مغارة قاديشا قصة :
خاص ألف
2011-08-28
في الطريق ، من بشري إلى مغارة قاديشا ، سألني جاني سائق السيارة الخاصة : هل معكم ثياب قوية. الهواء في الداخل قريب من التجمد..
و أومأت له برأسي مع ابتسامة. أما بولين فلم تهتم حتى بالتفكير بمعنى سؤاله. كنا كلانا تحت وطأة الدهشة من هذه المناظر الخلابة ، و لا سيما الجبل الشاهق الذي لا يوجد فيه شبر واحد من غير تضاريس.
كانت بولين عبارة عن رفيقة طريق فقط ، و جاءت إلى هذه البلاد بغرض زيارة و بدعوة مني ، و لم تكن الظروف أول الأمر من طرفها. فقد عارض والدها الفكرة من الأساس ، و بالأخص أنه لا يعرفني بشكل جيد ، و لأنه لا يحمل تجاه المشرق أية ذكريات طيبة.
لا أعلم ما هي طبيعة البذرة الفاسدة التي تنبت في داخل عقله تجاهنا ، و بالأصح في داخل قلبه المتحامل ، و لكن أنا متأكد ليس للموضوع علاقة بالتطرف أو الدين ، إنها السياسة في هذه المرة. كان والد بولين بالأصل من الهند ، و اضطر للهجرة بعد اغتيال أنديرا غاندي ، و أجبر على التقاعد المبكر و الانسحاب من معترك مهنته و هو الجيش. و بذلك أسدل أبوابا من الفولاذ السميك على المستقبل و على ميادين طموحه الشخصي ، و بالاستطراد على الحياة في المشرق.. بأتراحها فقط ، فهو يعيش بنصف قلب . و لا تذكر ابنته ، كما قالت ، أنه ضحك أمامها و لو لمرة واحدة.
و عندما سألت بولين كيف استطاعت إقناعه في النهاية ، قالت بصوت حاسم : أخبرته أنني فوق الثامنة عشرة . و أنا لست عسكريا في ثكنتك يا حضرة الجنرال السابق.
**
في منتصف الطريق و لدى مرورنا بالقرب من مستودع من صفائح الألومنيوم ، هز جاني رأسه و ضرب المقود بيده ، و هنا أصابني الغم .. هل أخطأنا بعد هذه المسافة بالطريق. و لكنه قال على سبيل التوضيح : هذا المستودع كان له . و باعه من حوالي أسبوع بمائة ألف دولار. و الآن وصل سعره إلى ثلاثمائة ألف.
و مع تنهيدة أسف و إحباط أضاف : ندمت و لم يعد بوسعي تدارك ما سلف.
ثم انتبهت أنه لم يرفع عينيه عن المرآة الصغيرة التي بجواره. كان متعلقا بهذه الصفقة الخاسرة مثل عاشق متيم.
و بغرض العزاء و المؤازرة سألته : و ماذا فعلت بالمائة الف إذا..
قال إنه دفع أقساط ابنته بالجامعة. و ما تبقى سيبني به سوبر ماركت في وسط بشري.
كم أنت مسكين يا لبنان . كيف يتأتى لمثل هذه الطبيعة الساحرة أن تدخل في دورة من العنف و الفوضى ، و أن تنزلق في هاوية مزدوجة من أعباء الشرق المتخلف و الفاسد ، و أعباء الغرب النرجسي و الأناني و الذي يغرق في قوانين السوق و رعونة رأس المال.
و لم يقطع هذا الخيط من الأفكار غير صورة عملاقة لسمير جعجع أحد أمراء الحرب في لبنان. رأيتها فجأة و نحن نصعد بين هذه الشعاب. غير أن صورة زوجته التي ترافقه مسحت على رأسي بأنامل لطيفة و دافئة. في الواقع كان وجه زوجته الملائكي بملامحها الفاتنة قادرا على إسدال ستارة فوق ذكريات الحرب ، و على تقريب وجدان الإنسان من تفاصيل الطبيعة الخلابة .. الطبيعة الرمادية و المتصوفة و التي تتدفق من جميع الأطراف و كأنها بشارة للخلاص.
يا ترى هل إن بولين سوف تحمل مثل هذه الرسالة إلى والدها ، و تلعب نفس الدور المهدئ و تفتح له الدروب المغلقة مجددا.
**
لدى اقترابنا من المغارة ، أوقف جاني سيارته ، و قال إنه يتعين علينا المتابعة على الأقدام. ثم أشار بيده إلى طريق ترابي صاعد .
كان الطريق رفيعا ، و منه بوسعك أن تشاهد كل بشري ، و بما فيها بيت الكاتب المعروف جبران خليل جبران ، و كأنه نقطة من الحبر في صفحة مفتوحة ، و من ورائه كل حصرون حيث يوجد بيت السياسي المثير للجدل ميشيل عفلق. بالأحرى من سفوح هذه المرتفعات كان بوسعنا أن نشاهد خريطة مصغرة لطبيعة كل لبنان..
و عند الوصول إلى باب المغارة ، حيث تهب نسمات قارسة ، استطعت أن ألاحظ كم هي سيارة جاني صغيرة.. إنها نقطة أخرى على صفحات هذا الدفتر العجيب و الغامض . و لكن ملامح أو تفاصيل جاني ذاته كانت غائبة ، و لم أتمكن من تسجيل وجوده أو حتى تقدير مكانه على شاشة بصري...
تشرين الأول 2010
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |