فرنكـك ربع..نزعت العيد يا ضبع
خاص ألف
2011-10-30
كم يذكرني المنهج " القمرجي" للطغاة العرب في التعامل مع أنفسهم وشعوبهم بأولئك "القمرجية" الذين كانوا يتصيدون عيدياتنا في طفولتنا، مستغلين الوفرة المالية التي تتيحها لجيوبنا مناسبة العيد.
مصطلحات توضيحية للجيل الحالي:
ـ الفرنك: وحدة نقدية منقرضة، وهو يشكل 1/20 من الليرة السورية.
ـ الربع = 5 فرنكات، أي ربع ليرة.
ـ العيدية: مبلغ مالي متعدد المصادر و الاستخدامات "منها القمار" يجنيه الطفل أساساً من الأقارب و الأصدقاء لقاء قوله "كل عام و أنتم بخير" وينفقه بطرق شتى على "ملذاته التعييدية" المختلفة، وأهمها: ركوب المرجوحة و الغناء بقوة وحماس أثناء تأرجحه بها " عمي الحج أحمد..يو ..يو...إلخ"، إضافةً إلى شراء الألعاب والمأكولات المتنوعة من قبيل "البورحان ـ مسدس الفلين ـ حلويات مزينة بأسراب من الذباب ..إلخ".
كانت وما زالت ـ وأظن ستبقى ـ المهمة المركزية للعيدية إثارة المتاعب للجميع، الأهل و الطفل: شجارات ..إقياءات ..إسهالات ..حروق تحدثها الألعاب النارية ..خدوش جراء التدافع على أي شيء.... وهموم العيدية ليست من صنف محدد حتى تستطيع التعامل معه بمنهجية ثابتة، إذ إضافة للشق الجسدي هناك الشق و السق المعنوي المتمثل بخوف الأهل المعبر عنه بالقول المدثور "من أين لك هذا؟" خشية أن يكون مصدر الأموال غير شرعي أو على حساب أنفة المعيــّد. والعيدية كلما كانت كبيرة كانت إثارتها لوجع الرأس أكبر، ونحن كنا من هواة تكبيرها بلا حدود، وموسيقى "خشخشتها" في جيوبنا لا تضاهيها موسيقى، ولذلك كنا نرغب دائماً أن تكون بالعملة المعدنية، وإن حدث و أعطانا أحدهم "ورقة أو خمس ورقات" نسارع إلى صرفها وتحويلها إلى فرنكات وأرباع و نصاص..وهنا تحضرني حادثة جرت صباح العيد عندما أخذنا ـ أنا و أخي الأصغر ـ أختنا الصغيرة إلى دكان في حارتنا، وحين سألها الحانوتي " ماذا تريدين أن تشتري يا أمورة " ناولته ليرة كااااااااااملة وقالت:"بدي مصاري" يومها ضحكنا عليها ـ لأننا أوعى بلا حسادة ـ وضحك علينا جميعاً صاحب الدكان، لأنه حقق أمنيتها بشراء المصاري عبر تحويله الليرة إلى فراطة نقصت قيمتها عما يجب أن تكون عليه بمقدار /2/ فرنك نهباً ونصباً.
ربما تضحكون الآن عليّ وعلى المقلب الذي أكلناه ـ أخوتي و أنا ـ من ذلك الحانوتي، لا تضحكوا كثيراً..لأن الموقف لم يكن هكذا، فالرجل أمين ولم يسرق منا أي شيء، وقلت ذلك كي يصير للموقف "زوم ومرقة وبهارات"، وسأسترد في التو و اللحظة ضحكاتكم تلك بالعودة للحديث عن الحكام العرب...اضحكوا بعد الآن ..لشوف...
نفسياً؛ أعتقد أن الطغاة العرب توقف نموهم النفسي عند هذه المرحلة، أي: مرحلة السعي لتكبير العيدية، مع تحول هذا السعي من هواية إلى مهنة لها أصولها وقواعدها، إضافةً إلى تحول سبل إنفاق ما " تخشخش " به أرصدتهم الدولارية و اليوروية و الذهبية و العقارية و الموبايلية و البرغلية و البقدونسية..
وهذه "الهواية" إن كان أهلنا قد شذبوها أثناء نمونا العقلي و الجسدي و النفسي بما تيسر لهم من معاول التربية؛ فإن القطاع الأهلي لهؤلاء الحكام ربما لم يفعل ذلك، بل قام بالعكس، أي: ترسيخ وتكريس وتثبيت هذه الهواية، و إلا ما معنى أننا بعد أن كبرنا، وبعد كل موجات التضخم وانخفاض قيمة العملة المتلاحقة، توقفنا عن جمع "العيديات" و وصلنا حد العجز عن إعطاء أبنائنا ذات الفرنك الذي كنا نأخذه من آبائنا، بينما "هم" حولوا مسدسات البلاستيك إلى مسدسات حقيقية و استعاضوا عن المراجيح بالطائرات واستبدلوا مفرقعات الطفولة بمفرقعات "البطولة" ؟؟
كان وكر "القمرجية" المركزي بمحاذاة سينما البلدة الوحيدة، التي تحولت من سينما جادة يرتادها النظارة عائلات عائلات في الستينيات إلى منبع للثقافة التشبيحية، لا تعرض إلا أفلام " الهشك بشك..وتعلم كيف تحشك" و ما ورائيات "بروسلي وجاكي شان"، وسائر لامعقوليات "الكونغ فو".
هذا على صعيد التحول الثقافي السينمائي، أما بالنسبة للتحول الجغرافي السينمائي؛ فقد أصبحت السينما ومحيطها الحيوي ملجأً آمناً لشريحةٍ اجتماعيةٍ مهمشةٍ اسمها " الشقلعية" وهم لفيف من الأيتام و مدمني الهروب من المدارس و المتوارين لأسباب تدخينية عن عيون أهاليهم...إلخ. وفي العيد، تتحول إلى أكبر مغناطيس في البلدة لجذب " العيدية " من جيوب الأطفال، سواء عبر ممارسة التجارة الداخلية "أفلام الكونغ فو" أو من خلال ممارسة التجارة الخارجية " بسطات " طبعاً إضافةً إلى تقديم خدمة (كبــر عيديتك) التي يقدمها عتاة الشقلعية بندائهم السحري: "فرنكـك ربع".
عالم السينما " هذه " يشبه عالم البحار، الغلبة فيه للقوي، وقيمتك هي عيديتك، ولعبة "فرنكـك ربع" مبدأها بسيط، تقوم على تحول الفرنك إلى خمس فرنكات "ربع ليرة" إن وافق شنٌّ طبقه، أي: إن أكرم عليك السيد حظ سعيد وتوافق الرقم الذي يستقر عليه نرد "المعلم" مع الرقم الذي وضعت عليه الفرنك من بين عدة أوراق لعب "شدة" مرصوفة بتسلسل (من " الأص" و حتى " الستاوية").
العلاقة بين الخمسة و الستة هنا تشبه العلاقة بين الحواس الخمس و الحاسة السادسة، فهذه الحاسة وبرغم تميزها النوعي عن سابقاتها الخمس؛ لا سبيل إلى وجودها أو التحقق منها أوتصديق ما تفصح عنه إلا عبر اعتراف شقيقاتها الخمس بها وباستنتاجاتها، وهكذا، أن يصير معك بقلبة نرد ستة فرنكات (فرنك الرهان مضافاً إليه المربح) لا يمكن أن يحدث بدون أن يقرر "المعلم" منحك إياها، وعدم استخدام عضلاته كي يمتنع عن إعطائك "حقك" الذي شرعته لك قواعد المقامرة، وذلك برغم أن جيوبه زاخرة بالمال، فقد كانت تتراكم الثروة لديه فرنك فرنك، و ليرة ورا ليرة ليرة ورا ليرة (أتحدى بسام أبو عبد الله أن يقول الجملة الأخيرة كما يجب!!)
وعلى الرغم من الحظر الأبوي، كنت أذهب إلى ذلك الوكر بين العيدية و الأخرى، وذات مرة كففت عن الوقوف مكتوف القدمين أمام بسطة " فرنكــك ربع "، لأن "المعلم" رفض أن يدفع مبلغ خمس ليرات بكامل جلالها وقدرها لأحد المراهنين بمبلغ ليرة كااااااااااااملة، إذ لم يتحمل عقله هكذا خسارة، فقرر أن "يقلب الطاولة" و يختلق مشاجرةً مهمتها تضييع الطاسة أو "القضية".
حدثت المشاجرة، وفي معمعتها قمت بوضع قدمي اليسرى أمامه، فوقع، و تناثرت من جيبه الفرنكات و الأرباع و النصاص و الليرات ـ ورقية وحجرية ـ ما جعل رهط المراهنين يبادر إلى إجراء اللازم، فالتقط كل منهم ما تيسر له من ثروات "المعلم" المشطوح أرضاً و الهرب باتجاه أول مرجوحة.
القمرجي قصير نظر، مقامرته مصدر ثروته ومكابرته مقتله..ومقتلها، فلو دفع تلك الليرات الخمس التي خسرها ولم يلجأ إلى البلطجة والتشبيح؛ ما خسر خمساتٍ وخمسات، و ما صرف الأولاد "نقوده" على الأراجيح، التي كان سرورهم حين ركوبها بأموالهم المستعادة أكبر من أي مرةٍ سابقةٍ ركبوها، حسبما رأيت.
حسان محمد محمود
08-أيار-2021
05-أيلول-2020 | |
23-أيار-2020 | |
04-نيسان-2020 | |
21-أيلول-2019 | |
هكذا تكلم أبو طشت ـ الجزء 5 كورنيش الشمس لدعم النقد الأجنبي. |
14-أيلول-2019 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |