"المحبة من لوازم المعرفة" / هكذا تكلّم السهروردي
خاص ألف
2012-01-04
حكاية شهاب الدين يحيى بن حبش بن اميرك السهروردي لاتختلف كثيرا عن حكاية الحلاج, فهي تجسّيد لطبيعة الصراع بين الفردانية الحرة الباحثة عن آفاق تتسع للجميع وبين من لا يطيق ولايسمح بهذه الحرية التي تهزّ -إن سُمح لها بالانتشار- الصورة النمطية التي أريد لها أن تكون هي صورة الاسلام السائدة غير القابلة لأي طيران خارج سرب القطيع, بالشعارات ذاتها التي أمتدت عبر القرون لتصل إلينا. أعني التُهم الجاهزة التي تُلصق بكل من يحاول أن يسلط الضوء على الزوايا المظلمة التي يتم تجاهلها عن عمد من أجل تحقيق أهداف ومصالح آنية تفرضها ظروف سياسية وصراعات على السلطة والمواقع والنفوذ, وبالحجج ذاتها التي تسوقها الأنظمة القمعية في الوقت الراهن عندما تريد أن تكمم الأفواه وتبرر لنفسها القيام بأي عمل في سبيل ذلك. - دون أن نغفل منجز هزيمة الفرنجة في الحروب الصليبية وبالأخص في معركة حطين على يد ذات السلطات - . كما إنها تلجأ إلى من باع نفسه بدراهم معدودات من مشايخ الأرثوذوكسية الدينية من وعّاظ السلاطين التي تدخل من باب الدفاع عن بيضة الإسلام لكي تزيح عن طريقها إلى مراكز النفوذ والمال أي عائق, وهذا ماحدث تماما مع شيخ الإشراق السهروردي المقتول. نحاول هنا أن نلقي الضوء على شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي الذي يبوح في أحدى قصائده الصوفية فيقول:
أبداً تحن إليكمُ الأرواحُ
ووصالكم ريحانها والراحُ
وقلوبُ أهل ودادكم تشتاقكم
وإلى لذيذ وصالكم ترتاحُ
يا صاح ليس على المحبّ ملامةٌ
إن لاح في أفق الوصال صباحُ
لا ذنب للعشاق إن غلب الهوى
كتمانهم فنمى الغرام فباحوا
بالسر إن باحوا تباح دماؤهم
وكذا دماء البائحين تباحُ
ركبوا على سفن الوفا فدموعهم
بحرٌ وشدة شوقهم ملاحُ
والله ما طلبوا الوقوف ببابهم
حتى دُعُوا فأتاهم المفتاحُ
حضروا وقد غابت شواهد ذاتهم
فتهتكوا لما رأوه وصاحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها
لما دروا أن السماح رباحُ
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم
أبداً فكل زمانهم أفراحُ
عودوا بنور الوصل من غسق الجفا
فالهجر ليلٌ والوصال صباحُ
صافاهم فصفوا له فقلوبهم
من نورها المشكاة والمصباحُ
ودعاهم داعي الحقائق دعوةً
فغدوا بها مستأنسين وراحوا
أفناهم عنهم وقد كُشِفت لهم
حجب البقا فتلاشت الأرواحُ
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشـبه بالكــرام فلاحُ
قم يا نديم إلى المُدام فهاتها
في كأسها قد دارت الأقداحُ
هي خمرة الحبّ القديم ومنتهى
غرض النديم فنعم ذاك الراحُ
من الجدير بالذكر أن معظم الباحثين المعاصرين اعتمدوا على ماذكره ابن خلكان في وفيات الأعيان وعلى كتاب أبي الفداء (المختصر في تاريخ البشر) ولايقلل هذا من أهمية ماورد في كتاب (البستان الجامع) للعماد الأصفهاني الذي انفرد بذكر الوقائع المباشرة التي قادت إلى إعدامه وتأتي أهمية ما انفرد به الأصفهاني في أنه كان معاصرا لصلاح الدين الأيوبي, بمعنى إنه كان قريبا من حادثة إعدامه. ولد السهروردي سنة (549 هـ / 1153 م) في قرية سهرورد بالقرب من زنجان وتلقّى تعليمه الأولي في دروس الفقه, ثم اصول الفلسفة المشائية على يد الشيخ مجد الدين الجيلي في مراغة من أعمال اذربيجان, وكان الجيلي أستاذا للفخر الرازي, والتقى السهروردي بالفخر الرازي وجرت بينهما مناظرات ومساجلات, قبل أن يغدو الأخير معارضا كبيرا للفلسفة فيما بعد ويتحول موقفه إلى متشكك بالعقل وقدراته وقد بيّن موقفه من العقل بأبياته الشهيرة التي يقول فيها:
نهاية إقدام العقول عقالُ
وأكثر سعي العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشة من جسومنا
وحاصل دنيانا أذىً ووبالُ
ولم نستفد من سعينا طول عمرنا
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقد ذكر ابن خلكان أن السهروردي تعلّم من الشيخ مجد الدين الجيلي وانتفع بصحبته, غادر السهروردي مراغة إلى أصفهان التي كانت آنذاك مركزا للحركة العلمية في ايران, وتعيش مناخا حيويا للفلسفة المشائية. استكمل السهروردي دراسته هناك على يد ظهير الدين الفارسي, فقرأ كتاب (البصائر) لأبن سهلان, وتأثر كثيرا بهذا الكتاب في بداياته, كما أكد الشهرزوري وهو تلميذ السهروردي (ت 680 هـ / 1250م). أقام شيخ الإشراق في أصفهان مدة من الزمن جعلته عل تماس مباشر مع أفكار ابن سينا ومذهبه, فترجم رسالة الطير من العربية إلى الفارسية, وكتب من ثّم شرحا لكتاب الإشارات, مما يكشف لنا إن شيخ الإشراق عاش في مناخ مشّائي, وبقي على اتصال دائم مع ممثلي هذا الفكر, ففي سفرته إلى ماردين اتصل بشيخ المشائين هناك فخر الدين المارديني. وبعد أن اكمل السهروردي دراساته المقررة, شّد الرحال إلى مناطق عديدة من ايران فالتقى عددا من شيوخ التصوف وانشدّ إلى منهجهم وانخرط في المسلك الصوفي في هذه المرحلة من حياته لتتوسع بعد ذلك رحلته إلى مناطق عدة شملت الأناضول وسوريا التي تركت مناظرها الخلابة أثرا كبيرا في نفسه, ووفقا لملاحظات الشهرزوري وكتاب المطارحات. يمكن لنا ان نسجّل أن السهروردي كان مولعا بالسفر والإنتقال من مكان إلى آخر, في طلب العلم حتى قاده ذلك لمغادرة دمشق إلى حلب حيث قابل هناك الملك الظاهر بن صلاح الدين الأيوبي الذي كان كثير التعلق بالصوفية فتعلق بالحكيم الشاب وأعجب برجاحة عقله ودعاه للإقامة في حلب, فوافق السهروردي على دعوة الملك الظاهر في حلب وكانت بداية النهاية لحياته القصيرة التي أجمعت المصادر على إنه لم يتجاوز سن الثامنة والثلاثين. تحدّثت بعض الروايات عن سجنه في قلعة حلب ليهلك جوعا وعطشا, وذهبت روايات أخرى إلى أنه أرسل إلى قلعة القاهرة حيث أمر صلاح الدين بقطع رقبته, وهناك منْ أشار إلى أنه خنق بوتر, ومهما أختلفت روايات إعدامه, فإنه من الثابت أن الذي أمر بإعدامه هو صلاح الدين الأيوبي. وبهذا الايقاع تحركت المصادر التاريخية لترسم لنا صورة السهروردي الذي بدا إنه يكرر ظاهرة بعينها يندرج تحت اطارها الحلاج وغيره من الشخصيات المتألهة في الاسلام, فالحلاج القادم من بيضاء فارس إلى تستر ثم إلى البصرة وبغداد, وإلى الهند والعودة إلى بغداد ليُحرق فيها بعد سلسلة من المحاكمات التي لا تختلف في بنيتها الحوارية عن المناظرات التي دخل فيها السهروردي في مساجد حلب, لينتهي إلى لحظة الإعدام بالتهمة نفسها, وهي الخروج عن الدين, والمروق عن الشريعة المحمدية. في ظروف سياسية معقّدة كان الحاكم فيها بأمسّ الحاجة إلى حشد الرأي العام عبر الفقهاء من علماء الظاهر الذين كانوا يشكلون قوة ضغط كبيرة لايمكن اغفالها. إن صراحة السهروردي وعدم حذره وهو يخوض في بعض العلوم الباطنية, أمام مجالس أهل الفقه بحدة ذكاء كانت بادية عليه, بقدر مامكّنه من قهر خصومه أثار حقدهم عليه, فراحوا يتحينون الفرص للإيقاع به فوضعوه بالصورة التي أرادوها أمام الملك الظاهر. ثمّ دعوه مرة اخرى للمناظرة في بعض الأمور الفقهية, فتفوق عليهم وأحرجهم فزاد حقدهم عليه, وخططوا بعد المناظرة للإساءة إليه والإيقاع به عن سابق قصد, فدعوه إلى مناقشة علنية وقد دارت هذه المناقشة في مسجد حلب وعلى نحو علني, وسأله أحدهم: هل يقدر الله أن يخلق نبيا آخر بعد محمد (ص)؟ وطبقا لما أورده الأصفهاني في كتاب (البستان الجامع) فإن السهروردي أجاب بأن (لا حدّ لقدرته) فتأولوا هذه الإجابة بفهم أن السهروردي يجيز خلق نبي بعد خاتم الأنبياء وكتبوا محضرا, وعدّوا ماحدث كفرا وخروجا على الشريعة المحمدية, وطالبوا بإعدامه بتهمة ترويج عقائد تتنافى مع الدين فلما رفض الملك الظاهر ذلك, التجأوا إلى صلاح الدين مباشرة, فبعث الأخير برسالته المشهورة التي يدعو فيها ولده الملك الظاهر للتخلص من السهرودري والتي جاء فيها(... هذا السهروردي اسجنه أو اقتله ...)وبهذا الأسلوب الذي يبين مدى الغيظ والحنق الذي أشعله الفقهاء في صدر صلاح الدين انتقاما لفشلهم في مناظراتهم مع شيخ الإشراق, فأودع السهروردي السجن وأعدم عام 587هـ / 1191 م واحرقت كتبه.
يقسّم ماسنيون كتب شيخ الإشراق طبقا لثلاث مراحل من حياته الفلسفية, صبغت كل مرحلة من هذه المراحل مواقف السهروردي وتفكيره بصبغة معينة, وهي كما يأتي:
1- القسم الأول المتعلق بمرحلة الشباب, وكتب فيها السهروردي: الألواح العمادية, هياكل النور, والرسائل القصيرة.
2- القسم الثاني المتعلق بالمرحلة المشّائية وكتب فيها: التلويحات, المقاومات, المطارحات, المناجيات.
3- القسم الثالث, وهو مايتعلق بالمرحلة السينوية الإفلاطونية, وفيها صنّف السهروردي: حكمة الإشراق, كلمات الصوفية, اعتقاد الحكماء.
أما المحاولة الأخرى والأكثر أهمية, فهي محاولة أستاذ الأدبيات البروفيسور هنري كوريان, الذي نقل هذه الإشكالية من مرحلة البحث التاريخي إلى مرحلة البحث في فلسفة شيخ الإشراق ومحاولة الكشف عن التطورات التي مرّت بها فلسفته منذ مراحل التعليم الأولي في مراغة, وحتى اكتمال منهجه وتوفره على مجمل آليات الجدل في حلب.
في الختام نورد هنا كلمات لشهيد الأسرار يقول فيها (كمال الكلمة تشبّهها بالمباديء, على حسب الطاقة البشرية, فلابد من التجرد بحسب القدرة, وينبغي أن يكون للكلمة الهيئة الاستعلائية على البدن لا للبدن عليها,... والمحبة من لوازم المعرفة, وإن كانت المعرفة قليلة, وكل معرفة توجب محبة وإن كانت قليلة, فإذا كملت النفس بها فذلك نور على نور, والمحبوب من يكون لنفسه فطنة وحدس قوي ينال دون تعب عظيم ما لا ينال غيره, والرجل لايصير أهلا إلا بالمعارف والمكاشفات العظيمة).
08-أيار-2021
21-تشرين الثاني-2013 | |
16-تشرين الثاني-2013 | |
05-تشرين الثاني-2013 | |
26-تشرين الأول-2013 | |
15-تشرين الأول-2013 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |