الحرب على غزة: الأيديولوجيا و خيارات الواقع
خاص ألف
2011-04-11
مع كل هجوم إسرائيلي على غزة، يعود السؤال القديم إلى الظهور: هل ستعيد إسرائيل احتلال غزة؟. فهل هذا خيار محتمل أمام إسرائيل؟. أو ـ بطريقة أخرى ـ هل هذا الاحتمال وارد الحدوث في المرحلة الحالية؟.
قبل الإجابة على هذا السؤال، دعونا نفحص الاحتمالات المتعددة أمام صانع القرار الإسرائيلي.
على المدى الاستراتيجي، ليس أمام إسرائيل إلا واحداً من ثلاثة خيارات، في التعامل مع غزة: أن تحتلها لتستقر فيها، أو تحتلها لتعيدها إلى حضن السلطة الوطنية الفلسطينية في رام الله، أو تدعها وشأنها فتحقق معها تهدئة طويلة المدى وتحترمها.
أما الخيار الأول ـ عودة الاحتلال الدائم ـ فقد قررت إسرائيل بأنه ليس مناسباً لها على الإطلاق. وما كانت لتخرج من غزة، لولا أنها كانت قد آمنت بذلك منذ زمن بعيد.
وأما الخيار الثاني ـ إعادة غزة إلى الرئيس محمود عباس ـ فبعيد الاحتمال كذلك، نظراً لمعرفة الجميع بأن الانقسام الفلسطيني لم يكن خياراً فلسطينياً خالصاً، بل وافق رغبة إسرائيلية، سهلته ورضيت عن استمراره، لأنه يسحب من الرئيس عباس ورقة (وحدانية التمثيل)، التي يلوح بها في المحافل، مطالباً بدولة لن تكون إلا مما تعتقده إسرائيل جزءاً من أرضها التاريخية.
يبقى الخيار الثالث، كملجأ إستراتيجي أخير ونهائي: أن تدع إسرائيل غزة وشأنها.
ولكن هل هذا متاح أمام العقلية الإسرائيلية؟. لا أظن ذلك، لأن الأفق الاستراتيجي وحده ليس هو الحاكم في إسرائيل، كما قد يتهيأ للمراقبين السياسيين، بل هناك أفق آخر يحكم هؤلاء الحكام، ويتحكم في تصرفاتهم المعلنة والمضمرة، هو أفق الجينالوجيا، باعتباره الأصل المتعالي على التجربة، الكامن في لاشعور الدولة اليهودية، الذي يحدد خياراتها خارج حدود المنظور السياسي.
إن كل من يتعامل مع الإسرائيليين عن قرب، يلمس ويشاهد رأي العين، كم هي مسكونة كل طبقات المجتمع الإسرائيلي بشعور عميق بالتميز، أنتجه تاريخ طويل من عزلة الغيتو وتعاليم الأحبار. إن هذه العقلية التي تهتف في عمق كل إسرائيلي بأنه الأفضل والأطهر ـ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه ـ هي ما يقف وراء كل هذه التصرفات الإسرائيلية غير المفهومة. إنها غير مفهومة لأنها تعبر عن الأزمة العميقة في وعي الطبقة الحاكمة في إسرائيل.
ففي أي وضع طبيعي، كان على حكام إسرائيل أن يختاروا واحداً من الخيارات الثلاثة السابقة، باعتبارها الخيارات المنطقية التي تحدد مستقبل التعامل مع المشكلة. لكن واقع هذا الكيان العجيب يقول غير ذلك بالمرة. وما ذاك إلا بسبب من هذا التناقض المنطقي الذي لا حل له: فمن ناحية يكتشف الصهاينة في واقع الانقسام الفلسطيني كل يوم فائدة جديدة؛ ومن ناحية أخرى، هم يدركون أن بقاء غزة ـ ككيان قنفذي يتصاعد تسليحه حتى يبلغ يوماً أخمص القدمين ـ هو أمر لا يمكن القبول به على طول الزمن المنظور، حتى مع اتفاقيات هشة تدرك إسرائيل أن الفلسطينيين لن يقبلوا بها إلا مرحلياً.. ليس الإسرائيليون، وحدهم، من يتوقون إلى تجريب كل سلاح جديد في عدوهم التاريخي؛ بل الفلسطينيون في غزة كذلك. وإن إسرائيل لترتعد فرقاً من يوم ترى فيها طائراتها تتساقط في غزة.
إن أهم وعي يحكم العقلية الإسرائيلية هو واقع الزوال، لا واقع البقاء: واقع لا يزال يقول بأن الكينونة الإسرائيلية مهددة في أساسها. إنه وعي الهشاشة المختفية وراء ستار من قوة، تدرك إسرائيل أكثر من غيرها أنه مؤقت. فليس العرب وحدهم من يقرأ التاريخ، بل كذلك الإسرائيليون، والتوراة الإسرائيلية، وذلك الخوف العميق من الإبادة، التي يراها الإسرائيليون في كل شواهد الواقع والتاريخ والجغرافيا.
إن الوعي الإسرائيلي مسكون برغبة ملحة في قراءة تقول بنهاية التاريخ!.. ليس فوكوياما وحده من هو مسكون بهذا، لأنه عندما قال بنهاية التاريخ، كان منطلقاً من وعي الكتاب المقدس، ومعركة مجدون، والمسيح المنتظر، بما سيحققه من سيطرة نهائية على الأميين: سيطرة تنتهي بها حركة الشد والجذب والتداول، التي حكمت حركة التاريخ في الماضي، لتنشئ زمناً مستمراً مسطحاً، لا حراك فيه ولا تداول؛ زمناً يؤمن الاستعلاء الكامل والسيطرة المؤبدة لطرف، والخنوع الذي لا راد له ولا محرك لباقي الأطراف.
هناك عقيدتان متناقضتان تحكمان المجتمع الإسرائيلي اليوم: الأفضلية والزوال. شعور بالأفضلية، وخوف من الزوال، وكلتاهما تتداول التأثير في القرار الإسرائيلي حرباً وحرباً. الوعي الإسرائيلي لا يريد الحرب ليحقق الأفضلية فحسب، بل كذلك رغبة في استباق محاولات الإبادة. أعتقد أنه لا يوجد إسرائيلي واحد لا يخاف من المستقبل، بنفس الدرجة التي أعتقد بها بأنه لا وجود لإسرائيلي غير مؤمن بأفضلية عرقه على باقي الأعراق. نحن أيها السادة أمام نوع من السامية المتطرفة، في انبعاثها من أتون لاسامية تحاول ـ وحاولت في الماضي ـ إبادة الجنس اليهودي.
إن هذا الوعي المحكوم بلاشعور لاعقلاني، هو الذي يصدر قرارات الحرب والسلام في إسرائيل: فمن ناحية ترونهم يبحثون عن حل يؤمّن لهم بقاء كيانهم والاعتراف به؛ ومن ناحية مقابلة هم لا يشعرون في أعماقهم بأن هذا الحل المنشود ممكن أو نهائي. إن كل هذه التناقضات ـ التي تبدو لامنطقية ـ نابعة من جينالوجيا الجماعة الإسرائيلية. لقد ورث القوم عن آبائهم كل هذه المخاوف وكل هذا الشعور بالتميز، ثم ها هم يرون المحيط غير مستعد لأن يمنحهم الشعور بالأمن، أو يعترف لهم بالتميز والأفضلية.
من هنا فلا حل في الأفق المنظور إلا بخيار رابع هو اللاحل: أن تظل إسرائيل شاعرة برغبة القضاء على كيان غزة المسلح، وأن تظل في الوقت نفسه محكومة بأن هذا القضاء لا يخدم مصالحها، الآنية على الأقل. ومن هنا كذلك، فإن ما أتوقعه من الكيان الإسرائيلي، أن يرغب في بقاء الانقسام الفلسطيني، مع استمرار الحرب المتقطعة، التي توقفها بعض أوقات الراحة المحسوبة.
والسؤال هنا هو: هل يشبه هذا ما يأمله الفلسطينيون؟. أعتقد أن أوجه التشابه أكثر من أوجه الاختلاف، وأحصرها في النقاط الآتية:
1ـ يحكم الوعيين الإسرائيلي والفلسطيني، نوعٌ من لاشعور جمعي، يقول بالأفضلية: حيث يؤمن الإسرائيليون بأنهم شعب الله المختار، ويستذكرون انتصار (داود الصغير) على (جوليات الضخم). فيما يؤمن الفلسطينيون بأنهم شعب الجبارين ـ ولا تعوزهم النصوص لإثبات ذلك ـ خصوصاً وهم يدينون بدين يقول إن أتباعه هم خير أمة أخرجت للناس!.
2ـ يقفز الطرفان على حركة التاريخ وروح الأديان، إذ ليس الإسرائيلي وحده من ينسى أن الأفضلية التوراتية لم تُمنح ـ ذات يوم ـ إلا لشعبٍ سعى إلى نشر الخير والجمال والتوحيد والعدل؛ بل إن الفلسطينيين كذلك ينسون أن الخيرية التي كانت ممنوحة للآباء، إنما تحققت بشروط ليست بالضرورة متوفرة في الأبناء. ودعونا نتذكر بأنه ليس هناك بين الله وشعبٍ نسب، بل مقدمات ونتائج.
3ـ يؤمن الإسرائيليون بأنهم الأقوى، استناداً إلى تحالفهم مع الغرب؛ ويؤمن الفلسطينيون بأنهم الأقوى، اعتقاداً بأن وراءهم أمة إسلامية ممتدة في عمق الجغرافيا؛ فيما يقول الواقع بأن كل ذلك من الممكن له أن يكون من التاريخ. والتاريخ قابل للتحول والتغير: بمعنى أنه من الممكن أن تصحو إسرائيل، ذات يوم، على عالم غربي لا يرى فيها غير كيان مزعج، يستنزف المساعدات دون طائل. فيما يقول الواقع بأن الأمة الإسلامية لم تعد محكومة بوعي الأيديولوجيا، وإلا لكان في مقدرة صواريخ باكستان النووية أن تحل المشكلة، أو أن تنشئ نوعاً من الوازن الاستراتيجي، على الأقل.
4ـ هل أكون فلسطينياً أكثر من اللازم، إذا ما قررت بأن للفلسطيني أفضلية في هذا الصراع؟. وهذه الأفضلية راجعة إلى أنه لا يعاني من الخوف من المستقبل؟. تلك هي نقطة الفصل، وتلك هي ما سيحكم حركة التاريخ في المستقبل البعيد. أعني أن الفلسطيني لن يخاف من الإبادة، فيما سيظل الإسرائيلي خائفاً منها. وهذه كذلك من فعل التاريخ. ألا نرى كيف لا يخاف الفلسطينيون والعرب قنابل إسرائيل النووية، مع أن إسرائيل لو كانت في الموقع المقابل لربما آثرت الزوال من تلقاء نفسها!.
وأخيراً أود القول، بأن زوال إسرائيل ليس حتمية قرآنية، كما يحب الأيديولوجيون الإسلاميون أن يقولوا ـ استناداً إلى نصوص من المتشابه القرآني ـ لكنه من الممكن أن يكون واقعاً تاريخياً، إذا ما تغيرت الظروف والمعادلات الدولية، وتغير قبل ذلك العرب والمسلمون. وقبل ذلك ربما يمكن التوافق معها على نوع من الاستراحات الحربية المؤقتة. ليس هذا ما تقوله حركة الواقع فحسب، بل إن هذا هو ما تقوله العقلية الإسرائيلية ذاتها.
أما القول بأن من الممكن التعايش الأبدي مع هذا الكيان، فليس مجرد قفز على حركة التاريخ، بل هو كذلك ضرب من التيه والعماء والوهن والموت المؤجل.. لا تعايش لشعبين على أرض أحدهما أبداً. لست وحدي من يقول بذلك، بل قاله رابين من قبلي، حين تمنى ابتلاع البحر لغزة، وحين قال، بُعيد إحدى العمليات الفلسطينية في تل أبيب؛ بلغة أرادها دبلوماسية: "إن الشعبين يتقاتلان على قطعة الأرض ذاتها".
النتيجة:
لن تحاول إسرائيل إزالة الكيان المستقل في غزة، خوفاً من الوقوع في أحد مستنقعين: عودة احتلال كيان مزدحم بالسكان، أو دفع ثمن سياسي لسلطة الرئيس عباس.
ملاحظة أخيرة:
لقد تجاهلت، عن عمد، التطرق إلى ما يعرف بحل الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين ـ مع أنني أفضله ـ لأنه غير واقعي، لا اليوم ولا في الغد. ولمن شاء التفصيل أن يرجع إلى مقالتي بعنوان: (الدولة الديموقراطية العلمانية في فلسطين).
08-أيار-2021
06-آب-2016 | |
25-أيار-2015 | |
28-أيار-2014 | |
01-آذار-2013 | |
25-تموز-2011 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |