رحلة صيد / قصة
خاص ألف
2011-11-30
خرجت الأسرة كلها في موكب واحد للصيد.
قال الجيران للأب سيف : سوف تجد في الضاحية قـ .. صنفا من الحيوانات و الطيور لا تخطر على بال.
سأله سيف و هو يحمّي يديه : في مثل هذا الطقس البارد ؟.
كانت السماء في الواقع ملبدة بالغيوم ، أما الأرض فقد تلونت باللون الأبيض. لن نقول إنه الثلج. بل هو جليد ثخين. أبيض سمني ، حين نعكس عليه بقايا أشعة في السماء يبدو حليبيا أو رماديا باهتا كأنه طبقة من الملح.
قال جاره ، اسمه ذو الرأس الكبيرة ، لأن شعره منفوش دائما و يزيد من حجم الرأس للعين المجردة : حيوانات لكل المواسم يا سيف. لكل المواسم.
لم تكن الضاحية قـ .. بعيدة عن البيت ، لذلك لم تأخذ الاستعدادات فترة طويلة. استدعى سيف إلى غرفته أفراد الأسرة. الأم دونا أو السيدة، الولد الأكبر دون كيشوت ، و الأخ بالتبني تشارلز ديكنز ، و هو لقب لا يعرف من أين لحق به ، و كان كيشوت يفضل أن يسميه الولد البني لأنه لا يتخلى عن بذة بنية مخططة في جميع الأحوال ، و فوق هؤلاء جميعا الجد أو المحترم ، كبير العائلة الذي مات منذ حوالي عقد من الزمان، عشر سنوات ، لم تغب فيه روحه الشاردة عن البيت. و كان في أغلب الأحيان يقضي الوقت نائما في إحدى الزوايا المضاءة ، ينتقيها مغسولة بشلال من نور الكهرباء أو ضوء النهار الطبيعي، لأن جسده كان يفتقد لمثل هذه النعمة الثمينة في ظلمات القبر.
قال الأب سيف بلهجة قاطعة مثل حد السيف : غدا سوف نذهب في رحلة للصيد.
و لم يرد عليه أحد. لم يعتد أحد من الموجودين ، في الواقع ، أن يعترض على قرارات سيف. و اكتفوا بالنظر بوجوم في وجوه بعضهم. كانوا كمن ينظر إلى ذاته الصغيرة في مرآة صادقة. إذ لم يروا غير وجوم أخرس.
منذ شعاع الصباح الأول ، استقل أفراد العائلة عربة كارو مصفحة جوانبها بالصفيح المثقب و المزركش برسوم هندسية خضراء. استلم دون كيشوت زمام القيادة ، و بدأ يسوط الدابة بسوط خاص مجدول من أمعاء ثور بوفالو أصيل ، وكانت معه بارودة صيد حديثة ، تلمع من فوهتها حتى الأخمص الحديدي ، و معبأة بخرطوش نصف قطر قوسه يزيد على متر واحد و جلس إلى جانبه الأب سيف. و لم تكن بحوزته غير أداة حادة من الفولاذ المسنون للإجهاز على حيوانات جريحة غير ميتة من باب الرحمة، و تقليص فترة العذاب. كان لدى سيف أرق قلب في المدينة كلها. لم يعرف أحد امرءا أكثر رومنسية أو محبة للطبيعة من الأب الصارم سيف.
و احتل المؤخرة البقية و عدة الصيد. الأفخاخ و الديناميت و الذخيرة و لوازم الطعام، باستثناء الأم التي لم تغادر البيت. كان عليها في الحقيقة أن تجهز الصالة و المطبخ لما بعد الرحلة . و لم يكن هذا بحد ذاته عبئا خفيفا ، في الواقع لم تترك الأم البيت إلا في مناسبتين. يوم الزلزال الأول ، فقد اضطرت لذلك ، و لو لم تفعل لماتت في الداخل حتما ، ليس لأن البيت تهدم ، بل من الرعب و حينما عزلت الصحة المنطقة للتطهير ، و نقلت السكان إلى مستشفى الحميّات.
- يوم بديع . قال الأب .
و أكد على كلامه روح الجد الميت. قال بصوت أجش ، إنما له نكهة لطيفة و جذابة و آسرة : فعلا . هو يوم مشرق على غير العادة.
لم يفهم دون كيشوت و لا الآخرون مغزى تعليق الجد الميت ، فهم يعلمون عن يقين أن الأموات لا يشعرون ، و لا تستثيرهم البرودة أوالسخونة.
قال كيشوت في ذات نفسه: عجوز تنقصه روح المجاملة. و لم ينبس بكلمة أخرى ، إنما ساط الدابة و هو يدوي من بين أسنانه بالصوت المعهود : دي .. دي..
و زاد على ذلك بتلويحة أخرى بالسوط فوق الدابة ، تلويحة بهلوانية مثيرة للإعجاب حقا..
كانت جمرة الهواء باردة على كل حال. و هذا جعل أنفه أحمر ، كما لو قرصته ذبابة أو نحلة. و ذلك كان شأن أنوف الآخرين ، إلا روح الميت ، لسبب بسيط أنه من غير لون. لم يكن الجد يفهم بمتعة الألوان. و في بعض الأحيان لم يكن أحد يراه بينهم بل يسمعون أنفاسه أو يحسون بالحيز المادي الذي يحتله. لقد كان شفافا تماما.
خترقه أشعة الشمس و أبصار الآخرين من غير صعوبة. جد أعجوبة. اعتادوا عليه في وسطهم. و كان يسوؤهم أن يفتقدوه في يوم بهيج من هذا النوع.
قبيل انتصاف الطريق ، لاحظ الأب بعينه الكليلة كتلة كامدة. كان انكسار الأشعة على كساء الأرض الأبيض يؤذي بصره و يجعل الرؤية ، من مسافة ، مستحيلة. فسأل و هو يكد عينيه : ماذا يوجد هناك يا كيشوت. كومة تراب أم جذوع أشجار يابسة..
اهتز ركاب المؤخرة من الضحك ، و قهقه الجد من غير حرج. إلا أن سائق العربة ، كيشوت الحكيم بطبعه ، لم يؤثر أن يخطّئ أباه. كانت لدى سيف عزة نفس ، و لم يكن يحبذ أن يصحح له آخرون أصغر منه أقواله ، فما بالك لو أنهم سفهوها له..
وجد نفسه مضطرا إلى التلاعب بالألفاظ كيلا يكذب ، فقال : التراب في كل مكان يا والدي. و قد مررنا بآلاف من جذوع الأشجار اليابسة. إنما ما تراه تماما هو مبنى لم أعرف هويته. لك حدس قوي يا أبتي. لقد صدقت تماما.
و هكذا لم يشعر سيف بالحرج. كان ابنه كيشوت ذكيا و لماحا.
حينما أصبح الكارو بمحاذاة المبنى ، انتبه الجد أن المبنى حجري و عتيق جدا، و يحمل على قمته علامة الصليب. و هو أمر نادر في مثل هذه المناطق التي يزيد فيها عدد المساجد على ما عداه ، فقال بتحسر : أود لو أزور هذا المكان.
بعد مناقشة لم تستغرق فترة طويلة ، كانت الدابة خلالها تجر العربة بسرعة الصاروخ إلى الأمام باتجاه الضاحية قـ ..، قرر سيف أن يعودوا أدراجهم إلى الوراء. الجد يزور الأبرشية و الدير الصغير ، الآخرون ينتهزون الفرصة للحصول على وجبة أولى و خفيفة من أجل تدفئة أبدانهم في هذا البرد القارس.
شد كيشوت لجام الدابة ، و عاد أدراجه بالمركبة من غير أن تنقلب على الأرض إلى الخلف. لقد احتاج منه ذلك مهارة كبيرة. كان في كل الحالات السابقة ، إذا ما اضطر إلى الدوران نحو الخلف ، ينقلب بالعربة على طرفها ، و لا يخرج من ذلك إلا بجرح محسوس أو رضوض تحتاج إلى ضماد طبي.
هلل له الولد البني ، و رغب لو يطلق عيارا في الهواء ، غير أنه كتم فرحته . لم يكن يريد أن يبدو بشكل ولد أخرق. لا سيما أنه يعتبر في العائلة من الدرجة الثانية ، لأنه منها بالتبني و لا صلة دم له بها. كانت في عروقه دماء آدميين مختلفين عن عائلة سيف تماما. دم أزرق كما تقول الدونا أحيانا. دم أزرق.
حين أصبحت الشمس في منتصف السماء ، لم يتبق للعربة ظل يجري بجانبها. شرح سيف للمجموعة هذه الحقيقة ، و لم يبد على أحد أنه مهتم. إن انتباههم ينصب على فكرة أن الشمس أصبحت الآن دافئة. و هذا سوف يساعدهم على تخيل البهجة القادمة. تعيير الأسلحة و زرع الفخاخ و التصويب إلى الحيوانات الموجودة ، ثم الإطلاق عليها.بم. بم. من غير هوادة.
لذلك متعة خارقة. متعة فذة. لا يقدرها إلا من جربها. حتى أن رائحة البارود في الفضاء المفتوح ، في ساحات الصيد، تكون ألذ من رائحة امرأة معطرة.
أيتها السماء. ابتهل الدون كيشوت في نفسه قليلا. و أضاف : حتى نصل إلى ضحية صيد الطرائد يا أبتي ؟..
ألقى سيف نظرة إلى كبد السماء، و اصطدم وجهه بالأفق المصمت و الكامد. إلا أنه لم ير شيئا.
مع ذلك قال : في الوقت االمناسب يا والدي كيشوت. في الوقت المناسب.
و دارى وجهه إلى الناحية الأخرى . لم ير هناك شيئا أيضا. كانت البرية بنية مشوبة بالطبقة البيضاء اللماعة التي تؤذي العيون. رمش بجفنيه عدة مرات ، و قلص أنفه ، ثم انكفأ ببصره إلى مسافة أقرب ، حيث كان سوط كيشوت يلوح مثل قضاء و قدر أبكم فوق الدابة.
عند خيط النهاية ، خُيّل للمجموعة أن الطريق المعبد قد التحم فجأة بمرتفعات تحجزها عنهم أسلاك شائكة. و كانت المرتفعات تغص بأشجار دائمة الخضرة تهزأ من الطقس البارد و لا تفقد أوراقها.
هنا جر كيشوت عنان الدابة من غير إيعاز من سيف ، و زأر بنعومة مباغتة : هيش ، هيش .
اقتربت روح الجد من ركاب المقدمة ، و خيمت فوق رأسيهما . كان الآخر يحاول أن يحل لغز هذا الانقطاع أو التوقف الإجباري.
سأل سيف و قد أسقط في يده : ماذا يا كيشوت ؟.
قال كيشوت و هو يقدح زناد أفكاره : الرأي لك يا أبتي.
مع ذلك يبدو أن هذه هي الحدود. يوجد خلف الأسلاك مخفر و أعلام. عربات مصفحة و جنود غرباء.
عقب الولد البني على استحياء: لا بد أننا لم ننتبه إلى تفريعة من الطريق الرئيسية تذهب إلى ضاحية الطرائد. لقد سافرنا زهاء ثلاثة أرباع النهار ، و من غير المعقول أن يكون الصيد على هذه المسافة البعيدة..
كانت الشمس بالفعل قد بدأت بالأفول ، و عادت أطراف أنوف المجموعة تتورد احمرارا من لذعة البرد القاسي، كأن الشمس الساطعة هي التي لفحها لمدة تزيد عن لزوم التحمّل.
المرحوم ،الميت وحده ، تمسك بحبال الصمت ، كأن روحه فاضت في هذه البقعة المباركة المنبسطة. كان هناك على مد البصر ما يجذبه روحيا. و كاد أن يحلق بأنفاسه الشفافة.
أخيرا قرروا جميعا أن ينصبوا خيمة ، و يسرحوا الدابة لترعى العشب الطري الشتوي الأخضر ، و يقضوا الليلة ها هنا ، تحت سماء ملبدة بالغيوم ، قبل أن يزمعوا ماذا يفعلون في الغد.
في الغد. قال سيف. تشرق شمس يوم جديد ، و هذا يسمح لنا بالتفكير فيم نفعل. الغد غير بعيد يا أولاد.
هبط من ركن العربة الكارو ، و باشر على الفور بتنفيذ ما يقول.
• منشورة في مجموعة حضور بصيغة الغائب ، 2003 .
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |