شيز جانيت للقاص الإفريقي ألين مابينكو ترجمة :
خاص ألف
2011-08-20
كنت عائدا إلى الوطن بزيارة قصيرة ستستمر لأيام بعد غياب بلغ طوله عدة سنوات. و كنا نجلس على طاولة في شرفة خارج شيز جانيت ، و هو بار في حي توري سنتس . و هذا يعتبر المكان الأكثر ازدحاما في لوزينغو ، العاصمة السياسية لجمهورية مبوكو.
كان يوجد قليل من الأشخاص يتحدثون في الزاويا ، و لكنهم لا يسمعوننا. بسبب هبوط الليل ، كانت وجوهم تذوب بالتدريج في الظلام. جلسنا هناك لحوالي ساعتين ، و ظهر السرور على عمي لأنه يلتقي معي بعد كل هذا الغياب.
جاءت النادلة لتقدم لنا كوبين من بيرة بريموس. نظر عمي بعينه إلى البنت و بشيء من المغالاة و قال : انظر يا ولدي العزيز إلى تلك النادلة – كم هي رائعة ، أليس كذلك ؟.
لم أرد. فراقب النادلة و هي تشق طريقها لتعود إلى البار ، ثم التفت نحوي و أضاف : كم تبدل هذا البلد.
و عندما نظرت إلى الندبة الطويلة التي تغطي وجهه ، قال : نعم ، أعلم ذلك ، هذا بسبب الحرب يا ولدي العزيز... السبب يعود للحرب ، أو بالأحرى النفط...
نظر إلى الناس الجالسين في نهاية الشرفة ، و لكنهم لم يهتموا بنا ، و تابع يقول : أتساءل كيف سيكون بلدنا لولا النفط . بلد هادئ و وديع ؟ بلد من غير تاريخ ؟ لست متيقنا. و لا أحد يعلم. منحنا الرب الفائض من النفط ، مع أن بلدنا صغير جدا ، و يبلغ تعدادنا ثلاثة ملايين نسمة. و لكن لماذا ركزه كله في الجنوب ، و لم يوفر القليل منه في الشمال ، ليحصل كل شخص على حصته من الكعكة ، و نتوقف عن الصراع؟. آه حسنا. يجب أن لا أشتكي ، بعض البلدان تعيش في محنة حقيقية ، و ليس لديها و لو قطرة واحدة من النفط ، لا تحت الأرض و لا تحت مياه البحار!.
رفع كأسه ، و شربه دفعة واحدة ، و تابع يقول : النفط قوة. أينما توجد الحروب يوجد نفط أيضا. هل تتحارب البلدان على المياه؟ تخيل بلدا من غير ماء ، هل يبقى أهله على قيد الحياة؟. النفط يسبب لنا الهلاك من الشمال و حتى الجنوب. هذا هو السبب الوحيد للحرب الأهلية.
أحضرت النادلة كوبين آخرين من بريموس و وضعتهما على الطاولة. نظر عمي إلى مؤخرتها المستديرة و المتناسقة و قال : سيدة أنيقة . آه. و الآن أين وصلت؟ ماذا كنت أقول ؟ .
قلت له : عن الحرب الأهلية بسبب النفط...
قال : آه ، نعم ، عندما كنت في فرنسا كنا مشتبكين في حرب أهلية. لم يقبل الرئيس مونيتو الذي كان في السلطة أن يخسر الانتخابات. و لم يرض بتسليم السلطة لسولولا الذي نجح في الانتخابات الحرة. و ماذا يمنعه من ذلك؟.
طر لي هل يعلم أنني سمعت بكل شيء عن الحرب من الصحف. ولكن فضلت أن أسمح له بالكلام.
و أصبحت تعابيره أعمق و هو يقول : كانت الحرب للتحكم بالنفط ، و بيعه سرا لشراء بيوت فخمة في أوروبا ! النفط هنا ليس للشعب ، و لكنه ملك للرئيس و لعائلته. و المشكلة أن مونيتو كان حليفا للفرنسيين. و الآن لا يرغب سولا بالتحالف معهم ، و يفضل التعاون مع الأمريكيين.
و لذلك دعم الفرنسيون مونيتو ليبقى في السلطة. و لكن الأمريكيين لم يقدموا الحماية للرئيس الجديد المنتخب بشكل ديمقراطي. الأمريكيون ليسوا أغبياء ، فهم يعلمون أنه بمقدورهم دائما شن حرب في مكان آخر – في العراق على سبيل المثال ، للحصول على حصة أكبر من النفط. و لماذا يجب أن يقاتلوا من أجل بلد صغير مدخراته من النفط أقل مما في العراق.
وقفت سيارة عامة أمام البار. و خرجت منها امرأتان بتنورتين قصيرتين جدا. راقبتهما أنا و عمي بتمهل. كان الحذاء بالكعب العالي. نمرة تسعة. صعدتا على الشرفة ، و دخلتا في البار و تحدثتا مع صاحبه. و سمعنا الرجل يقول لهما : اليوم أحضرتما المزيد من النقود. غلة الأمس كانت فظيعة!
قال عمي : هل رأيت ذلك؟ قتلت الحرب كل شيء ، و على كل إنسان ان يسعى ليعيش. ماذا كنت أقول ؟
قلت له : تتكلم عن الحرب. الفرنسيين و الأمريكيين و...
- نعم. كنا في حرب أهلية بينما أنت مسافر. سمعت بذلك. كل الصحف تكلمت عن الموضوع ، و في كل العالم. الشمال وقف ضد الجنوب. كان الشماليون في الحكم و لم يرغبوا بالتخلي عن النفط. كانت حربا يائسة يا ابني العزيز. و كانت الأسلحة تأتي من كل جانب. طلب الشماليون المساعدة من الأنغوليين و من الفرنسيين ، أيضا ، ثم جاؤوا و احتلوا الجنوب. فهرب الجنوبيون و اختبأوا في الأدغال. و هناك ماتوا من الجوع و البعوض و الأمراض الآسيوية. بعضهم التهمته التماسيح و الأسود. كانت الحرب تدور على الأرض و في الجو ، صدقني!.
كان يتكلم بصوت مرتفع ، ثم أدرك أن الزبائن الآخرين ينصتون لما يقول ، فخفض من نبرة صوته ، قبل أن يتابع قائلا : حلقت الطائرات الحربية فوق الغابات. و بدأوا يقولون عن الناس الذين فروا إلى الأدغال باللاجئين. و قال المجتمع الدولي إنهم بحاجة للطعام ، و لكن بمقدورك أن تأكل ما تريد في الغابة. كما يفعل الأقزام. الأقزام مجرد طرفة. حقا إنهم صغار و لا يمكن لبطونهم أن تشعر بالمجاعة يوميا مثلنا نحن الرجال الكبار. يمكن للأقزام أن يعيشوا من غير طعام و لا ماء لأسابيع ، و لكن أشخاصا بحجمنا يحتاجون للطعام كل يوم.
كانت عينا عمي مخضلتين بالدموع ، و يبدو عليه أنه على وشك أن ينخرط بالبكاء في أية لحظة. نظر لقارورة البيرة لحظة ، ثم صب لنفسه كوبا آخر و قال : أنت لا تعلم ماذا يجري ، كان الوضع أسوأ مما يمكن أن تقرأ عنه في الصحف. كان فظيعا. رأيت كل شيء بأم عيني ، كنت هناك ، في الأدغال مع اللاجئين. بعض النساء وضعن أولادهن في الغابة. لأنه يجب أن يولد الأطفال حتى لو أنك تتحكم بالنفط و رحى الحرب تدور في بلدك. و أسوأ شيء هو الاستمرار بفعل الحب ، مع أن الحرب تحصد عددا كبيرا من الناس. أعلم ماذا سوف تقول : لماذا لا تنتظر حتى تضع الحرب أوزارها لتمارس الحب؟. عزيزي الصغير ، لو انتظرنا حتى نهاية الحرب ، سننسى كيف نفعل ذلك ، و عند نهاية الحرب نكون قد مارسنا الحب مع الحيوانات. لا شيء جديدفي ذلك : طوال العصور السابقة كان هناك من يمارس الحب حتى في زمن الكوليرا. و لكن لا أعتقد أن للكوليرا علاقة بالنفط...
مرت العاهرتان من قرب طاولتنا ، و لم يهتم عمي بهما و لو مقدار نظرة واحدة. و أصبح صوته حزينا و ثقيلا و هو يقول : ذات يوم سمعنا صوت ثلاثة هيلوكوبترات تطير فوق رؤوسنا. كان التحليق منخفضا ، تقريبا بمحاذاة رؤوس الأشجار ، و انطلقت الشائعات تقول إنها تابعة للمجتمع الدولي. كان من الممكن أن نرى الحوامات الثلاثة و هي في السماء ، مع الأحرف الحمراء المكتوبة على جانبها : PITILOYI . كانت تابعة للشركة الفرنسية التي تنقب عن النفط. طبعا !. خطر لنا أنهم حضروا لنجدتنا. و خرجنا جميعا من مخابئنا ، مثل جرذان أدركوا أن القطة التي تطاردهم ليس لها أسنان و لا مخالب. و بدأنا ننادي بسرور و نرقص و نصفق. تعانقنا ثم هتفنا : تحيا فرنسا ! تحيا فرنسا . تحيا فرنسا. و بعضنا و هم في غمرة فرحهم صاحوا يقولون : عاشت أمريكا !. أخيرا سوف نمارس الحب و نلد الأطفال في بيوتنا ، و ليس في الأدغال ! الحرب انتهت ، عاش السلام.
كان يحرك يديه مثل الهيلوكوبتر ، حتى أن صاحب البار نظر إلينا من وراء البار ، و عيناه مستديرتان بسبب الدهشة. مجددا خفض عمي من نبرة صوته و قال : يا صغيري ، أقسم لك ، كانت هناك ، الهيلوكوبترات ، على بعد أمتار فقط فوق هاماتنا. و خطر لنا : سوف يلقون إلينا أكياس الرز و الحليب و السكر و الخبز و اللحوم. و تسابقنا لنصل أولا إلى علب الطعام. و تدافعنا و تصايحنا و دسنا فوق الأطفال. و قال العجائز يجب أن نسمح للنساء و الأولاد أن يكونوا في المقدمة. و لكن هل تعلم ماذا حصل ؟.
مع أنني أعلم هززت رأسي كي يتابع. فقال : رأينا أبواب الهيلوكوبترات تنفتح ، و كانوا أنغوليين. صوبوا أسلحتهم نحونا و فتحوا النار. طارت الطيور في كل الفضاء. و واصلت النيران بالإطلاق. سقط عدد كبير و هرب غيرهم و ألقوا بأنفسهم في النهر. كان الجنود يحملون الرشاشات و يرمون الغاز المسيل للدموع. لم نكن نفهم ماذا يجري. و ارتفعت صيحات أكبر اللاجئين بالعمر قائلين : احتموا ! هذا فخ. من نظراتهم أدركنا أنهم يتخلون عنا ، و الزبائن الذين كانوا في نهاية الصف ليسوا من نال تمام الرضا.
تأثر عمي بحكايته و هو يرويها و تابع يقول بمشقة : آه ، نعم ، كنت من بين المحظوظين. أسرعت بالركض مثل الشيطان و عبرت المستنقع. و لم أنظر إلى الوراء و لو لمرة واحدة. و لجأت إلى كهف. و انتظرت هناك ليومين حتى سقط كل البلد بيد الرئيس الشمالي ، بفضل
أصدقائه الأنغوليين. و هكذا انتهت الحرب. و لدى العودة إلى البيت ، كانت لحيتي طويلة جدا و تلامس الأرض. و عندما أمشي كنت أظهر مثل زومبي. و فقدت كل المشاعر بالاتجاه لأنه لم يكن هناك في الأدغال شوارع أو طرقات. كل ما تراه هو الأشجار و الجبال و الأنهار و أنت ترقد في أي مكان ترى أنه يخلو من الحيوانات المفترسة...
امتعض الزبائن الموجودون في نهاية البار أكثر من قبل ، و استعدوا للمغادرة. ابتعد عمي لدقيقة ، و كأن الرعب انتابه. انتظر حتى غادر الجميع ، ثم أخذ جرعتين كبيرتين من شرابه قبل أن يقول : ها أنا أمامك ، عائدا من الأدغال. و يبدو أن البلد هادئ مجددا ، يا ولدي العزيز. و ها نحن نتابع الحياة ، نذهب إلى البارات و إلى البحر و إلى كل الأمكنة الأخرى. و بالتدريج نتناسى ما جرى لنا. و بعد خمس سنوات جرت انتخابات جديدة. و الرئيس الشمالي المدعوم من الفرنسيين و الأنغوليين خسر بجدارة . قفزنا من البهجة. فهو عمليا قد طرد خارج البلاد و ذهب ليعيش في المنفى في فرنسا. و الآن حان دور الجنوبي سولولا ، الذي سيحكمنا. و بما أنه غاضب من الفرنسيين لأنهم أيدوا الرئيس الشمالي ، منح حقوق النفط للأمريكيين. و هذا لم يقنع الفرنسيين. يوميا ، كان الفرنسيون يقابلون الرئيس الشمالي السابق ، في بيته في المنفى بباريس. و قطعوا له الوعود أنهم سيبذلون ما بمقدورهم ليعود إلى السلطة. و لم نفهم كيف يمكن لشمالي أن يكون رئيس بلادنا كرة أخرى. فقد انتشر الأمريكيون في كل زاوية. و حاولوا أن يعلمونا اللغة الإنكليزية ، و لكن هذا لم ينجح لأن الفرنسيين غرسوا فينا لكنتهم الغريبة خلال عهود الاستعمار. أخبرنا الأمريكيين أنهم أحرار بنفطنا و لكن نحن نرفض تعلم اللغة الإنكليزية. و لم يهتموا بالحالتين ، و وقعوا عقودهم مع الرئيس الجنوبي ، الذي وقعها بدوره ، دون أن يعلم أنه يبيع نفطنا الضروري للمستقبل.
في هذه الأثناء دخل خمسة أشخاص ببذات عسكرية إلى البار ، و جلسوا في الخلف. نظر عمي لهم نظرة سريعة. و خفص نبرة صوته ، لأنه يعلم لو أنه تكلم الآن بصوت مرتفع سوف ينتهي به الأمر إلى السجن. ليس بمقدور أحد أن يتناول موضوع الحرب هنا بحضور رجال الجيش.
قال لي : حاليا يجب أن نجهز لانتخابات جديدة. فقد عاد الرئيس االشمالي السابق ليمسك بزمام السلطة بدعم من الفرنسيين. و لكن رئيسنا الجنوبي يدعي أن الظروف ليست مناسبة. و يقول الرئيس الشمالي السابق إنه يجب أن تكون الظروف مناسبة ، مهما كلف الأمر. و هكذا بدأ الصراع... ألا تريد أن تشرب بيرتك؟.
رفعت كوبي و شربته. و حذا عمي حذوي و تابع يقول : أدخل الرئيس السابق معه الأسلحة إلى البلاد عبر أنغولا ، و طلب االمعونة من الأنغوليين. و قال لهم يجب التخلص من الرئيس الجنوبي إن لم ينظم انتخابات مناسبة. من يعلم كيف سينتهي الموضوع. تكهن الناس بحرب أهلية أخرى ، و لكن كنت على يقين من شيء واحد ، لن يستفيد الشعب من عائدات النفط في أية حال...
نظرت إلى نهاية البار. و نظر عمي إلى ساعته. قال : الوقت يطير بسرعة. إنها العاشرة و النصف!.
دفعنا النقود ، و أخذنا سيارة عامة كانت خارج البار. كنا نمر من شارع الاستقلال الذي يقطع منتصف لوزينغو ، و كنت أرمق أحيانا الندبة التي تغطي وجه عمي. فالتفت ليواجهني و قال : سنعود إلى ذلك البار في الغد. هل رأيت تلك العاهرتين ؟ ستحصل على إحداهما و سأحصل على الأخرى. و أنا من سيدفع فلا تقلق. أقسم أنه مر وقت طويل منذ أن لمست تنورة نسائية في لوزينغو !.
لم أرد ، كنت تقريبا نصف نائم. نعم ، سأعود في الغد إلى البار ، مع عمي...
عنوان القصة : Chez Janette . القاص : Alain Mabanckou . ترجمها عن الإنكليزية : Helen Stevenson . نشرت في الغارديان يوم يوم 21 نيسان 2011 .
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |