قصة / رجوع الطائر
خاص ألف
2011-12-02
حينما أحضرته على البيت، وكان متوفزاً متوجساً رغم سكينته داخل قفصه، فقد هش له الأولاد وهللوا ، فلسوف يكون لهم أنيس جديد يلون أيامهم بالمفاجآت، وبدت الزوجة حائرة من أمري فلم تعهدني يستهويني اقتناء الطيور، بينما ساورني شعور أني ربما تورطت، في إحضار كائن غريب إلى بيتي، وعلي تحمل التبعات.
لم تمد الزوجة يدها لاستلام ما أحضرته، وقد حرت أين أضع القفص، فمددت يدي به إلى من تناوله مني من الأولاد، و لم يجدوا صعوبة في اختيار موضع مؤقت له على طاولة المطبخ. قلت لهم : ببغاء. فدهشوا وانعقدت ألسنتهم لهنيهات. قالوا إن شكله جميل و لونه حلو اصفر مزركش بالأسود، وأنه كبير الحجم أكبر من العصافير ، أما عيناه فصغيرتان مستديرتان وسوداوان لامعتان، ومنقاره ضخم ومعكوف. وكما هو متوقع حاولوا مد أصابعهم الصغيرة بين الأسلاك المعدنية الرفيعة، وقد فعلوا ذلك واكتفى الببغاء بالتململ في وقفته. وتركت لهم القفص بما فيه لتغيير ملابسي، والتفكير ب "خطة" للتعامل مع الوافد الجديد. وقد تأخرت لبعض الوقت في عودتي لأواجه بأسئلتهم : أين نضعه، ماذا نطعمه ، متى يشرب، هل ينام . ثم السؤال الأهم : هل يتكلم ؟ وقد أجبت بما تيسر: سوف نضع له حبوباً وخبزاً ثم ماء. ونرى ماذا يحدث بعدئذ . ولم أجب عن السؤال الأخير فلا جواب عندي .
لقد شعرت بعد ذلك بارتياح: فقد فعلت ما علي فعله . إذ وجدتني انشغل منذ بضع سنوات إلى جانب أمور الحياة ووقائع قتل البشر، بطائر الببغاء الذي لم أختلط به يوما، ولا كان جزءا من مرئياتي وذكرياتي، فهو لا ينتمي لهذه البلاد، إنه أجنبي.. هندي أو إفريقي أو استرالي، ومن جنسيات ليست شرق أوسطية أو عربية. غير أن اسمه يترد على الألسنة في بلادنا، وبأكثر مما ترد أسماء عصافير الدوري والبلبل والحجل والقبرة والفري والحسون، التي يعرفها كثيرون حق المعرفة، مع أن الببغاء غريب وقلما عرفه أحد عن قرب، سوى في حدائق وأسواق الطيور. ومع ذلك يتحدث عنه الكل، كأنه يسرح ويمرح مع أطفالهم، ينام ويستيقظ على شبابيك وعتبات بيوتهم، ويملأ جنبات البساتين والحقول في عموم الديار، أجل الببغاء ، الاسم الأليف الشائع لطائر قليل الوجود ، بعيد عن الأنظار .
تركت الأولاد ينشغلون به وبقفصه الخشبي المزود بأسلاك، وبالأم التي خشيت دون أن تجهر بذلك، أن يزيد وجوده غير المنتظر أعبائها المنزلية، وما أن مضى قليل من الوقت، حتى انصرف عنه الأولاد إلى التلفزيون والموبايلات وتبادل الأحاديث ما بينهم .
2
عدت إليه وأخذت أتفرس في هيئته وملامحه، كما في بداية أي تعارف بين كائنين. وبادلني التحديق في سحنتي بعينه النافذتين. إنه لا بد حزين كما تنبئ نظراته الصافية والساهمة . انحباسه في قفص لا يسره ، وكذاك وجوده بين من هم غرباء عنه .
لست من وضعه في قفص فقد جئت به اشتريته وهو على هذه الحالة. البائع امتدحه لي . قال إنه ذكر، نشيط ، ولا بد من بعض الوقت لتعليمه النطق بكلمات، والأفضل عدم مشاكسته.. قد يمرض إذا شاكسته. لم أكن أنوي مضايقته، لم اشتره لهذا الغرض. لكن البائع يشير كما يبدو إلى الصغار، الذين يتعاملون مع الطيور كأطفال أصغر منهم سناً تسهل مشاكستهم.
كان الابن الكبير ( 17 عاما) قد وضع له ماء في المكان المخصص داخل القفص. سألت أمهم عن بعض الجزر المفروم لتقديمه له، كما قرأت عن ذلك في الانترنت. تنهدت واستمهلتني لبعض الوقت وهي تحدث نفسها، بأن ظنونها قد صحت في ازدياد الأعباء عليها. أنا افرم جزرة، لا مشكلة في ذلك. قلت لها وفرمت جزرة كبيرة بعض الشئ، فقد يكون جائعا قد لا يكون تناول فطوره، والوقت تجاوز الظهر. طلبت مني أن أجعل القطع أصغر ففعلت، وحملتها له في صحن. سألتني وهي تضحك ساخرة : لماذا وضعت الجزرة في صحن؟ فسألتها بدوري: كيف أحملها إذن ؟ وعرفت من سخريتها أنها تأخذ علي، تعاملي معه كضيف من الناس وليس كطير . وفي النهاية وضعت قطع الجزر على ورقة بيضاء، وفتحت باب القفص دون أن أنظر إلى الببغاء ووضعتها قربه ، وسارعت لإغلاق الباب الصغير مخافة أن ينقر يدي، أو يحاول الهرب. لكنه تحرك ببطء نحو الجزر وبدا كأنه يشمه . ابتلع قطعة ثم أخرى وتوقف، كما يفعل ضيف حريص على إبداء التهذيب أو لعله يتذوق الجزر ببطء .وصدرت عنه أولى الأصوات . لم يكن صوتا جميلا ، بل أقرب إلى زعيق خافت ..اقترب الأطفال حين سمعوه واقترح أحدهم تسميته باسم بوبو ، ببا ، غوغو .. لم يتفقوا على اسم . تركوا الأمر لي ، لم ارغب بتسميته، فلم يولد لم تبدأ حياته اليوم كي يتم إطلاق اسم ما عليه "الآن" ، وقد يكون له اسم بالفعل، ولا يرضيه أن يتم استبداله بآخر.
3
هل يطير ؟
الطيور تطير، ولهذا سميت بهذا الاسم. غير أن طيور الدجاج والبط والنعام والإوز لا تطير، وقد يكون شبيهاً بها، وقد لا يكون. لكن اسم الببغاء متى ما ورد لا يقترن بالطيران. لا أحد يتحدث عنه طائرا يحلق : يخفق ويحوم في الفضاء، يرتحل من بلد لآخر أو يقيم في مواطنه، كسواه من الطيور. اسمه يرتبط بالبيوت والحدائق والأقفاص، لا بالسحب والفضاء والأجواء. لقد رغبت أن أتأكد إذا كان يطير، أم أنه يتقافز من حائط لآخر كالديكة، دون أن يتمكن من الارتفاع بجناحيه عاليا. لن تكون التجربة ميسورة، فقد يكون بوسعه الطيران في أرجاء البيت ، دون أن يعني ذلك تمكنه من الطيران على ارتفاعات عالية كحال الدجاج، وقد ينبئ عن قدرته الفعلية على الطيران والتحليق كبقية الطيور الطائرة.
أليست هذه مشكلة؟ سالت الأولاد ما إذا كان يطير أم لا، فأجابوا : هل جئت به لكي تطيره ؟. قلت لهم : إنه مجرد استفسار، فأجابوا : إنه يطير .. دعه في القفص .
وقد أبقيته لهم هناك، محبوساً وراء الأسلاك سواء كان يطير أم لا .
4
شيئا فشيئا بدأ فضول الأبناء يخفت نحوه، فقد أخذ يبدو لهم طائر عادياً، بلا خصوصية تميزه عن غيره من الطيور. أتحدث عن الأبناء كي لا أشير إلى نفسي، لقد بدا تعلقي به أيضا غير مبرر. كنت أقضي معه أمام قفصه بعض الأوقات كلما استبد بي الضجر، وما أكثر هذه الأوقات. حاولت ترديد بعض الأصوات أمامه ولم يسع إلى تقليدها، بل شككت أن يكون يسمعني ، وإذا سمعني أن يكون الصوت الذي يصله يروق له. أما الأولاد فلجأوا إلى أسلوب آخر أو حيلة ثانية : وضعوا بجانبه مسجلاً يبث الأغاني التي تعجبهم، طلبت منهم أن يخفضوا صوت الأغاني المسجلة، فسألوني عما يدريني أنه يرغب بالهدوء مثلي. كانوا يأخذون ميلي إلى الهدوء الذي وصفته الصغيرة ( 13 عاما) بأنه مقرف. قلت لهم اأنظروا إليه راقبوه. إنه يتنطنط مع قصف الموسيقى وكأنه يتقي خطراً. اخفضوا الصوت بعد أن ذهبوا عنه ، فبدا على مبالاة طفيفة بما يصله من أصوات وأصدر صوتا مخنوقا. لم يعجبني ولم ينفرني، وقد ارتحت لتكراره له. كنت بحاجة لسماع صوته ، لأن أراه يعبر عن " نفسه" ، إنه صوت طبيعي لطير حقيقي، ليس الصوت عذباً مموسقاً، لكني لم أعبه عليه .. فلا يفترض بالطيور جميعها أن تشدو بأصوات رقراقة عذبة . إنه صوت من مملكة أخرى يخاطب كائنات تلك المملكة، ولا يخاطب البشر أو عائلتنا . قلت ذلك لهم وتوجهت بالحديث للابن الكبير فأجابني بالقول: ما حاجتنا لطائر صوته ليس جميلاً ؟ ووافقه شقيقه وشقيقته على الاستفهام الاستنكاري، أما الأم فقد كتمت ضحكتها بشماتة ودية، فأشحت بنظري عنها. قلت لهم: لم أحضره من أجل صوته، فسألوني: من أجل ماذا إذن ؟ . ترددت وتلعثمت في الإجابة، حتى قلت: سوف تعرفون ذلك في ما بعد. متى ؟ سالت نفسي . لا أعرف سوى أني أحضرته بدافع الفضول. وهو جواب لن يرضيهم ، وسيؤدي لسوء فهم إضافي .
5
اعتدنا وجوده معنا وحلوله بينا ، اعتاد الأبناء الثلاثة وجود ككائن غريب، وضيف مشكوك بأنسه ، وإكراماً لأبيهم فهم يرتضون بالطائر كأمر واقع . و خلال ذلك بات وجوده ومتعلقاته من مسؤوليتي ، بما في ذلك تنظيف القفص .. من سينظفه سواي. لم أفكر بهذه المشكلة حين أحضرته. حرصت أن لا يراني الأبناء، حين أضم مخلفاته القليلة في مناديل ورقية، فلا يخطر ببالهم أن العصافير تترك مخلفات وراءها . لم تكن المهم شاقة لمنها ليست محببة. ولم ينقر الطائر ظهر يدي كما خشيت ، فقد اكتفى بمحالة الهرب في الأثناء عبر الفراغ الضيق الذي تتركه يدي الممدودة إلى الداخل ، فلما حلت بينه و بين الانطلاق زجرني بنظراته، وصدر عنه زعيق خافت استشعرته مؤثراً .
لم آت به كي أطيره لست محرر الطيور من أقفاصها ، فمن أنا لأنجز ذلك .ولم أحضره لأستمتع برؤيته محبوساً يتخبط ويذبل وراء القضبان ، فلست كذلك من سجاني الطيور ، ممن يتعلقون بالطيور الدرجة وضعها في أقفاص طلباً للتسلية. لم ابلغ بعد هذه السادية، فمكان هذه الكائنات اللطيفة في أرجاء الطبيعة، في الفضاءات وعلى غصون الأشجار ، بين الأعشاب وقرب الأنهار والينابيع والنوافذ ،على الأسوار العالية وفوق أسطح البنايات . مالي وللطيور! إني أقصد الببغاء وحده وهذا الطائر بالذات : برأسه الكبيرة ، المرقش والمتوسط الحجم ،والله وحده يعلم من أي بلاد أتى ،كي يستقر به المقام على شرفة بيتي في قفص خشبي بأسلاك منذ خمسة أيام . ها هو يمضي أوقاته في سكينة، وعلى شيء من الاستسلام لقدره، دون أن أعرف ما يجول في خاطره ، أو ما يتحدث به إلى " نفسه" . أما أنا فأحضرته لأتيقن من وجود الببغاء ، كطائر حي لامجازي. وما إذا كان لا يستحق سوى الهزء به ككائن غبي ، لا فضل ولا ميزة ولا خصيصة له ، سوى تقليد أصوات البشر .
اكتشفت منذ اليوم الأول أن له صوته الخاص الذي يميزه، فعارفوه لا يأتون على ذكر صوت له ، حتى افترضت قبل أن آتي به ، أنه إما أن يكون أبكم أو يشرع فقط في إصدار أصوات مقلدة . وها هو يزعق على سجيته بصوت أجمل من نعيق الغراب، وليس أسوأ من حشرجات ووعورة بعض أصوات الخلق . ليس عصفورا حتى يسقسق ويشدو ويغرد . أنه محض ببغاء ..
6
قيل لي إنه يجب التسلية كأولئك الذي يتفرجون عليه ، طلبت من الأولاد أن يلاعبوه و يداعبوه اجتهدت الصغيرة وأخذت تصفق له ، وتحجب عينيها بيديها الصغيرتين ،وتصدر أصواتاً كنباح كلب أو جعير آلة خربة. والثانية عزفت له على بيانو صغير مقلد من ألعابها القديمة . كان الببغاء يتفاقز ويزعق بأصوات تعلو وتنخفض ، والله وحده يعلم إن كانت الأصوات تدل على فرح أو تنبئ عن ذعر أو دهشة. غير أنه بعد مضي نحو أسبوعين بات يألف الصغيرة، التي أخذت تطعمه قطع جزر وتفاح. الكبير سأل مستهئزاً : هل نسقيه عصيراً مادام يحب الفواكه لهذه الدرجة ؟ أما الأم فلم يدهشها ما يحدث ، فقد كانت نفسها تحدثها بأن الببغاء متطلب وغريب الأطوار. ثم قيل لي إنه من الأفضل أن أوفر له قفصاً أكبر، فصحته النفسية والعضوية تقتضي توفير مدى أكبر من حرية الحركة له، مما يتيحه قفص بالحجم العادي لأقفاص العصافير: كلما كان القفص أكبر ، كلما كان ذلك أفضل . هكذا قالوا . هل أهيئ له قفصاً بحجم الشرفة . أن أجعل من فسحة الشرفة قفصا له ، بإحاطتها بالقضبان والأسلاك. لم يطلب الببغاء مني ذلك. غير أن الأمر بما أنه نسبي، فلن أعرف ما هو الحجم الأفضل للقفص و لا أريد تحمل عبء أضافي فلم أشتره بثمن بخس .
لقد رغبت في إرجاء تنفيذ ذلك ، إذا كان لا بد منه ، فقد كنت أنتظر حسم مسألة نطقه بأصوات بشرية مقلدة ، وهو ما نسيه أو تناساه الأولاد .
7
عدت لبائع الطيور بعد مضي أسبوع . قلت له الببغاء لم يتكلم . فضحك قائلا : هل تريده أن يتكلم في سبعة أيام .. هل هو مثل سيدنا عيسى كي ينطق في المهد ؟. قال ذلك و هو يتلفت حوله ويجتذب إعجاب أشخاص فضوليين متواجدين في المحل. أما أنا فقد أعجبتني ملاحظته والتي كان يبدو مستعداً للنطق حتى قبل أن أصله. وقبل أن يختم ضحكته قال: بني آدم يحتاج سنتين كي يتكلم، وهناك من تمضي عليه ثلاث سنوات بلا كلام .
سألته إذا كنت سأنتظر مثل هذه الفترة ، حتى أسمع الببغاء يتكلم ، فأجاب : لا .عليك أن تنتظر ثلاثة أشهر ، ربما أربعة ، شيء من هذا القبيل.
هكذا إذن لا مجال للاستعجال ولا فائدة منه ، ولما شكرته على المعلومات رغم أنها بدت ضرباً من ضروب المماطلة ، سألني إذا كنت أرغب في شراء ببغاء أنثى ، فهذا الطائر يحب العشرة كما قال . قلت على سبيل التخلص : بعدين (في ما بعد).
عدت إلى البيت بغير شعور بانقباض أو مسرة ، وقال شخص سياسي في داخلي ، إن شعوباً بحالها تمر عليها عقود من الزمن ولا تنطق ، وسخرت من نفسي فلا وجه للمقارنة بين هذا وذاك.
8
في تلك الفترة من العام 2005 ظهر مرض إنفلونزا الطيور ، وبدأت حملة عشواء على الطيور، وبات الببغاء خاصتي هدفاً لنقمة المعارف والزوار وبالطبع الجيران ،بعدما كانوا "يحسدوني" عليه . وهناك من هدد برفع شكوى إذا لم أسارع بالتخلص منه ، والمقصود قتله. وقد صمدت بصعوبة بالغة ، وأسعفني في ذلك أن الجيران وكذلك أفراد عائلتي ، لم يتوقفوا عن تناول الدجاج ( لارتفاع أسعار اللحوم الحمراء ) فهل يتركز الخطر في ببغائي المسكين؟.
لم يتغير الكثير عليه ، جعلت أرتدي من باب الاحتياط قفازات لدى إدخال الطعام والماء إليه ، ثم استخدمتك كمامة مثل الأطباء . لو كان مصاباً لظهر الإعياء عليه ، كما رأينا في أسراب الدجاج المصاب على شاشة التلفزيون . الأولاد ابتعدوا عنه ، والزوجة تصح أمام نفسها مخاوفها منه مرة بعد أخرى . بات المنكود يعيش في جو عدائي ، وقد نقلته من الشرفة بعيداً عن أعين المارة ، إلى ركن في الصالون فحرم من الضوء والهواء الوافرين هناك . على إني شفقة عليه كنت أقوم بتهريبه بين وقت وآخر في قفصه إلى الشرفة ، إلى أرضيتها المبلطة المحجوبة عن الأنظار مما كان ينعشه لبعض الوقت ، ولحسن الحظ فإن القطط لا تزور شقتنا ، فالزوجة تمنع منعاً باتاً تسللها إلى بيتنا ، مما يضمن عدم تعرضه لخطرها.
حين زرت محل بائع الطيور من باب الاستكشاف ، وجدته مغلقاً بأمر السلطات كإجراء احترازي .أين سيذهب البائع بحيويته الطلقة وخبراته الفائضة ، وبلسانه الذرب عن طيوره الفريدة وأسعاره المنافسة . حديقة الطيور أغلقت أبوابها أيضاً ، وليس معلوماً ما حل بساكنيها من طيور أجنبية ، أصبحت هذه الكائنات الضعيفة المسالمة ، لا الوحوش الكواسر من بشر وحيوانات ، في منزلة العدو الذي يتجند الجميع لمواجهته.
الببغاء الذي رغبت في التعرف إليه ومخالطته ، كطير حقيقي يتجلب الريش ، بما في ذلك الريش المنتصب على قمة رأسه مثل تاج الهدهد ، وله منقار وجناحين وبطن ساخنة وعنق لينة وقائمتين غير ناحلتين ومخالب معقوفة ، لا ككائن مجازي يتكلم ، ويجري تشبيه البشر الأغبياء فيه ، ها هو يعود رغماً عني إلى رمزيته : بات هذه المرة عدواً للبشر ومصدر خطر عليهم ..عدو لأسرتي وجيراني والزوار . وفقد إلى ذلك خصوصيته ، غدا مجرد طير لا يميزه شيء عن آلاف الطيور المؤهلة للإصابة بالمرض . رفضت تصديق ذلك ، وهمسوا قائلين إن غرابة أطواري قد تؤذي غيري ، وإني يجب أن أتخفف من أنانيتي.
9
انشغلت بعدئذ بالسعي لحمايته وإنقاذه من الهلاك، فقد عرفت أن مسألة الإنفلونزا جدية ، أياً كان من تسبب بها : البشر أم الطبيعة . وكان يطمئني أني أحضرته قبل ظهور المرض ، ولا يعقل أن يصاب وهو بيننا ، وقد أدى ذلك إلى وقف مخالطة بعض الجيران لنا ، وانقطاع أصدقاء لأبنائي عن زيارتنا . ولم أعد املك شجاعة سؤال أحد عن أفضل الوسائل للعناية به ، فالسؤال يثير شبهة اقتناء ممنوعات ، ولم تعد هناك وصفات لحماية الطيور وتطبيبها من أي مرض . الوسيلة الفضلى كما تجمع الصحف والتلفزيونات ، هي التخلص من الطيور المنزلية جميعها أي القضاء عليها ، بعير تخصيص أو تردد أو تأخير . وكنت أرتكب مخالفة كما أفصحت زوجتي بالاحتفاظ به، وقد فاتحتني أنها لا تستبعد أن يشي ابن أو بنت حلال بي ، وحينئذ سأفتح الباب المشاكل على نفسي .
لم يكن الببغاء الصامت على علم بما يدور حوله ، بعد ثلاثة أسابيع من حلوله بيننا . وكان الأمر يتطلب وقوع معجزة ، كي يتحول إلى ضيف مرغوب به في أنظار مضيفيه، على أن الذي حدث هو بدء وقوعه في الهزال ، رغم التغذي الذي ظل يحظى بها ، وقد عللت ذلك بإقامته التعسة كقطعة أثاث مهملة ، في غرفة الصالون المسدلة الستائر وشبه المعتمة ، مخافة أن يؤذي الهباء وضوء الشمس قماش ولون الكنبات.
خارج البيت لم تكن الأيام بهيجة مؤنسة ، كان يتم حصد أرواح في فلسطين والعراق ودارفور عشوائياً وبنشاط مسعور ، دون أن يوقف أحد القتلة هنا وهناك ،بينما يتجند الناس والسلطات لمطاردة الطيور وقتلها . فكرت بأن الطيور سوف تعقد العزم ذات يوم ، وتستحضر أرواحاً شريرة كامنة فيه ، أو تستعيد تلك الأرواح من أسلاف لها ،و تنتقم منا ذات يوم شر انتقام ، أين منه هجمتها المشهودة في فيلم هيتشكوك الساحر . الببغاء الذي لم أعقد صداقة معه بعد ، قد يكون أحد تلك الطيور المنتقمة ، لكنه يحتاج إلى الحظ كي يمتد به العمر أولاً.
10
لقد لاحظوا في البيت قلقي عليه ، وهو ما أثار قلقهم علي.
رأوا في انشغالي به مبالغة شديدة ، فماد دام يكدرني قتل البشر ، فلماذا أنشغل بطائر الله يعلم أهو مريض أم سليم . قالوا بألسنة مختلفة هناك ما يستحق الاهتمام به غير الببغاء المحترم: أن أتوقف عن التدخين ، شراء غسالة جديدة وإصلاح الثلاجة القديمة ، شراء كمبيوتر للأولاد وهاتف كاشف للأرقام المتصلة ، تدبير رحلة عائلية خارج البلاد أو خارج العاصمة على الأقل ، تبديل بلاطة المطبخ المكسورة ، زيارة عائلات صديقة لم تعد تزورنا ، إصلاح سيفون الحمام ، التعاقد مع مزارع لمرة في الشهر للعناية بالحديقة الخلفية المهملة ، القيام بفحوصات طبية وأن أكف عن النوم في ساعات النهار ، التقليل من سماع أخبار التلفزيون ، ومن إحضار الكتب لم بعد لها متسع في البيت.
مطالب محقة لم يعترض عليه البغاء الوافد ، الذي لا يوافق ولا يعترض على شيء، والذي يهيم في كونه الخاص داخل قفص
11
كنت ألحظ وحدي ذبوله يوماً عن يوم ، مع خفوت في حركته وانقطاع تدريجي لزعيقه، فيما لاحظت أسرتي الصغيرة أن صحتي في تلك الأثناء أخذت تتراجع . استغربت هذا التزامن . مع أني لم أفاجأ بما اعتبروه شحوباً في وجهي ، وضعفاً في شهيتي على تناول الطعام ، فقد اعتدت هذه التقلبات في أحوالي الصحية ، حتى قبل أن أحيل نفسي إلى التقاعد منذ عام . أما ما حل بالببغاء فقد فاجئني . ندمت على عدم إحضار ببغاء أنثى له تؤنسه وتشد أزره. إنه يكاد يعيش في وحدة مطبقة . بل إنه في حكم المنبوذ . فلماذا أوقعت عليه تلك العقوبة ، بأي حق ؟.
كان يجب أن لا أشتريه ، لو لم أفعل لكان يواجه مصيره بأريحية مع حشد الطيور الأخرى ، وتحت رعاية البائع الخبير ، ولما كانت حاله أسوأ . كان يتعين أن أدرك مغزى ترددي في شرائه ، وأن أصغي لنداء الرفض في داخلي فقد أمضيت حياتي كلها ولم أقتن طائراً في قفص ، ودون أن يرق لي حبس الطيور في أقفاص ، وكنت في ذلك منسجماً مع هذه الحساسية لدي. فما الذي حدا بي لاقتراف لتلك الفعلة.
الابن الكبير فاتحني بأنه لا بد من التخلص من طائر الشؤم ، فلا أحد يأتي بالمشاكل إلى بيته كما قال. ولما سألته كيف نتخلص منه ؟ قال بثقة مفعمة باعتداد المراهقين : أترك هذه المسالة لي . ولأول مرة اكتشف جانباً شريراً في شخصيته. كان يجب أن أسأله : لماذا نتخلص منه ، بدلاً من : كيف نفعل ذلك ؟ . ويبدو أني استسلمت للفكرة الشريرة . قلت له وقد استيقظت في روح التحدي : دعك منه واهتم بدروسك وشؤونك . لكن نبرتي لم تكن حازمة بل بدت غير مقنعة ، فقد حدجني بنظرة غريبة قبل أن ينصرف عني . وقد فهمت أنه ينطق بلسان شقيقته وأمه ، باسم الإجماع العائلي.
حدث ذلك عصر يوم خريفي بارد من أيام تلك السنة ، كنت أستشعر البرد ، فجاء حديثه معي ليصبني بما يشبه " قشعريرة نفسية" ، وقد تحولت إلى الطائر فوجدته ذاهلاً ، وأعددت له
طعاماً وغيرت له الماء وحاولت التصفير له، وقد نجحت في ذلك مرتين أو ثلاث بين نحو عشرين محاولة ، فجاء رد فعله بالانكماش داخل ريشه، وقد لاحظت أن بعض الريش تساقط منه على أرضية القفص . إذا لم تكن أيها لطائر الغريب قادراً على التواصل معي أو غير راغب فيه ، فماذا أنت فاعل مع من يتربصون بك ويناصبوك العداء من القطط والأفاعي والبشر ؟.
فكرت بنقله إلى الشرفة ، ثم انتبهت إلى أن المساء يتقدم وظلال الغروب تمتد وتشتد ، ولن ينفعه كما قدرت حلول الظلام عليه هناك ، فما الفرق بين ظلام الغرفة وعتمة الشرفة . وأخيراً قررت وضعه على أرضية الشرفة مع إضاءة النور . ورغبت من جهتي في العتمة .. عتمة النوم، ورغم ما تذكرته حول عدم حكمة أن يعرض النائم نفسه ، لحول الليل عليه وهو في قيلولته ، إلا أن ذلك لم يثنني عن الذهاب إلى الفراش ، فالنوم كما خبرته حاجة نفسية وعصبية ، لا عضوية فقط . وكنت أحتاجه حينئذ . لم يطل الوقت حتى غفوت ، إذ أجد النوم أيسر منالاً في ساعات النهار ، منه في ساعات الليل . رأيت ابني يحز عنق الببغاء بسكين المطبخ ثم يأخذ في الولولة بعدئذ ، بعد أن فشل في إكمال ما انتوى عليه ، فيما الطائر يتخبط بتثاقل في دم قليل. ورأيت شخصاً لا أعرفه ويدعي معرفة بي ، يضع الببغاء في قبضة يده المخفية وذراعه مرسلة إلى الأسفل ويخنقه ببطء ، فيما هو يتحدث معي بنبرات مؤثرة ، عن ارتفاع الأسعار وانحدار الأخلاق . ورأيت القفص يتحرك من مكانه بقوة خفية من الببغاء ، ويتقدم من الأولاد ويطاردهم خاصة الابن الكبير ويثير ذعرهم ، ووجدت المشهد مضحكاً . ورأيت خطيباً لا يُفهم من كلامه شيء، يقهقه بين آونة وأخرى ، وينعت غريماً له في المناظرة التلفزيونية بالببغائية ، بينما الببغاء إلى جانبي على المقعد يتنهد ، أجل يتنهد ويتفادى النظر إلي / ويهز ريش رأسه المنتصب يمنة ويسرة ، إمارة على الأسف واستسخاف ما يسمع.
رأيت هذا الفيض من الرؤى ، وفوجئت بخصوبة إنتاج الأحلام ، وكنت أقول في تلك الأثناء في منامي أن هناك مبالغة في ما أرى ، وعلى الأغلب أنه شريط سينمائي أو أضغاث أحلام ، فلا يعقل أن يكون الحال سيئاً إلى هذه الدرجة ، ويكفي أن أبادر للتدخل حتى تنصلح الأمور وتعود إلى طبيعتها. لكني أفاجأ بنفسي تتثاقل عن التدخل في كل مرة ، وأعزوا عدم تدخلي لكوني نائماً ، فالنائم على قول صديق نابه لا يتحمل مسؤولية عن نفسه ، فكيف عن سواه.
كان نوماً مرهقاً ، ومع ذلك لم أشأ المسارعة إلى النهوض حين صحوت. الصمت الشامل في البيت شجعني على الاسترخاء ، فقد خرجوا كما يبدو في أثناء نومي كما في مرات عديدة سابقة ، ومعهم الحق فقلما أدعوهم لنخرج سوية .استرجعت الأحلام الساخنة ( الطازجة) بسرعة قبل أن تتبدد ، معقباً إن منامتي تتواطاً ضدي هذه الأيام ، وأردفت أن لا مشكلة في ذلك، فقد سبق أن عانيت مثلها ولم تلبث أن مضت في سلام ، ولم ينجم عنها شيء مقلق.
كنت وحدي والببغاء في البيت ، وثالثناً الليل . هذا إذا ما زال على قيد الحياة . أنهضني هذا الهاجس من فراشي الدافئ .أضأت النور وحدقن في شاشة الموبايل فإذا هي تعدت الثامنة ، توجهت إلى الشرفة التي لم يطفئوا نورها بقلق وحذر شديدين . وجدنه نائماً في قفصه . أيكون نام مثلي خلال الساعات الثلاث التي مضت ، أم أن عارضاً قد أصابه . على أنه سرعان ما نفض رأسه ، ثم تنطنط برشاقة ، لقد أراد تفنيد ما رأيته من أحلام سوداوية كما يبدو ، وصفرت له بنجاح مرتين وثلاث ، واستذكرت أنه مضى وقت طويل جداً ، دون أن أعمد إلى التصفير قبل انضمام الببغاء إلينا . ولاحظت أني أجد صعوبة في ذلك لمتاعب ملحوظة في الرئتين .
رغبت أن أعقد صلحاً بينه وبين ابني ما أن يحضر ( قد يرفض الببغاء العرض ويزداد الوضع سوءاً ، فثمة مشكلات تأتي من حيث لا يحتسب المرء) . وبهذا فكرت أن الببغاء دون أن يقصد تسبب بانشقاق في العائلة ، كما يحدث كثيراً مع دخول شخص غريب إلى البيت ، وهو ما تحسبت منه في البداية ، وما لاحظته في عيون الزوجة والابنتين والابن ما إن عادوا ، واكتشفوا أن كبير البيت يمعن في قضاء وقته مع طائر ، قالوا إن وجهي يزداد شحوباً وقالت الابنة الوسطى التي تتخذ موقفاً محايداً مما يحدث في البيت أنها قرأت في الانترنت ، أن كثيراً من أنواع الببغاء لا تتكلم ، وأن طائرنا لا بد أن يكون أحدها . فيما قالت الصغيرة بنبرة يختلط فيها العتب بالتحذير : إنهم اكتشفوا ثلاث إصابات بشرية بإنفلونزا الطيور ، وفغرت أمهم فمها ، أما الابن فقد اكتفى بزجر الطائر بنظرات شزراء ، قبل أن ينصرف إلى الداخل ، مما جعلني استبعد مشروع الصلح الفوري بينه وبين الطائر
12
لم أنم في تنلك الليلة، خشيت أن ينفذ ابني تهديده ويلحق بالطائر شر مستطير ، وتهتز العلاقة بيني وبين ابني الوحيد ولا وتعود قابلة للإصلاح . حملت الطائر في قفصه ووضعته إلى جواري ، وأنا أمضي الوقت المستقطع في متابعة الأخبار الأليمة على التلفزيون ، وبعدما تأكدت أن الجميع ناموا : كان يصغي مثلي بانتباه . ثم أعدته إلى الشرفة بعد إضاءتها، كي أنصرف إلى قراءة كتاب. ولم ألبث أن أعدته إلى غرفة الصالون ، فقد كان الطقس على الشرفة بارداً في ليل عمان أواسط نوفمبر تشرين الثاني . أبقيت الغرفة على عتمتها لتمكينه من النوم ، إذا كان يضع النوم في برنامجه., وساورني تلك الليلة شعور من يتأهب للسفر ، للانعتاق ، للذهاب في مجهول مثير ، للطيران ، ولم أكن اعتزم السفر لأي مكان رغم رغتي فيه، فقد بات السفر مكلفاً ، مكتفياً بذلك السفر الدائم والبائس الذي يسميه أدباء " سفراً داخليا" . انبعث فجأة صوت قطة في الجوار ، تموء بصوت ملحاح ممطوط مجروح ويكاد يشبه صوتاً بشرياً ، استشعرت أني مقصود بالنداء ، على الأقل لأني ساهر في تلك الأثناء . رق لها قلبي وتساءلت بحرقة : من .. من المسؤول ؟ كنت أعرف أني لو أشقت عليها وأحضرتها إلى البيت ، فلسوف ترتفع معنوياتها على التو ، يتحسن مزاجها وتتغير خططها ، ما أن تشم رائحة الببغاء وتتبع مصدر الرائحة . لم أمنحها هذه الفرصة . آثرت لها أن تواصل مواءها الجريح لصق الجدران ، وتتدبر أمرها مع ما تشكو منه ، وأن يبقى الببغاء لابثاً في غموض حاله بعيداً عن متناولها . هناك حاجة ثابتة للفصل بين الكائنات ، كي لا تنتفض في أول فرص سانحة على بعضها بعضاً .
لم أنجح في الاستغراق بقراءة قصص الكتاب بسبب تشتت ذهني ، ولإصابتي ببوادر نزلة برد ، ولحاجتي لاتخاذ قرار بشأنه . أجل هذا ما كنت أحتاجه بشدة ، استشعرت رغبة غير مفهومة أن أكون قريباً منه ، وبعيداً عنه . أن أمتكه حتى النهاية وأن " أتخلص " منه في الوقت ذاته، ولم أستطع تفسير هذه الرغبة والعثور على طريقة صالحة لتنفيذها، على أني قررت البقاء مستيقظاً حتى طلوع الشمس ، ولم يكن قراراً صعب التنفيذ ، فطالما سهرت أناوش شياطيني وملائكتي حتى الصباح بغير عناء يذكر .
لقد اشتريته – يا لقسوة التعبير – في الوقت الخطأ ، لا شك في ذلك . ورغم كل أوهامي ومزاعمي فقد تعاملت معه كشيء طريف وجذاب ، لا ككائن حي مفعم بالخصوصية ، وبما لا أعرف من رغبات وغرائز، وقد تشفع أو لا تشفع لي قلة خبرتي وضعف حيلتي . لم أخالط حيوانات أليفة ولا طيوراً من قبل ، فقد عشت سحابة عمري في مدينة ، لا في ريف ولا في بادية ، وحيث هذه الكائنات مطرودة شر طردة من مدينة الإسفلت والحجارة والمركبات والموظفين والشرطة والتجار ، إلا من رحم ربي منها . الأوقات القليلة التي أمضيتها في القرية ، في إجازات المدرسة الصيفية أورثتني قطيعة منها ، وعززت جهلي بدل أن تضع حداً له .أفزعني هناك نباح الكلاب المدوي والقريب في صمت الليالي الحالكة ، وأدمتني لسعات وافرة من الدبابير في ضحى الشمس ، تخبطت وتزحلقت في روث الأبقار الطري في ساعات الفجر ، وتشممت في سائر الأوقات الروائح العنيفة لحظائر الأغنام ، وسمعت فتية يباهون أنهم التصقوا بالأتان ( أنثى الحمار) من الخلف .وهالني في طفولتي ما يسيل على الدوام وبلا انقطاع من كل أنف عنزة سمراء ، مما اشتق منه على ما قال قائل اسم انفلونزا ، وراقبت أشتات الدجاج ينعف التراب ، ينكش بغفلة تامة الفضلات سحابة النهارات ، فيما الديكة الزاهية الألوان تطاردها بعنفوان وتزاحمها ، فلم التقط خيوط الوشيجة الباطنية الودية ، التي تجمع البشر بتلك الكائنات الشقيقة ، فكيف ببغاء لم أسمع أن أحداً من أترابي خالطه أو صادفه يوماً.
كنت أفكر بما سبق وبسواه فيما أطوي ساعات الليل طياً ، وأسمع بين حين وآخر وجيب قلبي ، ربما من إعياء أو لعارض صحي . تفقدته غير مرة ووجدته دائما بين يقظة ونوم ، كطفل أصابه أرق عاطفي . وضعت له مزيداً من ورق الخس وقطع التفاح ، وغيرت له الماء وأبقيت الضوء مشتعلاً ، ومدفوعاً بشعور غامض بالذنب لم أرتد قفازات ولا استخدمت كمامة على الأنف والفم. ولم يبدر عنه مقابل هذا الاهتمام سوى أنه تململ وغير موضعه ببطء على العارضة.
عدت إلى كتبي وفكرت أن الوقت يمضي ولم أتخذ بعد القرار . وبدا ما يحدث وكأنه يقع لشخص آخر وليس لي : شخص تلبسني ويستحوذ عليه ببغاء . لعل الأمر ليس حقيقياً تماماً ، مع أني لم أقع في الشبكة العنكبوتية (انترنت) وعالمها الافتراضي تلك الليلة . لم أرغب وعلى غير العادة الإبحار في ذلك العالم . على أن هذه التخيلات بدت من قبيل التهرب والأعذار.
مضى شهران على اقتنائي له ، ولم أعقد معه صداقة موثوقة . ظل بعيداً عني يتقبلني مرة وينكرني مرات ، يأتلف مع الصغيرة ولا يلبث أن يختلف معها. عصياً على التكيف إلا في أدنى الحدود ، هذا إذا كنت أتحت له ظروفاً مناسبة للتكيف . وغافلاً عن تهديدات تحيط به ، ساورني اعتقاد أنه عرضة للهلاك فيي أية لحظة ، وأني أتحمل نصيبي مما يلم به . ولم استبعد إصابته بالمرض وقد حمل " بذوره" قبل أن أحضره ، وكنت بحاجة لاستشفاف الخيوط الأولى للفجر كي أكف عن التباطؤ ، وأفكر على نور ، بجدية ومسوؤلية تليق بالنهار الواقعي وسطوة اشتراطاته.
13
لم يتأخر الفجر عن موعده ، فوجدتني أنهض متجهاً لخلع بيجامة النوم وارتداء ملابسي . لحسن الحظ لم تستيقظ زوجتي على حركتي الوئيدة المحسوبة ، وهي التي في العادة يوقظها أي همس أو نأمة في البيت.
كثيراً ما ينشغل المرء بالتفكير والتركيز ، في أمر بعينه في مشكلة ما ، دون أن ينتبه صاحبه لما يحدث . هناك طبقة ما تحتية في الدماغ ، تشتغل من تلقائها . وما أن يتم التوصل إلى نتيجة ، حتى تنطلق إشارة بالحل يلتقطها الدماغ الذي نعهده ، ويدعي أنه جاء بالحل من عندياته ، هذا ما حدث ، أمضيت الليل أفكر باطنيا.
كنت قررت أن أذهب به إلى الخارج . لم أدر إلى أين . وسرعان ما اهتديت إلى أن المكان هو أقرب غابة ، تحمل اسم المتنزه القومي ( صفة القومي ترتبط بمنتزه هذه المرة ولأول مرة ... لا بمعتقدات ووعود عاطف جمعية كبرى) . أخذ الببغاء يتقافز وأنا أحمله خارجاً من البيت . إنه فأل طيب . الجو شديد البرودة ، وفي داخل السيارة البرودة أقل. سرعة السيارة نشطته والانصراف السريع للمشاهد أثاره ، فأخذ يرفرف وحاول الطيران داخل قفصه . إنه بخير ، فلماذا لم احتفظ به . ما دام سليماً فذلك يرفع عني ، عبء مسؤولية أي خطأ اقترفته بحقه. صادفني حارس يتلفع بكوفية مرقطة، وينطق محياه المكدود بملامح قاسية ونظرات بريئة على بوابة المتنزه ، سألني ما أنا فاعل في هذا الوقت المبكر . لم أجبه بشيء سوى أني عرضت عليه سيجارة ، وسألته إذا كان صنع شاياً فأجاب إن الشاي على النار . فقلت له أني عائد بعد قليل . وحرصت ألا أبتعد عن ناظريه ، مخافة أن يظن الحارس بوقوع وشيك لمشكلة تغاضى عنها مقابل سيجارة . هبطت من مقعدي ، فتحت باب قفصه ومددت له راحة يدي قريباً من مخالبه ، حتى لامستها بأطراف أصابعي . تقدم بقائمته على راحتي , واستشعرت وخز المخالب يداعبني بقرصات لاسعة بدت باعثة على الضحك.حتى غادر قفصه بانسياب من يسبح . ارتجف وانتفض وقد انتقل إلى رحابة الكون ، ترك شيئاً من مخلفاته الخضراء الدافئة وديعة على راحة يدي. سامحته. مشيت به محمولاً على كفي ولم يطر ، بل اكتفى بتنقيل مواضعه. وتحت شجرة حرجية وارفة الأغصان ، نظرت مباشرة إلى عينيه للمرة الأخيرة، واكتشفت أنهما صغيرتان قياساً لجرمه ، تشبهان عيني بوم في استدارتهما التامة ، وكأنهما ليستا حقيقتين بل زجاجيتان . ليستنا جميلتين ، وتشككت أنه يراني ، وحتى لا ينتابني التردد ، رفعت راحتي إلى أعلى ما أمكنني ..أخذت نفساً عميقاً وأطلقته وقذفت به بغير عنف . طيرته وحمداً لله أنه لم يسقط. رفرف بتثاقل وارتفع بقدر من الصعوبة ، ولم يقف على أحد الأغصان كما توقعت ، بل التصق بموضع مرتفع من جذع الشجرة ، ثم أخذ يزحف باندفاع ، يقترب ويبتعد من الأغصان . بت وراء ظهره ، وهتفت في داخلي " انطلق يا ابن أمك وأبيك ، لا تنس أن تسامحني على أي تقصير . أمك أولى بك". وقد عنيت بأمه هذه المرة الطبيعة. وقبل أن أدير له ظهري ، كان قد خفق بجناحيه وطار إلى شجرة فارعة مجاورة ، واتخذ له موضعاً أعلى . ربما تحسن الشجرة أفضل مني الإصغاء إليه ومخاطبته ، إلا إذا انتقلت إليها منه انفلونزا الطيور . جزء من قلبي طار معه ، تمنيت لو أن جماع روحي صعدت معه ، ولو أني أتحرر لمرة واحدة من قيودي الأرضية . رن جس الموبايل وعرفت أنهم في البيت يتصلون للاطمئنان علي . طمأنتهم على عودتي بعد قليل وأني خرجت ل "أتخلص من الطائر".
اتجهت إلى الحارس فدعاني أن انزل لأشرب الشاي ، شكرته وقلت له جئت لأطيَر طير وقد طار ، فدهش رغم أنه رأى لا بد ما قد فعلته على غير مبعدة منه . سألته إن كان يملك ماء لأغسل يدي فرحب بي ، ناولته القفص المفتوح بابه فسألني عما يفعل به ، قلت نظفه بالماء الساخن والصابون من الداخل وأعطه للأولاد يلهون به، فتناوله مني باهتمام.
حرصت أن لا أفكر بشيء في طريق العودة ، سوى في اليوم الذي ينتظرني ، ولكن خطر ببالي فجأة أن ما حدث يثير السخرية . فقد فعلت ما يفعله مهندس أو ميكانيكي طيران ، حين يوصل طائرة صغيرة إلى المطار لتقلع من هناك ، واحتجبت عن ناظري أشجار بلا عدد ، في الشارع المجاور للبيت وفي الشوارع التالية ، وكان يمكنني تطييره لها . لقد رغبت كما يبدو بإظهار أكبر قدر من الكرم معه ، فنقلته إلى غابة ... إلى بيئة شجرية عميمة وكاملة ، يستعيد فيها نفسه ويستجمع أشتاته ويطلق قواه ، ولا تعود له حجة بعدئذ علي. وما أن بلغت البيت حتى أدركتني حمى شديدة ، تدفأت في فراشي وفكرت بوصل ما انقطع مع ابني واعتزمت زيارة طبيب ما أن أصحو ، وتأهبت لنوم عميق بلا أحلام ، فيما أنا أخوض في بحر من الهذيان .
من مجموعة رجوع الطائر – منشورات دار فضاءات - 2008
08-أيار-2021
16-تشرين الأول-2021 | |
27-حزيران-2020 | |
06-حزيران-2020 | |
18-نيسان-2020 | |
11-نيسان-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |