، للحصول على منصب رسمي ، سوف تهزمني بلا مشقة تذكر.
و لحسن الحظ ، لن تدخل ميشيل في عالم السياسة. و هي تقول لمن يسألها : " لا أقوى على ذلك". و كما هي الحال دوما ، فهي لا تجانب الحقيقة.
التقيت بميشيل في عام 1988 ، حينما كنا نعمل نحن كلانا في شركة سيدلي و أوستين ، و هي وكالة قانونية ضخمة مقرها شيكاغو. و مع أنها أصغر مني بثلاثة أعوام ، كانت ميشيل محامية ناجحة ، و كانت قد تلقت التدريب المناسب من كلية حقوق هارفارد بعد الدراسة الأولى. و بالنسبة لي كنت قد انتهيت من السنة الأولى في كلية الحقوق و أصبحت أشغل موقع مساعد قانوني لفترة العطلة الصيفية.
كانت تلك هي المرحلة الصعبة و الانتقالية في حياتي. و لم أنتسب لكلية الحقوق إلا بعد ثلاث سنوات من العمل كمشرف في المجتمع المحلي ، و مع أنني استمتعت بدراستي ، كنت أعاني من عدم القدرة على حزم قراراتي. و في السر ، كنت قلقا من التضحية بالمثاليات التي تمسكت بها في سنوات الشباب ، و تقديم تنازلات على عتبة الواقع القاسي تحت وطأة الضغوط المعروفة : المال و السلطة – و أن أنظر إلى العالم كما هو و ليس كما يجب أن يكون.
و كانت مخاوفي تتضخم من فكرة العمل في شركة قانونية قريبة جدا ، و لكنها في نفس الوقت بعيدة عن المنطقة الفقيرة حيث يكدح زملائي. و مع تراكم القروض الطلابية ، لم أجد فرصة لأتخلى عن رواتب ثلاثة شهور دفعها لي سيدلي. و هكذا ، اكتريت أرخص شقة يمكن أن يجدها المرء ، و اشتريت أول ثلاث بذات لم يسبق أن شاهدت خزانتي مثلها مع زوج من الأحذية تبين لي فيما بعد أنها أضيق من النمرة المناسبة بمقدار النصف و كانت تضغط على خطواتي خلال الأسابيع التسع التالية. و ذات صباح مشرق في بواكير حزيران ذهبت إلى الشركة و رافقني أحدهم إلى مكتب المحامية الشابة التي تقرر أن تكون رئيستي خلال موسم الصيف.
لا أتذكر تفاصيل الحديث الأول مع ميشيل. و لكن أتذكر أنها كانت طويلة – قرابة قامتي مع كعب الحذاء ، و لطيفة ، و ذات نمط حرفي وديع تناسب مع ثوبها و مع البلوزة التي ترتديها. و شرحت لي كيف يتم توزيع العمل في الشركة ، و طبيعة الجماعات المختلفة أثناء أداء واجباتها ، و كيف تحسب ساعات العمل. و بعد أن قادتني إلى مكتبي و رافقتني بجولة في أرجاء المكتبة ، تخلت عني لأحد المعاونين و أخبرتني أنها ستلتقي بي في فرصة الغداء.
فيما بعد أخبرتني ميشيل أن دخولي إلى مكتبها كان مفاجأة سارة ، فالصورة التي حصلت عليها من الصيدلية جعلت أنفي يبدو أكبر مما هو عليه ( أضخم من المقاس العادي كما قالت ) ، و كانت لديها شكوكها حينما قالت لها السكرتيرات اللواتي أجرين معي فحص المقابلة أنني ظريف : " اعتقدت أنهن تقعن تحت تأثير أي رجل أسود يرتدي البذة و لديه عمل". و لكن إذا كانت ميشيل قد وقعت تحت تأثير شخصيتي ، فهي لم تفصح عن ذلك حينما ذهبنا إلى طعام الغداء.
و بهذه المناسبة علمت أنها تقطن في ساوث سايد ، في دارة صغيرة على أطراف الضاحية الشمالية حيث كنت أعمل. و كان والدها مشرفا على مضخة المدينة ، و أمها ربة منزل حتى بلغ الأولاد سن الرشد ، فتحولت إلى موظفة في مصرف بصفة سكرتيرة. و علمت أيضا أنها درست في مدرسة براين ماور الإبتدائية العامة ، ثم انتقلت إلى مدرسة ويتني يونغ ماغنيت ، ثم سارت على خطا شقيقها حتى وصلت إلى برينستون ، حيث كان نجما في فريق لكرة السلة. بعد ذلك أصبحت في سيدلي من أفراد طاقم النخبة و تخصصت بقانون الاستجمام ، ثم قالت في إحدى الجلسات : ربما تنتقل إلى لوس انجلوس أو نيويورك لتحصل على مستقبل مهني تطمح له.
آه ، كم كانت لدى ميشيل من خطط محكمة في ذلك اليوم ، لقد كانت على الخط السريع ، و ليس لديها وقت لتهدره ، و لا سيما مع الرجال ، كما ذكرت لي. غير أن الفرصة لم تخذلها لتضحك ، بلباقة و بساطة ، و لاحظت أنها على ما يبدو ليست في عجلة من أمرها للعودة إلى المكتب. و هناك شيء آخر ، بريق يرقص بين عينيها الداكنتين و المستديرتين ، كلما نظرت إليها كنت أراه ، كإشارة تدل على النذر اليسير من الشك ، كما لو أنه نتيجة إحساس عميق في داخلها ، و ينم عن معرفة تامة بهشاشة الأشياء و ضعفها في عالم الواقع ، و لو تراخت قليلا ، و لو للحظة ، ربما انهارت كل خططها و أمانيها . و ترك ذلك بصمته في نفسي بطريقة ما ، إنه الأثر الواهي لنقاط الضعف. و رغبت لو أتعرف على هذا الجزء منها.
و قد تواصلت هذه اللقاءات كل يوم و على مدى عدة أسابيع : سواء في المكتبة القانونية أو في الكافتيريا ، أو خلال إحدى النزهات العديدة التي تنظمها الشركات العاملة في مجال القانون لموظفيها الصيفيين المؤقتين ، و على الأغلب لتترك لديهم الانطباع أن الحياة و القانون متكاملان ، و العمل ليس صرف ساعات لا تنتهي من التدقيق في الوثائق. رافقتني ميشيل أيضا إلى حفلة أو إثنتين ، و كانت حريصة على أن تتغاضى عن أناقتي المتواضعة ، و حتى أنها حاولت أن تورطني مع بعض صديقاتها. زد على ذلك ، أنها رفضت أن تخرج معي في موعد غرامي. قالت إن هذا غير لائق ، فهي رئيستي في العمل.
قلت لها : " هذا عذر طفيف. هيا ، ما هي الأوامر التي تملينها علي؟ لم تقدمي لي أي عون يذكر باستثناء كيف تعمل ماكينة الفوتوكوبي. و أحيانا تدلينني على المطاعم المناسبة. و لا أعتقد أن بقية الزملاء سينظرون إلى لقاء واحد بمثابة انتهاك لسياسة الشركة".
هزت رأسها و قالت : " آسفة ".
" حسنا ، سأستقيل إذا. ما رأيك بذلك؟. أنت رئيستي بالعمل. أخبريني من يجب أن أبلغه بهذا القرار".
و في آخر الأمر انتصرت عليها.
بعد نزهة رسمية مع الشركة ، قادتني بالسيارة إلى شقتي ، و اقترحت أن اشتري لها المثلجات في شارع باسكين – روبينز. و هكذا جلسنا على الرصيف لنلتهم المثلجات في عصر يوم لزج ، و أخبرتها أنني عملت في باسكين – روبينز حينما كنت مراهقا ، و كان من الصعب أن أبدو مغتبطا و أنا بالرداء و القبعة البنيين. و هي بدورها أفشت لي سرها : إنها خلال سنوات عدة من طفولتها كانت ترفض تناول أي طعام ما عدا زبدة الفستق و الجلاتين. و هنا أخبرتها أنني أود لو أقابل عائلتها. و قالت إنها توافق على ذلك.
و سألتها هل تسمح لي بقبلة. و كان لها طعم الشوكولاتة.
لقد أمضينا ما تبقى من فصل الصيف معا. و أخبرتها أنني أخطط للسفر إلى إندونيسيا لأعيش و أعمل هناك ، و هذا الانتقال سيكون له أثر بالغ. و هي تحدثت لي عن أصدقاء طفولتها ، و عن رحلة قامت بها إلى باريس حينما كانت في المدرسة الثانوية ، و عن أغاني ستيفي وندير المفضلة لديها.
و لكن لم أبدأ باستيعاب ألغاز ميشيل حتى قمت بزيارة عائلتها. و تبين لي أن زيارة بيت عائلة روبنسون هو أشبه شيء بالاستماع ، دون سابق تدبير ، لإسطوانة ( دعها للقندس ). كان هناك فرايزير ، الأب المرح و اللطيف ، و الذي لم يتغيب عن العمل و لو ليوم واحد و لا حتى لحضور لعبة الكرة التي يشترك فيها ابنه. و هناك ميريان ، الأم الفاتنة و الحساسة و التي تخبز بنفسها كعكة أعياد الميلاد ، و التي ترتب البيت ، و التي تتطوع لزيارة مدارس أبنائها للتأكد من حسن السيرة و السلوك و من مستوى أداء المعلمين و المعلمات كما هو مفروض.
و هناك شقيقها كريغ ، نجم كرة السلة الطويل و القريب من القلب و الذي يحسن أدب الحديث دون التخلي عن روح الفكاهة ، مع أنه يعمل في مصرف استثمار و يحلم بأن يتحول إلى مدرب لفريق كرة ذات يوم. و هناك أيضا الأعمام و الخالات و أبنائهم ، و هم في كل مكان ، و قد جاؤوا في زيارة سريعة و اجتمعوا حول منضدة المطبخ لتناول الطعام بشراهة و لقص حكايات عجيبة و للإصغاء إلى معزوفات جاز قديمة هي بحوزة الجد ، و كانوا يضحكون طوال الوقت بملء حناجرهم دون توق و حتى منتصف الليل.
و لم يكن غائبا من الصورة غير الكلب. لم تكن ميريان ترغب أن يمزق الكلب أثاث البيت.
و الذي أضاف لمسة مباركة على هذه الصورة الحالمة و الأليفة و المؤثرة أنه توجب على آل روبنسون التغلب على منغصات نادرا ما يعرضها التلفزيون في البرنامج الرئيسي. هناك الموضوعات المعتادة التي تشير إلى مشكلة العرق ، طبعا : الفرص القليلة التي أتيحت لوالدي ميشيل للعيش في شيكاغو خلال الخمسينات و الستينات ، فالقلق العرقي و دوائر العنف أجبرت العائلات البيضاء على مغادرة المنطقة ، و ما ترتب على ذلك من مجهود إضافي مفروض على الآباء السود لتعويض الدخل الصغير و لتجنب العنف في الشوارع و المدارس اللامبالية ذات الباحات الضيقة.
و كانت هناك تراجيديا أخرى خاصة تعصف ببيت آل روبنسون. لقد شخص الأطباء لوالد ميشيل و هو في سن ثلاثين عاما ، و كان في زهرة العمر ، الإصابة بالتصلب الشرياني. و طوال خمس و عشرين عاما تالية ، و مع تدهور حالته باستمرار ، كان يتحمل مسؤولياته تجاه عائلته دون أنانية ، و كان يصرف ساعة إضافية يوميا ليجهز نفسه للعمل ، لقد كان يبذل كل ما في وسعه ، من قيادة سيارة و حتى تزرير قميصه ، دون أن تغيب الابتسامة من شفتيه ، و لم يكن يوفر النكات و الطرائف أثناء هذه المشاق – في البداية كان يعرج و انتهى به الأمر إلى استعمل عكازتين ، و رأسه الأصلع يذرف حبات العرق ، و ذلك كلما عبر الحقل ليشاهد ابنه و هو يلعب ، أو كلما عبر غرفة المعيشة ليطبع قبلة على رأس ابنته.
و بعد الزواج ، كانت ميشيل تمد لي يد المعونة و هذا ساعد في توضيح معنى الثمن الذي دفعه أبوها سرا من أمراضه و الذي ترك أثره على حياة العائلة ، و معنى الأثقال التي أجبرت أم ميشيل على تحملها بالإكراه ، كم كانت حياتهم معا مرتبة بحذق ، و يتخللها قدر ضئيل و محدود من النزهات المخطط لها بشق النفس لتجنب المصاعب أو المشاكل الطارئة. و كم كانت تلك الحياة العشوائية تنطوي على رعب تجده تحت الابتسامات و الضحك.
و بالعودة إلى بيت آل روبنسون ، لم ألاحظ سوى البهجة و الاغتباط. و بالنسبة لشخص من أمثالي ، و الذي بالكاد يعرف والده ، و الذي أمضى معظم حياته يتنقل من مكان إلى آخر ، و الذي سال دمه و توزع على جميع الثغور التي تهب منها العواصف ، كان البيت الذي بناه فرايزير و ميريان روبنسون لهما و لأطفالهما يحرك في نفسي الحنين للاستقرار و الإحساس بالمكان المفقود. و هو ، ربما ، ما لمسته ميشيل في داخلي من حياة تميل إلى المغامرات و المخاطر و الرحيل في البلدان و الأقطار الغريبة - الأفق العريض الذي لم تسمح لنفسها به من قبل.
بعد أول لقاء لي مع ميشيل بحوالي ستة شهور ، توفي والدها فجأة بسبب اختلاطات ناجمة عن عملية في الكلى. و هكذا سافرت بالطائرة إلى شيكاغو ، و وقفت على شاهدة ضريحه ، و رأس ميشيل يستند على كتفي. و في لحظة هبوط التابوت نحو الحفرة ، قطعت على نفسي وعدا أمام فرايزير روبنسون أنني سأعتني بابنته. و تيقنت بطريقة صامتة و غير مصرح بها ، أننا فعلا أصبحنا عائلة واحدة.
المصدر :
Family , in : The audacity of hope : thoughts on reclaiming the American dream . Barack Obama. Crown publishing. New York.1st. ed. 2006.
الترجمة 2011
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |