الوجه الآخر للمرآة ترجمة
خاص ألف
2011-06-05
كانت الشخصية الطقوسية التي رسم أول معالمها حافظ الأسد تقوم على الفكرة التالية : إن القائد الغائب فيزيائيا موجود و حاضر بصوره و ذكرياته المعبرة و المؤثرة ، و ربما كان هذا المبدأ قد نجم بالمعرفة الواعية أو غير الواعية التي أرست تقاليدها أخلاق العشيرة ، و فيها يستمد القائد قوته و هيمنته العامة و المشروطة من خلال قدرته على التواصل مع الشعب. و حسب المنطق العربي ، على القائد أن يرى و أن يكون مرئيا ، و عليه أن يحقق العدالة و يحصد منها المنافع الشخصية ، و على مرأى و مسمع من جميع أفراد المجتمع. و هذه المتطلبات تتوافق مع المبادئ الحرة للإسلام ، و قد ترسخت دعائمها منذ بدايات التاريخ الإسلامي ، و ذلك تحت قيادة الخلفاء الأوائل الأربع ، الذين يعرفون على وجه الإطلاق باسم ( الراشدين ) ، أو الحائزين على الهداية الصحيحة ، و هم : أبو بكر و عمر و عثمان و علي.
هؤلاء الرجال الأربع ، و كل منهم يرتبط بالنبي عن مقربة و يحتل مرتبة بين صحابته ، عمدوا إلى تطبيق القيم الاجتماعية للإسلام على أنفسهم أولا ، و قد تم النظر إليهم منذ ذلك الحين كقدوة و كنمط للحكم المتنور. و قد تناقلت الأجيال حكايات عنهم للتأكيد على بساطة و تواضعهم . كان عثمان ( معروف بأنه غني ) – أو كريم – ينام على الرمل الخشن في باحة الجامع الكبير ، و يتبرع شخصيا بالأطعمة و المؤن للفقراء. و كان عمر يرتدي الثياب الخشنة و يكدح مع رجالة كتفا إلى كتف لتنظيف الأرض من أجل إنشاء قبة الصخرة في القدس. و خلال المجاعة يمتنع عن تناول الطعام ، و يقول كلما اعترض أتباعه على سلوكه : " إن لم أتذوق المعاناة كيف لي أن أعلم مقدار معاناة الآخرين ؟".
و تروي إحدى الحكايات إنه عندما رحل عمر من المدينة إلى القدس المحررة حديثا لم يكن معه غير بعير واحد تناوب عليه مع مرافقه ، و قد ألح مرافقه عليه أن يأخذ دوره و يمتطي ظهر البعير لوحده ، قائلا إنه ليس من دواعي الكرامة أن يدخل الخليفة إلى المدينة المقدسة راجلا و تابعه على بعير. فرفض عمر ، و ذكره أن المؤمنين سواسية عند الله ، و للتابع الحق في الركوب مثله.
كان القادة الإسلاميون منذ تلك الأيام و ما بعد يعانون من مشكلة لتحقيق التوازن بين الزعامة و روح النبالة كما يعكسها الراشدون. لقد تصرف ياسر عرفات مثل شيخ قبيلة من المدرسة القديمة ، بمعنى أنه كان قريبا من الآخرين ، و يغدق علي الدائرة المحيطة به العطايا و الأفضال بكرم لا حدود له.
و كذلك جسد صدام حسين خصال الزعامة ، و لكنه نسي الراشدين و فكرتهم الأساسية في القيادة ( بعكس عرفات ) : كانت لدى صدام قصور رئاسية مرعبة بلغت درجة من الإفراط كان الراشدون يقاتلون ضدها. و هي تذكر بالانفجار المبالغ به و بالرفاهية التي كانت لبلاط البيزنطيين و الفرس. و لكن حافظ الأسد وظف توازنا أقرب للعقل. لقد عبر عن مفهومه للزعامة بالتماثيل ، بالميثاق المكتوب بالدم ، و بالاختفاء الغامض لمعارضيه السياسيين ، في الواقع كل جوانب شخصيته تشرق بأعراض الزعامة ، و لكن في ظل تقاليد الراشدين و بوحي منهم عاش حياته ببساطة نسبية ، و كان يقطن مع عائلته في الطابق الثالث من شقة في مبنى يخص الطبقة المتوسطة غير المترفة ، و هي نفس الشقة التي لا يزال بشار و عائلته يقطنون فيها.
و مع أنه يوجد على مشارف المدينة " قصر رئاسة " عملاق ، يذكر على نحو مدهش بقلعة الحصن من ناحية الحجم و الشكل و الموقع ، فهو مخصص للأعمال الرسمية كرئيس للبلاد و للنشاط الدبلوماسي . أما أعمال الرئيس اليومية فتجري في مبنى متواضع في منطقة الروضة من دمشق. لقد تابع بشار و زوجته أسماء طريقهما ليتركا انطباعا بالسلوك العادي الذي يميز السوريين مع تبني سبل حياة المواطن السوري العادي. و لذلك إن معظم النواحي التي تواجه القادة المعاصرين في هذه المنطقة هي نفسها التي عانى منها من سبقهم. في هذا المكان من العالم ، و لا سيما على طول مجرى نهر الفرات ، تطورت الفكرة القديمة للنظام الملكي و تم تطبيقها. و مع بواكير الألفية الثانية ق م كانت السلطة تتركز في شخص الملك و قد تطورت شريحة واسعة من البيروقراطية التي تعزو أهمية بالغة للملك. و لأول مرة انتقل التركيز في الحياة المدنية من المعبد إلى القصر. و توجب على كل ملك أن يصل إلى حل فردي لتحقيق التوازن بين سلطات الملك المتعددة : الجيش و الإدارة و الحياة الروحية.
كان موضوع الزعامة حساسا ، منذ الأزل. و من دواعي الدهشة أن تنظر إليه و هو قيد التطبيق في القرن الثامن قبل الميلاد ، و تجد ذلك في نص لوثيقة معاهدة بين آشور نيناري و ماتيولي حاكم أرفاد ، و هذه المعاهدة منقوشة على قاعدة من البازلت في متحف دمشق.
كان آشور نيناري يلعن ملوك بلد أرفاد لو نكثوا بالعهد ، و هذه هي ترجمة النص إلى الإنكليزية كما وردت في المتحف:
ليحل الخراب على أرضه ، و على أبنائه و بناته ...
و لتتحطم روحه مثل حجر الغضار.
ليهجر ماتيولي و أولاده أرضهم إلى الأبد
و ليحل الجذام بسن بن حاران و ليلتف به كالأقمطة
و لينفذ منهم الوقود و الروث
و ليعاقبهم الرب حدد بالمجاعة
و الفقر حتى يأكل أهل أرفاد بعضهم البعض.
و ليتوقف هطل المطر و لتتحول مساكن آشور إلى أنقاض من الخرائب.
هذه الابتهالات لها رنة تشبه صليل السيوف التي لا تزال تسمع بها في بعض البلدان اليوم. هل سمع آشور نيناري ذات يوم بالمقاطعة الاقتصادية ، لا شك أنه يقبل بهذا المفهوم.
و يمكن تقسيم القادة السياسيين إلى محاورين و طبقة من صغار المديرين. و تعرض بعض الألواح المسمارية ( العائدة للألفية الثانية قبل الميلاد و المكتشفة في بلاط ماري و المحفوظة في متحف حلب ) زيمري ليم الكبير باعتبار أنه من النمط الثاني. هنا يكتب لمليكته شيبتو قائلا :
الآن أرسل لك خياطات نساء ، بينهن
راهبات . انتقي الراهبات و اطلبي من الباقيات خياطة
اللوازم. و انتقي من هؤلاء و ممن سبقهن
ثلاثين خياطة – أو بقدر ما يستحق أن تختاري –
وسيمة ، ممن ليس لهن نمش من أخمص القدم
و حتى مفرق الرأس ،
و أرسليهن إلى واراديليشو . واراديليشو سيعلمهن رقصات صوبار ،
و لكن يجب أن لا تتبدل أشكالهن. و احذري أن لا يتبدل شكلهن. و احذري من نصيبهن حتى لا تتغير قسماتهن.
و مهما بلغت ضآلة الموضوع كما يبدو. هذا آخر ، و هو ينم عن وعي متقدم بطبيعة المرض المعدي :
لقد سمعت : " نانا مصابة بالعدوى ، و بما أنها غالبا في القصر ، سوف تنقل العدوى لعدد من النساء
اللواتي برفقتها ".
و الآن أعط الأوامر الصارمة : لا أحد يشرب من الكوب
الذي تشرب منه ، لا أحد يجلس على المقعد الذي تحتله ،
و لا أحد يرقد على السرير الذي تنام فيه ،
و إلا ستصيب بالعدوى نساء كثيرات
ممن معها. هذا مرض شديد العدوى!.
و طبعا أيها القادة ، فيما بعد كما هو الحال الآن ، هناك المتملقون و المنافقون
و مثيرو الشفقة.
و هذه رسالة موجهة إلى زيمري – ليم من أحد حكامه الإقليميين :
منذ وصلت إلى ساغاراتوم قبل خمسة أيام ، لم أتوقف عن إرسال
الهدايا لربي. و لكن ربي كتب لي يقول :
" أرسلت الهدايا غير الطيبة ". و لكن لم يتوجب
على ربي أن يلعنني بسبب الهدايا. لقد أرسلت لربي ما أحضروه
لي...
كان أكثر القادة نجاحا ، هنا كما هو الحال في بلدان أخرى ، هم من جمع بشكل جيد بين الزعامة و نوع من السلطة الروحية. و حتى القائد في بلد يسمى علمانيا و اشتراكيا لا يستطيع أن يتجاهل الدور الروحاني. و مثل من سبقه من القادة العلمانيين حل حافظ الأسد المشكلة باستثمار فكرة الأمة و القدر القومي في ديباجة روحية ليبدو بصورة تؤهله كي يلعب دورا أبويا.
لم يحالف النجاح قائدا سياسيا سوريا مثلما حصل مع نور الدين و صلاح الدين فقد دمجا الزعامة مع جو التنوير الروحي. كان صلاح الدين فارسا مثاليا ، قائدا له إيحاء مؤثر يحدو بمن يكن له العداء بالحج إلى دمشق لزيارة ضريحه ، إما على سبيل التحية أو للشماتة. و كما رأينا كان الجنرال غورو قد قام بزيارة للضريح بدافع من تهشيم أنف هذا " السارازين " كخاتمة " نهائية " تعبر عن شماتة فرنسا. و في عام 1898 قام القيصر ويلهلم الثاني بزيارة لتحيته ، و وضع باقة من الزهور البرونزية على الضريح و كتب عليها " ويلهلم الثاني ، إمبراطور ألمانيا و ملك بروسيا ، إجلالا لذكرى البطل السلطان صلاح الدين ".
و في دمشق عقدت حفلة تكريم له ، حيث ألقى ويلهلم كلمة بليغة عن اعتزازه لأنه " في الأرض التي حكمها واحد من أشجع الفرسان في كل الأزمنة ، السلطان العظيم صلاح الدين ، مقاتل يخشى الجميع أن يقتربوا منه . و كان يعلم مناوئيه المعنى الحقيقي للفروسية ".
و بعد حوالي عشرين عاما ، في أعقاب هزيمة القيصر و حلفائه العثمانيين ، غنم لورنس الإكليل البرونزي و أحاله إلى متحف الحرب الإمبريالي في لندن مع ملاحظة كتب عليها إنه بمقدورهم الحصول عليه فقط لأن " صلاح الدين لا يحتاج له".
يوجد ضريح صلاح الدين في مبنى أبيض صغير قرب الجامع الأموي ضمن مكان بسيط ، ليتماشى مع الإرث الروحي للراشدين و قيمهم الإسبارطية. و هناك عبارة بالإنكليزية تدل عليه و تقول : " القبر الحقيقي لجثمان الفاتح السلطان صلاح الدين الأيوبي " ، و الجثمان نفسه موجود في تابوت من الخشب يعود للفترة الأيوبية ، أما الضريح الثاني فهو من رخام القرن التاسع عشر و قد كان هدية من القيصر ويلهلم. إن لم يكن الهدف هو مبارزة العثمانيين في صناعة الرخام الرائع فهو يبدو بيوريتانيا و بغاية الإتقان ".
من بين كل القادة المسلمين تركز تأليه و تجسيم الفارس صلاح الدين في جميع العالم الغربي. و لكن لا يشترك معهم في هذه العاطفة العارمة كل شخص في العالم الإسلامي. و يلخص المؤرخ القروسطي ابن الأثير حالة صلاح الدين بقوله :
لم تكن لقرارات صلاح الدين صفات مستقرة و ثابتة. كان يحاصر مدينة ، و لكن لو قاوم المدافعون عنها لبعض الوقت ، يحل به اليأس و يرفع الحصار. و لا يجب على الملك أن يتصرف بهذه الطريقة ، حتى لو ابتسم له القدر. و من الأفضل له أن يخسر و هو متمسك بقراراته من أن يربح و في نفس الوقت يفرط بثمار انتصاره. لا شيء يوضح حقيقة هذه الناحية أفضل من سلوك صلاح الدين في صور. كان هو وحده المسؤول عن الخطأ الذي تسبب بهزيمة المسلمين أمام أسوار المدينة.
تبين أن صلاح الدين كان طيب القلب جدا ، و ليس فظا بما فيه الكفاية. و مع أنه محا خمسين موقعا صليبيا ، ترك صور المدينة الساحلية على شواطئ المتوسط بيد الصليبيين و هذا خطأ قاتل. و حسب معاهدة السلام التي وقع عليها قبل وفاته عام 1192 على أن تستمر لخمس سنوات ، سمح للفرنجة بالبقاء في ساحل يمتد من صور و يافا ، و من هذا الشاطئ كانوا أحيانا يبحرون لمضايقة المسلمين.
و لم يرحل الصليبيون من أرض العرب قبل عام 1291 ، و تقريبا بعد قرن على وفاة صلاح الدين. و يلخص البريطانيان - مالكوم كاميرون ليونز - و - د. ي. ب. جاكسون - مؤرخا حياة صلاح الدين وقائع حياته و يحلللان ميزاته بطريقة إنكارية قائلين :
كان طيبا ، و لكنه ليس عظيما ، و يتمتع بحس استراتيجي و تكتيكي ، و كان كريما و لكنه ليس إداريا بعيد البصيرة و رجلا له نصيب من الأخطاء و الدوافع و نقاط الضعف في مزيج واحد.
و على أية حال ، كانت سمعته في التاريخ الحقيقي و الأسطوري مبنية على شخصيته و عاطفته التقليدية. و على ما يبدو أنه كان بغريزته ينتسب للطبقة المتوسطة. و كان العقل التقليدي يقترن بفضائل لا تقل جاذبيتها بسبب انتمائها القديم. و لم يكن مهتما بتأمل تأثيرات القيم التي يحملها ، و على ما يبدو لم يحاول أن يتأكد كم هو مذنب في تشويه هذه القيم. فهي مجرد جزء من تقاليد الإسلام ، و عليه أن يتقبلها بقلبه ، و ليس بعقله ، و بهذه الطريقة كان بمقدوره الافتراض أنه يتخطى التناقضات. إن جاذبية هذا الموقف تستند عموما على الإخلاص الجوهري للإنسان مهما تعرض له من تشويش. و كان هذا هو الامتحان الذي توجب على صلاح الدين أن يجتازه.
قابل القصور في شخص صلاح الدين عند بيبرس الخشن و لكن الكفء ما يثلج الصدر ، مع أنه جاء بعده بسبعين عاما. يجسد بيبرس روح الزعامة منذ مطلع حياته المهنية ، كعضو في جيش المماليك الذي اغتال في عام 1252 طوران شاه آخر سلاطين الدولة الأيوبية و اغتصب العرش. لقد أنهى بيبرس بخنجره حياة السلطان الذي يحتضر.
و تعني كلمة " مملوك " باللغة العربية " التبعية الكاملة " ، و بينما كان المماليك دلاليا بمعنى العبيد ، فهم ليسوا كذلك حقا. المماليك هم رجال من مقتنيات المواطنين المهمين في الإمبراطورية الإسلامية ، و خدموا في جيش السلطان. و قد حازوا على ثقافة عسكرية ممتازة و كان من حقهم الوصول إلى مكاتب عليا. و بعضهم في الواقع حصل على لقب أمير. و في منتصف القرن الثالث عشر تطورت هذه القوة العسكرية من النخبة في ظل أواخر الأيوبيين غير الفعالين و الضعفاء ، و غير القادرين في مواقفهم على مجاراة الفرنجة ، الذين استعادوا بعد نهاية صلاح الدين قوتهم و تزايد عددهم انطلاقا من حصنهم المنيع في عكا و صور و أنطاكية على طول الخط الساحلي.
و كان تقدم الخطر الجديد و المرعب للمغول الذين زحفوا من الشرق ، قد أثبت أن القيادة الحالية ليست متساوية مع العدو الذي يضغط على الإمبراطورية من كافة الجهات. و توجب تبني موقف أقسى و أكثر تماسكا إذا شاءت الإمبراطورية الإسلامية أن تعيش.
لم يهدر بيبرس الوقت. فقد طرد بسرعة لويس التاسع الذي لم يحسن قيادة الحملة الصليبية السابعة من مصر ، و هو إنجاز لم يتمكن طوران شاه من تحقيقه. و هنا برز خطر داهم يمثله جيش هولاكو حفيد جنكيز خان الذي احتل بلاد فارس و شرع يفكر بغزو ما تبقى من شرق الدولة الإسلامية. و دكت جيوش هولاكو عرش دمشق و حلب في عام 1260 و توجهت نحو مصر حينما قابلها بيبرس في عين جالوت بفلسطين ، و ربح على المغول و وضع حدا لتوسعهم.
و تعتبر عين جالوت معركة حاسمة ، و منعطفا تاريخيا هاما.
في عام 1265 انطلق نحو أنطاكية مدينة الصليبيين المنيعة و التي كانت بيد الفرنجة 170 عاما كاملا ، و تقاوم الغزو الإسلامي بنجاح. و لم يستغرق بيبرس و جيشه غير أربعة أيام حتى ركعت له أنطاكية على ركبتيها ، و هكذا توطد صيته كفاتح بشكل مختلف عن صلاح الدين : في هذه اللحظة من التاريخ ، حلت الزعامة محل واجبات النبالة. أغلق بيبرس أبواب المدينة حتى لا يتمكن أحد من الفرار ، و ذبح كل من لم يكن الحظ إلى جانبه و تصادف أنه في الشارع. و أولئك الذين نجوا من المذبحة الأولى بالاختباء تحولوا إلى عبيد. و يقال إن كل عسكري في جيش بيبرس حصل على عبد جديد من بؤساء أنطاكية.
أرسل بيبرس المنتصر رسالة إلى الأمير بوهيموند السادس أمير أنطاكية ، و الذي حالفه الحظ و كان غائبا في طرابلس في نفس اللحظة التي دخل فيها أمراء المماليك مدينته. و صاح : " كن مسرورا . لأنك لم تشاهد فرسانك يستلقون هامدين تحت حوافر خيولنا ، و قصورك تعم بها الفوضى ، و نساءك معروضات للبيع في ساحات المدينة ، مقابل دينار لكل رأس – هذا دينار آخر نحصل عليه من جماعتك !".
لم يقدر لجروح أنطاكية أن تشفى بعد هذه الكارثة. و بعد ذلك تحولت المدينة العظيمة بكل أبهتها التاريخية باعتبار أنها مركز للمسيحية إلى مدينة متداعية و أطلال ، تراها بشكلها الإنكاري اليوم في أنطاكية الحديثة على شواطئ تركيا.
واصل بيبرس مسيرته ، و مسح كل جيوب المقاومة التي لم يتمكن صلاح الدين و سلالته من الانتصار عليها. و سقطت قلعة الحصن المنيعة عام 1271 ، و انتهى الإسماعليون الحشاشون الذين كسرهم المغول ، إلى الأبد. ربما أصبح صلاح الدين بطلا بالمعنى الغربي – و بالأخص في عمل ممتاز و شديد الرواج للسير والتر سكوت عنوانه ( الطلسم – و قد اقتبس منه فيلم لهوليوود في الخمسينات ارتبط باسم ريكس هاريسون الذي لعب دور السلطان العظيم ). و لكن في مقهى النوفرة الدمشقي ، مثلما هو الحال في مقاهي لا تعد و لا تحصى من الشرق الأوسط ، لم يزل الحكواتي يروي أسطورة بيبرس.
كان حافظ الأسد قائدا على هيئة بيبرس ، حاكما يجب أن تخشى منه لا أن تحبه. و لكنه كان يود أن يكون محبوبا أيضا ، و معظم الطاقة التي صرفت على جهاز البروباغاندا وضعت جهودها لهذا الهدف لاستخلاص العاطفة الناجمة مما يحيط به. إن الارتحال في سوريا اليوم ، يصعّب مهمة الحصول على شخص ينتقد علنا حافظ أو بشار الأسد ، و مع ذلك يتطوع عدد قليل لذلك إنما بصوت خافت.
كم من هذا الحماس الذي ينصب على آل الأسد حقيقي و صادق ، كم منه ناجم عن الخشية و البارانويا ؟. من جهتنا من المرآة يبدو الجواب يسيرا : من الواضح أن الجميع يخشون و يرهبون من نظامه غير المنتخب بطريقة ديمقراطية و يخافون من الطاغية الذي يقطن في رأسه. و لكن خلال رحلاتي اقتنعت ، على الرغم من وجود مصادر تهكم كثيرة تحيط بآل الأسد و بعملهم ، هناك قدر لا بأس به من الحماسة و التكاتف الصادق.
إن الشعب و القائد متفقان على عدد من المفاتيح الأساسية : مقاومة إسرائيل ( و يجب أن نتذكر أن المقاومة ضد إسرائيل لا تترجم بالضرورة على أنها ضد أمريكا أو ضد السامية ) ، و التضامن مع الفلسطينيين ، و ترويج أهمية سوريا كقوة إقليمية مستقلة. و مع أن الاقتصاد لا يزال بعيدا عن العافية ( جزئيا لأسباب داخلية و جزئيا بسبب المقاطعة الأمريكية ) ، فقد دخل به حافظ الأسد إلى ساحة القرن العشرين ، بعملية تفكيك للسيستام الزراعي القبلي و المتخلف ، و لذلك يحظى من بعض الجماعات من أبناء شعبه بقدر كبير من الامتنان.
إن المشاع التقليدي السوري ، نظام زراعة جماعي يقسم الأرض على أسس حرة نسبيا و على مدار الأجيال، قد توقف منذ أواخر العهد العثماني. و قد عرفت أنظمة الأرض العثمانية عام 1858 درجة نموذجية من عدم التكافؤ التي أحاطت بحركة الاستملاك في القرن الثامن عشر في إنكلترا ، حيث أن العوائل الأغنى ( من ضمنهم السلطان نفسه ) يمتلكون معظم الأراضي بينما المزارعون ينحدرون إلى درجة يد عاملة فقط. لقد عاشوا في فقر مدقع و في عوز ، و اقتنصوا من الأرض بأدوات بدائية و غير كافية ما يسد رمقهم . و كان للإقطاعي الحق بامتلاك حياتهم و توابعها ، و في نفس الوقت يتعرضون للقمع من جباة الضرائب و مقرضي الأموال. توفرت الفرصة لحنا مينة من بين الكتاب السوريين للنشر بالإنكليزية ، و قد رسم صورة تراجيدية لتلك الأوقات العصيبة في سيرته الروائية ( بقايا صور ). و في الستينات أطلق حزب البعث المستجد على الحكم برنامجا تفصيليا لإصلاح و تأميم الأراضي و هذا قاطع النظام القبلي إلى الأبد.
و ربما يدين معظم السوريين بالاحترام و التقدير لهذا الاستقرار الذي منحته عائلة الأسد لسوريا – و هي ميزة لا ينتبه لها أحد في بلدان أخرى كالولايات المتحدة ، حي لا يوجد أثر لثورة أو نزاع حرب أهلية على الأقل خلال القرن و نصف القرن الأخير. في ستين عاما قبل استيلاء الأسد على السلطة ، مرت سوريا بالحرب العالمية الأولى و انهيار الإمبراطورية العثمانية و الانتداب الفرنسي و حرب عالمية أخرى و اتحاد غير منسجم و لا ناجح مع مصر عبد الناصر ( 1958 – 1961 ) ، و ديكتاتوريات عسكرية متسلسلة بلا أخلاق ، كان الانقلاب يتبعه انقلاب ، و هنا يجب أن لا تنسى الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 و 1967 . و إن العرض الممتاز الذي قدمه الأسد في حرب 1973 وضع حدا للسقوط العسكري المتواصل الذي كان البلد على ما يبدو يعاني منه ، و استعاد بذلك بعض الثقة و حتى بعض الكبرياء الوطني. و إن " حركته التصحيحية " و إن كانت ضد الديمقراطية ، فقد أحلت السلام و الاستقرار بمؤسسات الاقتصاد. لم يبخس السوريون هذه القيم الثمينة حقها. و كما قال باتريك سيل مؤلف سيرة حافظ الأسد :
إن أنظمة عربية مثل نظامه ، غالبا ما ينظر إليها على أنها طغيان استشراقي ، كانت تتطلب في الواقع حدودا لتعريف الاستجابة الجماهيرية ، و يمكن تقدير أهمية الرأي الجماهيري بالجهود الكثيفة المبذولة لتحريكها. لم يسيطر الأسد بالكامل على النشاط السياسي و لكنه حصره في جماعات مغلقة مثل القيادة العليا للحزب و قادة الجيش و رؤساء الأمن ، و في النهاية كان كل ذلك يرتبط به. و أولئك الذين تجدهم خارج هذه الدوائر المحظوظة تعلموا بسرعة أنه بمقدورهم الاهتمام بأعمالهم دون خوف ما داموا يقرون أن السياسة ليست مجالهم. كان هدف حافظ الأسد بكل بساطة أن يرسي دعائم سلالة. و هذا نراه في الجانب المحاذي لنا من المرآة انتهاكا فاضحا ، و لكنه يبدو من طبيعة الأمور في سوريا ، حيث أن سلالة كانت تحل محل سلالة خلال ألف عام. و قد أثبتت خططه نجاحها حتى الآن ، و لكن سواء نجحت العائلة أو أخفقت ، و سواء استطاعت الأمة أن تضع يدها على مصادر القوة الكافية لإسقاطها ، أو سواء تم إقصاؤها بعائلة أخرى أو بلد آخر ، فهذا شيء لا يزال في طي الغيب.
الترجمة من كتاب Brooke Allen الصادر في نيسان 2011 - الآراء الواردة في المقالة تعبر عن رأي الكاتبة و ليس رأي المترجم.
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |