أسامة محمد: أنحاز للمتظاهرين بدون أن أخضعهم لامتحان في مادة الثقافة القومية
2011-06-04
بدأ هذا الحوار مع السينمائي السوري البارز أسامة محمد قبل نحو عام، أنجز نصفه حينذاك، ولا ندري ما الذي راح يؤجل الحوار يوماً بعد يوم. صورة أسامة رافعاً صورة مواطنه، المعتقل آنذاك، رياض سيف في مهرجان كان السينمائي الأخير، بالإضافة إلى جدل ثار حول وقفة مخرج «نجوم النهار» إلى جانب المتظاهرين من أبناء بلده، رافعاً مع زملاء له نداء إلى سينمائيي العالم، أعادت الحوار إلى الواجهة، مع أسئلة جديدة حول «السينما في زمن الديكتاتورية»، وفي ما إذا كان ممكناً أن يبقى المرء سينمائياً وحسب تجاه ما يجري في بلده، وأسئلة حول بيانات وبيانات مضادة تتعلق بالوضع السياسي في سوريا. هنا نص الحوار.÷ «ثلاثون عاماً في علبتين، صندوقين» هما فيلم «نجوم النهار» و«صندوق الدنيا».. يشعر المرء أن في العبارة شيئاً من الأسى، أولاً بسبب مفارقة «ثلاثون عاماً في صندوقين»، مفارقة تجعلني أسألك أولاً أيهما أهم؛ السينما أم الحياة؟} كلاهما حياة، كلاهما الحياة. وحدات الزمن وأنت تعيش الفيلم وأنت تصنعه لا وحدات لقياسها. إنها مواجهة قاتلة تَلِدُ مثيلاتِها كلّ لحظة. إنها أسراب أسئلة تنقر استقرارك كل آنٍ وتُنْهِكُ الطمأنينة فتهزّ شجرةَ الاعتداد، وتحكّ حقيقة معادنك ونبوَّتك الكاذبة. إنها مواجهة دائمة ودامية بين وهمك عن نفسك وبين حقيقتك الجديدة التي تنكشف كل لحظة أو كل لقطة. بلا شفقة ولا رحمة.
في الحياة الأخرى تمدّك الذاكرة الجمعية والشخصيَّة بسبلٍ لا نهائية للهرب والتخفي فتُخفي ما تُخفي وتعلن ما تريد. في الحياة السينما لا يُمكن مواربة الهرب والوسطية والتنازل فالشاشة تَكْشف حقائقَ صانِعها. إن لغة السينما ترى صانعها من عين قحفها. وتُشهره للملأ.. من أنت؟ هل أنَّكَ تستعيرُ الخطابَ السياسيّ أياً كان لتحتمي بجماعة أياً تكون، تَنْصرها فتنصرك. أم أنك تستعير كادرات من مستودع السينما لتملأها بأحلامك فتتشكل على شاكلتها. وهل أنت الذي أنت؟ هل تستطيع المغامرة وتجاهل كل هذا وخوض معركة الاستقلال؟
هل أنت حر؟ لا يمكنك قول الجديد إن لم تكن حراً، ولا معنى للفَنّ إن لم يقُل جديداً. الفن ربما هو اكتشاف لزمن آخر داخل الزمن لا يستطيع كشفه سوى اللغة السينما. هذه أم المعارك وهنا قوّة اللغة الصورة الجملة البصرية النسق الصمت.
ما إن تخون نفسك حتى تخونك جميعها وتسخر منك. ولكي تواجهها تواجه كل هذه المفاجآت لا بُدَّ من تنفس هواء المُواطنة والإيمان بقدسيّة حق الرأي والتعبير ومحو سؤال المسموح والممنوع. لا يمكن للسينمائي لمس الفنّْ ما لم يُحِبّ حُرِّيته ولا يطأطئ حياته وكرامته المهنية لأي كائن. إن المرور من سؤال هل يحق لي؟ والوصول لـ نعم يحق لي.. قد يَقْضُم فرادة الحرِّية والتعبير الحُرّْ. إن السؤال ذاتَه ناتجُ شك ٍمَديد يَنْحَتُهُ القمع المَديد والراهن.
يخيل لي أن الـ (مواطن) يكرر سؤال «هل يحقّ لي؟» من دون توقف لدرجة أنه اعتاد عليه وظنَّ أنه لا يسمعه. لا أعرف إذا كنت قد لاحظت مثلي كمَّ الناس الذين يَحكّون آذانَهم في الطريق يَشْكُون طَنيناً غامضاً.
وفق هذه المزحة يُمكن القول إن متوسط عمر الفرد السوري هو «99990000» سؤالاً أو أنه توفي عن عمر يناهز «99990000»هل يحق لي؟ إنها محاكمة استباقية صارَت في مركز بُنْيَة الفرد، الفرد الذي بينه ومواطنته بِيْدٌ دونها بِيْدُ. لقد استحكم الفساد بالبنية الروحية للفرد. نحن في لحظة غالباً ما تُتَّهَمُ فيها الحرّية بالعنف وتُعَنَّفْ وتُحْتَجَزْ بينما العنف حُرٌ بلا قانون إلا الذي يَنْظمُهُ شعراؤه الغاوون. الحياة الفيلمية حياة جديدة تمنحك أجنحة جديدة لا تستطيع الطيران بها مباشرة. إنّ كمّ الأسئلة التي تزرعها تجربة الفيلم في الرأس تتطلب زمناً نوعياً لاحترامها والعيش بها لتخطو من جديد نحو فيلم جديد وليس نحو فيلم ثانِ. ÷ هل تشعر بالرضى بخصوص كل هذا الزمن في فيلمين فقط؟} أحبُ، قبل شتم الأعداء وتمزيقهم إرباً إلى كوادر، أن أبدأ بنفسي. وأعتقد أنني سررت في داخلي لفلسفة التأني والبحث وخدعني سروري. أقمت معه علاقة حُبّْ. أدخلتني زمناً ثالثاً،
أنْجَزَتْ مُخيلتي أفلاماً عديدة ثُمَّ أَنْكَرَتْها. كنت مخرجاً شاباً واعتقدت أنني هو للأبد. شابٌّ للأبَد، وفجأة مضى ثلاثون عاماً. إنها مجزرة فعلتها بنفسي، وفهمتُ أنني بطلٌ تراجيكوميدي، في جوف فلسفتي وجد التَخَلُّفُ متكأه في دهاليز العناد والشجاعة. وفي جوف شجاعتي هذه كان جبنٌ خاصّ وغير نمطي هو أنا أسامة محمد الباحث المنتظر. الباحث في جوف الجبن والانتظار عن شجاعةٌ سينمائية وغير نمطية.
حسابياً مرت أعوام ثلاثون. في بدايتها كنت أهبط درج المؤسسة بثلاث قفزات وأصعده بثوانٍ، اليوم لا أهبطه ولا أصعده. كان ثمة لحظة جميلة من الحلم أن السينما السورية هي نحن معاً. وذات صباح، كان هذا حقيقة، فتضامن السينمائيين وتعاونهم - قبل هرمهم وخرفهم ولحسهم أصابع الفساد - هو وحده الذي جعل الكثير من الأفلام تتحقق بالمعنيين الفنيّ والإداريّ. وسوف يَرْكَبُكَ الهلاك لتعثر على أمثلة نادرة كانت المؤسسة فيها مبادرة وراغبة في البحث عن فيلم أو إنجازه. كنا أشبه بمُعقبيّ المعاملات أمام القصر العدلي ودائرة النفوس نركض مُلَوِّحين بكُتب رسمية لأفلام غيرنا ليصنع زملاؤنا أفلامهم فتتسع دائرة البحث والحوار عن سينما وطنية، و..عن وطن في السينما. في خِضَّم هذا الماراتون اكتَسَبَتْ مُعْظَمُ الإدارات مهارة «التاكلينغ» (التقنية التي يستخدمها لاعبو كرة القدم في زحلقة الخصم). كان الخوف الاستباقي يَهْمِسُ في آذانهم (دَعْترو... زَحْلِقْهُ) فيفعلونها «دون شفقة أو رحمة». في هذا التمرين الطويل نَمَتْ أسوأ العضلات عِند الطرفين. صارت الإدارة تُدَعْتِر وتبطح الأفلام بِقَدَمِ الوطنيَّة وهَوَسِ الرقابة، وخرجت دمامل الفساد من بَشَرة بَعض السينمائيين فاختلسوا جهود زملائهم وأحدثوا لأنفسهم تحديثاً واقعياً، فلعقوا درَرَ الإدارة وتلذذوا بساديَّتِها وهي تَسوقهم ليصنعوا خلطةً منحفةً وأفلاماً مُسبقة الدفع. ليخطب المدير العام بلقطاتها وِدَّ والده الروحي ويتمهرج بها.
.. ثلاثون في صندوقين. صندوق في صندوق، واحدهما أنا والآخر الشروط السورية لصناعة فيلم لسينمائي سوري يحاول حرّيته. كنت بدأت بنفسي، أما المكّبُ الآخر فهو أشبه بِمكَبِّ النفايات النوويّة، يحقن السامَّ في السليم ويُلَوِّحُ برايات الوطن. في صندوقي أكتب النص السينمائي مراتٍ، فالكتابة الأولى تضيء لَكَ إمكانية نُمُوِّها نحو ما كانت تود أن تكون. أنا راضٍ عن إخلاصي لإنسانيتي وللسينما داخل الفيلمين بالقدر الذي أقدر. والحياة كلمة ملغزة، فالموت يعيشها، ولا تدنو من حقيقتها ما لم تفرج عن مخيلتك.نجوم النهار÷ أمس كنت أشاهد «نجوم النهار» لاحظت أنني صرت أراقب المرحلة، الزمن وراء الفيلم، ربما أكثر من درامية الفيلم، والعناصر السينمائية فيه. كيف تشعر إزاء ذلك؟ إزاء تحول الفيلم إلى وثيقة تاريخية؟ هل هذا أحد هموم السينما؟} «نجوم النهار» وثيقتي وهويتي الشخصيّة، لأنه لحظة مُواطنتي الجليّة. المواطنة صنو الحرية وحق الرأي. إنَّ المغامرة ومحاولة الحرِّية السينمائية ومحاولة الحرّية سينمائياً هما أساس نجوم النهار. كان ثمة جدار كبير لا بد من مقارعته. كان الريف يخرج من صورته النمطية نحو العصر مُتَّكِئاً على العنف. عنف لم يكن يَعيه أو يُريده بالضرورة. لم يَعُد الأب سلطة بطريركية، فلقد سلبت رائحة المؤسسة الأمنية منه أبوته. الأبناء استنشقوا وَهْمَ السلطة فوجدوا في غُبارها بوابةَ المُعاصرة فنطحوها، ولم يكن لديهم الوقت ولا القدرة ولا الثقافة لمحاكمة الخطوة التالية. كان هذا تسونامي البحث عن العالم الجديد. وكان لا بد للسينما من البحث عن نفسها والعبث بدفتر شروطها المسبق، السرد، الصورة، الشخصيات، الحركة، الحوار. حيث شَكْلُ العناصر هو مضمونها النفسي.
إن السينما هيَ التي صنعت الكثافة النوعية للحظةِ الفرد المُعْتَّل (المريض) المضحك المبكي. بذرة الضَحيَّة الجلاد المنافق الصادق. البذرة التي أنبَتَتْ غابةَ الفساد التي تنهش جثَّة الوطن. وتَبثُّ تَعُدداتِها بلا نهاية، خدماً وجلادين ولصوصا وضحايا وعبيدا ومدراء عامّين. نجوم النهار.. المواطن يأكل نفسه. يأكل نفسه الأولى ليصبح هذه التي تستبدل القانون بشهادة الزور. يدرك انه يكذب ولا يستطيع استعادة لعابه ويبثك طَلَبَ التَفَهُم والرحمة ويتَّهمك بالقسوة عليكَ وعليهِ مساوياً إياك بنفسه ظالماً كليهما. إنه لحظة اندحار العلم والمعرفة والكفاءة أمام الولاء ووهم السلطة. إن وهم الولاء تميزٌ وهميّ يُنتج سلطةً وهمية تصوغ معياراً وهمياً للمواطنة. لكنّ كل ما تكرر على هذا السطر من أوهام يفصح عن حقيقةٍ ماديّةٍ فاعِلَةٍ وعنيفة في الحياة اليوميّة.÷ بالمناسبة؛ الفيلم ما زال حتى الساعة ممنوعاً من العرض الجماهيري، هل أسباب المنع ما زالت قائمة؟} العرض السينمائي الجماهيري ممنوع بحكم الواقع. السياق التاريخي قصم شاشة الجماهيريّ. منذ عشرين عاماً دَخَلَ الفيلم غرفة الغموض ولم يخرج. مثله مثل وثائق كثيرة أهمها الإنسان. أليس الإنسان المواطن وثيقة تاريخية احتجزت في حينها ولم يفرج عنها؟ حتّى القانون الذي يُحَدِد المدَّة الزمنية للإفراج عن الوثائق لم يُفرج عنه.
«الحياة اليومية» و«الدجاج» و«السدّ» و«الطوفان» و«قطعة الحلوى» و«الليل الطويل» و«نجوم النهار» و«أنا التي تحمل الزهور إلى قبرها» و«زبد وصمت» و..و.. وأفلام ذبحها على الأغلب مُخبرو الثقافة في ضربة تايكواندو تجعلهم أقْرَبَ قرباً من مَخدّة الفساد. باختصار، المَنْعُ عُنفٌ مُنافٍ للدستور، لا هو مؤسساتيّ ولا شَرْعيّ. وثمة اليوم تأسيسٌ لمؤسسةٍ تؤسِسُ تزويره وَشَرْعَنَتَهُ. الفيلم الممنوع ليس علامة جودة ولا المسموح تهمة. ليس الممنوع بالضرورة أكثر أهميّةَ وجرأةً وسينمائية. انظر إلى المسموح في المسلسلات تجد أننا في دولتين، أو أننا نيام.السينما في ظل الديكتاتورية÷ السينما في ظل الديكتاتورية. كان هذا عنوان ندوة شاركت بها في مهرجان كان أخيراً مع كوستا غافراس. هل تجد أن السينما ممكنة فعلاً في ظل الديكتاتورية؟ هل كانت أزمة السينما السورية هنا أم في مكان آخر؟} في الندوة قدمت ورقةً عنوانها «صورة ضدّ صورة» نُشِرَت لاحقاً في جريدة «الحياة»، ونُشِرَ عَرْضُها في أماكِنَ أُخرى. وفي كليهما، في الندوة، وفي الورقة، ناقشتُ الإنتاجَ السينمائيّ السوريّ الجديد وهو «اليوتوب» الذي يُصَوِّرُه الضحايا قبل موتهم. ويُصوِرُهُ الجَلاد قبلَ موتِهم وبَعده أحياناً. شاركت سوريا في مهرجان كان بثلاث لقطات من «درعا»، ثلاث صور مقتطعة من فيلمٍ صَوَّرَهُ رجُلُ أمن:
صبيّ يقبل حذاء الأمن،
الصبي يبتعد عن الحذاء،
الصبي يتكور عارياً باكياً في وضع الجنين في زاوية المَكَان.
والصور هذه حققها «الزميل»الجلاّد السينمائي قَبْلَ وَخِلالَ وبعدَ الجريمة فيما ينتمي للتمثيل بالضحيّة وللتلذذ بالقتل وبالعنف، فالكاميرا هنا أداةُ لذةٍ للجلاّد، وأداة تعذيب نفسيّ لا يُدرك اتّساعَ أذاه إلا الضحيّة.
وفي استعراضٍ لتاريخ «كان» نتمكن من استخلاص أنها المشاركة الأولى لدرعا في مهرجان كان. عملياً شارك في المهرجان سينمائيان سوريان، الأول هو رجل الأمن الذي صور الصبي، والثاني أنا، السينمائي الذي يقرأ في الصورة، وفي دلالاتها، وفي البعد التبشيري لَها.. لنا. السينمائي الأمني مجهول الوجه في الصورة ولم يُحاكم على فعلته علنياً ولم يُخوَّن.
في الفيسبوك خونني بعض المثقفين «الوطنيين» وتجاهلوا «السينمائيّ» الفاعل، فاعل الجريمة وفاعل الفيلم. ولم يَجِدوا في المُراهق الضَحيَّة ما يستحق التعليق فتركوه في قَبوِ الدُنيا.
وهذه صورة عن مجزرة أخلاقية إضافيّة تطحن كل يوم صور الضحايا بقوانين غوغائية مُرتجلة عن الأنا والآخر والداخل والخارج وتُمَثِّل بالشهداء وتعتبر صورَهُم وِشَايَةً بالوطن. فالضمير مفهوم افتراضي كاوتشوكي مَطّاط.
في الصورة المُضادّة قَدَّمْتُ قراءتي للصورة الأخرى التي يكوّنها التلفزيون الرسمي عبر خِدْعَةٍ سينمائية تَحذف صورة الشهداء من الوجود بعد حذفهم الفعلي (مِنَ الحياة)، وتستعيض عن صورتهم بصورة مُضَادّة تنشأ من اللغة. إنها جِرَاحَة زَرْع مُخَيلة، مُخيّلة مُوَحَدَة تؤلف صورة بلا صوره اسمها العصابة، وتُنذِرُ باستمرار القتل. في مُساهمتي المتواضعة ناقشتُ الصورة. ووفقَ ما علَّمَتْنا الفنون التي (هَزَمَت الموتَ جميعُها) بحثتُ عن شخصيّة المراهق قبل وبعد النكبة، وعن مشاعِرِه المُخبأة. مُستعيراً من مراهقتي مَفاتيح مُخيّلتِهِ، فصار «أنا هو أنا» المراهق الدرعاوي. ينام على المخدة المُطَرَزَةِ بزَهْرَةٍ زَهْريّةٍ أو بِكَلِمَةٍ سَمَاويّة ويَحلمُ مِثلما أحلمُ في اللاذقيّة بِقُبْلَةِ الحبيبة، ليُجْبَرَ في اليقظة على تقبيل الحذاء، فأُجبَر في اليقظة على تقبيل الحذاء. هذا واحد من مجازات سوريا اليوم. إن تراكُم وتكاثف القتل اليوميّ وتكاثف مقاومته بالموبايل يُحيلُ كلَّ ما نرى إلى أخبار تَتلو وتُزيحُ بعضها البعض في نشرات الأخبار.
في الندوة مع غافراس اتفقنا على تحرير اليوتوب من إطار و نَمَطِ الإخبار، وأنَّ على السينمائي أن يُعيدَ قراءته من جديد عبر تفاصيله وبُنْيَتِه الدراميّة، في مُحاولةٍ للوصولِ إلى نبض الإنسان الذي صوَّرَهُ في شرطٍ استثنائي من الخوف والمقاومة ومواجهة الموت ومحاولة التعبير.. إنها سينما مؤلف. وتساءلنا مع غافراس عن احتمال أن يكون أحدُهم شاهد «زِد» أو «حنا ك»، وهل من ثقافة ما رشحت لليوتوبيين السوريين من السينما. لقد بدا غافراس صاحب السعفة الذهبيّة (الذي ساند الحقَّ الفلسطيني في «حنّا ك» وشعبَ تشيلي في «ميسينغ» ) حزيناً ومتأثراً وهو يصف سوريا ببلد الحضارة العظيمة والجمال، وقال إن توقيعه نداء السينمائيين السوريين هو أدنى ما يمكن فعله تجاه الضحايا.المشهد السوري÷ إذاً فإن عين السينمائي حاضرة إزاء المشهد اليوم في سوريا. لا شك أن ما يجري قد زودك بأفكار لأفلام؟ } لا أفكار فيلميَّة لدي بخصوص اللحظة الراهنة، الفيلم كما سبق وقلت يُصَوِرُه مُؤلفوه، وأبطالُه. أنا الآن أبحث عن نفسي في تكويناته، السينما الأصيلة لا تملي عليك أجوبتها، بل تسألك وتجعلك تسأل نفسك وتُسائلها. أوَّلُ الأسئلة يتعلق بِتَصَوِّرِنا القاصِر والمَحدود لِشخصيّة الفرد السوري، واستسلامنا لكونه مُنجزاً سكونياً وساكناً يَخْلِطُ العبودية باستمرار العيش بالتقيّة.
في علم السينما تتكون الشخصية من خلائط غنيّة. والسينما تبدأ من البحث عن الخفيّ في الواضح، وعن ما لا يقوله الفَرْدُ وما يخبئه خلف القناع الأول وفق أخي الحبيب «أميرالاي». لا بدّ أن سينمانا كانت مُقصرّة في مكانٍ ما. بالطبع لا يتصالح الفن مع التعميم السهل. ولكن ما يجري اليوم يجعلنا نتفرج على شخصيةٍ سوريّة شاركتنا الحياة والأماكن العامّة. وأعتقد أن إنسانيتنا ومُخيلتَنا كانتا تفتقدان للذكاء الكافي وللحريّة الكافية لتعترفا بهذا الآخر الذي يبادرُ اليوم في الدفاع عن إنسانيته وحقّه في التعبير، دونَ أن يَتَعالى عَلَيْنا كما سَبقَ وفعلنا معه.÷ أم أنك تتعاطى مع المشهد اليوم كناشط سياسي أكثر من أن تكون سينمائياً؟} أودُّ أن أُعْرِبَ عن احترامي الكبير للناشطين السوريين بمختلف انتماءاتهم وأماكن حريّتهم واعتقالهم الآن. خاصة أولئك الذين تعرفنا على أسمائهم حيثُ وحينَ سقط المتظاهرون المدنيون قتلى بالقرب منهم فهؤلاء جميعاً رسَّخُوا فكرة النضال السلمي والوحدة الوطنيّة ومشاركة جميع السوريين في صياغة مستقبلهم. الناشطون قالوا معظم الأفكار التي أودُّ قولها. بالأحرى سبقوني في قولها. وفي صياغة بسيطة لمجموع أقوالهم ولهتافات المتظاهرين بالعربية وبالكرديّة تتشكل مسودّة بيضاء للخروج بسوريا إلى السلم والحريّة والعدالة.
أنا سينمائي وأحاول المواطنة، والانتماء لإنسانيتي، ولا أعرف اليوم أين تبدأ السياسة وأين لا. كنت وما أزال أرى أن حقَّ التعبير حق إنساني مقدس وليس سياسةً، وأن اعتقال الحياة وتعذيب الروح والجسد وإرهابهما جريمة، وأن سلب حق الرأي هو الخطوة الأولى نحو سلب الحياة والقتل الذي يتعرض له «المواطنون السوريون العُزَّل وتغتال أحلامهم في التغيير لمجرد مطالبتهم السلمية بمواطنتهم، وأن إصلاحاً لا يبدأ اليوم من كفّ يد الأجهزة الأمنيَّة عن عيش المواطنين والكفّ عن منح هذه الأجهزة الحصانة والرخصة للقتل أو الاعتقال أو التعرض للمتظاهرين السلميين، وإغلاق صفحة السجن السياسي إلى الأبد هو إصلاحٌ موؤود». وهذا مقتطع من «نداء السينمائيين السوريين»، وفيه أرى نفسي سينمائياً ومواطناً.÷ بيانات وبيانات مضادة، واتهامات بالعمالة والتخوين من زملاء سينمائيين؟ كيف تنظر إلى هذا الأمر؟} نحن في نَفَقٍ. في البدء تَظنُّ أن الجميع يحفرون نحو الحريّة لأنك ترى أن من البديهي التوحُّد حول مقاومة الحذاء واسترداد القبلة للحبّ، وأن الجميع سيستنكرون إطلاق الرصاص على المتظاهرين السلميين. في البِدء ترى في الآخر أنتَ، فتكتشف أنَّهُ يُخُّوِنُك ويهددك. لا أعلم إلى أية درجة يصح النظر إلى الفيسبوك على أنه استفتاء سوري. وإذا كان كذلك فيبدو أننا في نفقين لا يلتقيان ولا بُدَّ من العمل إلى أن يلتقيا. بالطبع لا أعني أحداً ممن لوث ضميره بالقتل. في النفق الذي يحفر إلى الضوء مواطنون يبدأون ممارسة حق التعبير فيُقتلون ويستمرون. وفي النفق الآخر حفرٌ في ظلام التهمة والتخوين ومهزلة الداخل والخارج وتجاهل للقتل والاعتقال والتعذيب الوحشي.
أما بخصوص «بيان سينمائيي الداخل» فبالرغم من كل هذا فأنا أعتقد أن في كلا النفقين أناساً يحلمون بالعدالة، يُعيقُ البعض منهم الخوف والمصالح وغموض المُستقبل، وشوفينيّة مَحلّويّة تَتَجند سريعاً، نفاقاً أو صدقاً، ضد كلّ من وما يأتي من الخارج. فتُعادي صوتَ أبٍ أو أخٍ لشابٍ قُتِل للتو على يد أجهزة الأمن في درعا، لأنَّ صوته يأتي من فضائيةٍ خارجيّة. لأن السوريّ هنا يتوَجَّه للخارج. وهنا يبدأ العقل مِحْنَتَهُ الأولى على نسق بيان إخوتنا سينمائيي الداخل، الذي يتجاهل الضحايا ويُشَفِّر صورة المجرم (نظراً لخطورة الأوضاع التي يمرّ بِها وطننا الحبيب) فالنَصّ يعتقل الـ «نا» ضمير وصل وطننا جميعاً في تزوير انتخابيّ واتهاميّ ويعتبرنا (بضعة من سينمائيين سوريين متجاوزين الوطن) ثمَّ يَصِفُ الشعبَ السوريَّ بـ «الأبيّ»، ثمَّ لا يتحرج البيان من تحديد الأماكن التي لا يَسمَح فيها للشعب الأبيّ بالتظاهر للتعبير عن حقّه (إن التظاهر السلمي لأجل الإصلاح لا يتمّ بالتلطّي بالمساجد وانتهاك حرمتها)، في تجاهلٍ تامّ للرصاص والاعتقال والتعذيب التي تواجه الأجهزة الأمنية به شعبنا الأبيّ.
وفي اتّساقٍ مع الدعاية «الرسميّة» يتّضِح أن «بيان سينمائييّ الداخل» لا يستنكر التوجه للخارج كما توحي مُقدمَتُه (إن قيام بعض السينمائيين السوريين بتوجيه نداء إلى الخارج، أمر مرفوض منّا ومستنكر)، فالبيان في سطره التالي لا يرفض ولا يستنكر ذلك، بل يملي على السينمائيين في فقرة مشابهة للنَهيِّ عن المساجد؛ كيف كان عليهم أن يتوجهوا (كنّا نتمنى عليهم أن يتوجّهوا بندائهم ذاك إلى سينمائيي العالم ليطالبوا كبريات وسائل إعلامهم بوقف حملة التحريض والتجييش وبثّ الفتن التي ينتج عنها سفك الدم السوريّ البريء). إذاً وسائل الإعلام غير الدنيوية هي التي تُنْتج سفك الدم البريء. لم أكن أنوي التطرق لبيان الداخل فأنا لا أريد أن أُصَدِّقَ أن الكثير ممن وقَّعوا عليه قد وقَّعوا على كُلّه بالرغم من محاولات نادِرة في الفصاحة يرتكبها بعضهم. ولا أريد التوقف عند الاستعارة البُوطيّة لمُفردة (التَلَطيّْ) في وصف المتظاهرين من أبناء الشعب الأبيّ. ولا أعلم البعد المستقبلي لدعوة البيان إلى (نعم للحوار الشامل والشفاف بين كلّ أطياف الشعب السوريّ) في إيحاءٍ نوعيّ إلى أن المواجهة تدور بين أطياف الشعب وليس بينها وبين السياسة الأمنية.
إنًّ التصيّدات الأمنيَّة واحتكار الوطنيّة لن تجعلنا نتنازل لإثبات وطنيتنا، أو لمسار الخلط بين وطنيتنا وبين خضوعنا للأمني. ما العمل أيها المواطنون الذين تُحِبُّون وطنكم الحبيب إذا كان هواء الإعلام الرسمي لا يسمح بخروج روح الشهداء السوريين على هوائه. هل تستطيعون حلاً يجعل الروح التي تفارق الحياة تؤجل رحلتها ريثما تأتون بالإصلاح فيُحرر ترددات الفضائيات المُوالية من الدم. الحلّ الأوضح هو الاتفاق على تجريم القتل والقاتل. طيِّب ما رأيكم بإحالة جموع الأجهزة الأمنيّة إلى أصواتٍ مُوالية.. دعوهم يُدلون بأصواتهم في الانتخابات الحرّة فيتحررون من رصاصهم في صندوق الانتخابات بدلاً من قتل المواطنين وقتل أصواتهم وقتل الصندوق... صندوق دنياهم.
أعرف الكثيرين في النفق المجاور، زملاء وأصدقاء ومعارف. وأعرف أنهم ساندوا الشعب المصري، وأسقطوا ثقتهم عن مجلس الشعب في صفحاتِهم الالكترونيّة، وصوتّوا لحذف المادّة 8 من الدستور، وأيدوا الإصلاح، وأعرفُ أنهم يُحبّون الوطن، وأعرفُ أنهم سوف يتجاهلون حَمْزَه الخطيب، وسيؤلفون روايتهم المغايرة. وسيصبح الطفل الضحية روايةً عدّوة. وسيصرخون في جُثمانِه غداً بأسماء لقتلى آخرين ولشهداء آخرين، في توريّة للقاتل وإعفاء للدولة من مسؤوليتها تجاه، وعن جميع الضحايا. أعرِفُ ... وأسأل ضمائركم؛ أخرجوا القاتل من عباءة المبارزة العمياء لنلتقي. نَحْنُ لا نَخْتَلفُ على حَرْفِ جَرّ الوطن أو مُضاف إليه حُبّ الوطن، جيناتنا من أجدادنا (جميعاً) البيولوجيين والمجازيين يوسف العظمة والشيخ صالح العلي وسلطان باشا وهنانو وجول جمّال... لا تسمح لنا أن نُخَبِئ القاتل في جملة «ما يجري من أحداث ...في وطننا الحبيب». أنا أصدّق شهود العيان أهلَنا.. أهالي وأصدقاء وآباء القتلى. وأُصَدِّق صورهم، فالحقيقة المقدسة هي الروح البشرية التي تُزهق. التظاهر السلميّ حِوار. وهو عقدةُ الوضع السوري وَحَلّه. لقد بادر المتظاهرون إليه ولم يسمع ولم يسمح لهم، واستجابوا لهواجس اللغويين ففسروا جملتهم وعدَّدوا المناطق والطوائف والمذاهب والأعراق في الوحدة الوطنيّة. أنا أنحاز للمتظاهرين من دون أن أُخضعهم لامتحان مادة الثقافة القوميَّة.. فعلامات النجاح لا تُعيد الحياة للقتلى. الشهداء فرداً فرداً حياةً حياةً .أنى كانوا. ليس القتل وجهة نظر على طاولة الحوار ... إنه قتل للحوار.
(دمشق)
عن جريدة السفير
08-أيار-2021
27-تشرين الأول-2018 | |
20-تشرين الأول-2018 | |
09-حزيران-2018 | |
06-نيسان-2012 | |
30-آذار-2012 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |