قراءة في كتاب عن الدين و الفلسفة و الاستبداد لمحمد خاتمي / عرض
2012-03-10
يبدو كتاب ( الدين و الفكر في شراك الاستبداد ) الصادر عام 2001 لمؤلفه محمد خاتمي رئيس إيران الأسبق و الزعيم الإصلاحي المعروف، و بترجمة دقيقة و موثوقة للباحث ماجد الغرباوي، و كأنه قراءة في المحطات الأساسية لنظرية المعرفة عند المسلمين و علاقة الدولة بها. لقد كان المؤلف واضحا منذ المقدمة أن الأفكار ليست هي المسؤولة عن صناعة الواقع ، و بالعكس الصراع بين الدولة و المعارضة و بالأحرى الصراع على مبدأ شرعية الدولة هو الذي رسم الخطوط العريضة للعقل و نشاطه. مع استثناء واحد خاص بفجر البعثة. و كان هذا محصورا في مضمار الوحي و المعجزات و خاتم النبوة، و فقط.
و لذلك غلبت على مادة الكتاب ثلاثة عناوين عريضة ، هي :
- الحرية و استبداد الدولة.
- العوامل المؤثرة في تداول السلطة.
- العلاقة بين العقائد و أساليب الحكومة.
بالنسبة للموضوع الأول. يرى المؤلف أن الإسلام هو ثورة على أسباب الظلم و الفجور في المجتمع ( ص 17 ). و لذلك من أول واجباته علاج القلق الفكري و العملي الناجم عن عيوب الاستبداد التي لحقت بالإسلام دون أي تغيير في طبيعة الدولة. و كانت من أول ثمار تلك المعايب تعديل هدف الحكومة القائمة من سيادة الفضيلة إلى القوة و الغلبة.
و في توضيح مفهوم الغلبة يرى المؤلف إنها الجبروت القائم على القوة و الخداع. و هو ما سوف يطلق عليه علم الاجتماع السياسي المعاصر اسم ( الطغيان ). و ترتب على ذلك حرمان عموم الشعب من حق تقرير مصيره السياسي. و هكذا نشأ أول خلاف نوعي بين الدين و الدولة، حيث أن الالتزام الطوعي ( و هو جوهر الإيمان ) حلت محله البيعة غير القانونية أو بيعة الإكراه و الطرف الواحد ( ص 25 ).
و لذلك تنضوي أهم أسباب انهيار الدولة الإسلامية تحت نقطتين :
1 – المركزية الشديدة التي استعاضت عن رابطة التآخي و المؤازرة برابطة العصبية و الولاء. و هذه إشارة و لو أنها ضعيفة لعودة العرب لفطرتهم السابقة بالاحتكام للسيف و لشكل القبيلة باعتبار أنه الوعاء الحاضن لمبدأ الحكم و مصدر السلطات. و تسبب ذلك بلجوء المعارضة و لا سيما الخوارج لأطراف الإمبراطورية ليكونوا بمأمن من القبضة الحديدية للسلطات.
و أعتقد أن المؤلف لم ينس عمدا أن الخوارج هم من كبار الصحابة، و قد اختاروا عن طواعية الابتعاد عن عاصمة الخلافة. و بهذا القرار اشتروا عدة منافع. بالإضافة للحرية النسبية و حرية الاعتقاد كان يحدوهم أداء الواجب. إن الاستيطان في الثغور ( كما رأى هشام جعيط في كتابه الهام: الفتنة ) قد سهل على الخوارج مهمة الجهاد والذي له مرتبة واجب مفروض. لقد كان الخوارج هم الحارس الصلب و الشجاع الذي قدم لعاصمة الخلافة هدية بالمجان: و هي الغطاء العسكري.
2 - إلحاق الضعف بالتدريج بمبدأ الأممية في الإسلام. ثم العودة لسلوك مجتمع الجاهلية الوثني و إثارة المشاعر البدوية الأصيلة و النعرات التي تستند على النقاء العنصري. و هو ما يقول عنه المؤلف بلغة مهذبة إنه شدة الولاء للعرق العربي.
و قد حرك ذلك في نفوس الفلاحين و الواستريوشان و التيانكاران المشاعر القديمة بالحرمان الطبقي، و بذكريات استئثار الواسبومران و الوبدان و الآزاتان أتباع الملك يزدجر بالامتيازات و على رأسها الملكيات الخاصة و احتكار رأس المال الوطني الثابت. و ربما لهذا السبب تركزت أكبر فرق التشيع الإمامية و غيرها في الشرق من الكوفة و حتى إيران. و أرى في هذا السياق أن المؤلف كان موفقا في لفت النظر لقوة السيف و لسياسة سفك الدماء كأسلوب استراتيجي يتحكم بأشكال التعامل مع المعارضة من طرف، و مع العامة من طرف آخر. حيث أنه لم تكن الخدمات و لا الإجزال بالعطاء من الأساليب المتبعة . و كانت تقتصر على النخبة. و من هنا حقيقة الطبيعة النخبوية للحضارة الإسلامية. و كونها حضارة بلاط متخصصة بمخاطبة كبار العلماء و جوقة المثقفين.
و بهذه الطريقة تحولت الخلافة إلى عرش يقوم أساسا على الدكتاتورية و الاستبداد. و عنهم أخذ العثمانيون سياسة التمييز العنصري غير المشروع و لا العادل تجاه الأغيار و العرب المسلمين. و دائما يمكن مقارنة الخليفة السفاح ( عبدالله ) أول قادة الدولة العباسية بالسفاح ( جمال باشا ) مندوب العثمانيين في بلاد الشام الذي أخمد الثورة العربية. و من هذه الحقيقة المؤلمة ظهرت أشكال المعارضة المدنية التي تشبه أساليب العصيان المدني. و كان يغلب عليها سلوك التصوف أو الاعتزال. و هما في الواقع جماعتا خطاب أو صالونات تشجع على نشر الثقافة الشعبية البديلة، و بنفس الروح التي تقف وراء صالونات المعارضة لنخبة المرحلة الراهنة سواء في مجال وجوه المجتمع أو وجوه الثقافة.
بالنسبة للتصوف، يرى المؤلف أنه لم يمثل حلا ناجعا و لكنه زود جماهيره بمجال خصب للهروب من الواقع. و أكد أنه اقتصر أول الأمر على البعد العملي و السلوكي لمداواة جراح النفوس المضطهدة ( ص 42 ). ثم مع الزمن أصبح له بعد نظري فامتزجت الفلسفة و علوم الكلام مع الحكمة و الغنوص. و هكذا اكتملت معارف ما وراء الطبيعة كأسلوب تعبير عكست فيه الحضارة الإسلامية غناها و تعددها ( ص 42 ). ثم أكد على ما معناه أن التصوف اشترك مع العلوم الشرعية و الفلسفة في صياغة العقل الاسلامي و في توجيه الحياة العامة و تكوين النشاط السياسي و دوافع المجتمع ( ص 43 – 44 ). غير أنه في المقدمة اعتبر التصوف من خصائص مجتمع المدينة و ألقى عليه مسؤولية الأخطاء التي ارتكبتها الدولة و مسؤولية الانتقال من البيعة للتوريث. و لا أعلم بالضبط ما هي مصادر هذا الاعتقاد الذي لا يخلو من وجهة نظر.
فالرسالة و الوحي كانا أولا من خصائص نشاط الوساطة التجارية والمبسطة التي استطاعت أم القرى – و هي تجمع عشائري لقبائل مكة - استيعابه. أضف لذلك أن شخصية الرسول الكريم لم تكن تخلو من خصائص رعوية. أقله في مضمار الانتاج الصغير. لقد كانت حياته بشكل مانيفاكتورة غير صناعية تخدم رفاهية المستهلك. و لم تصل البعثة لمرحلة المدينة و تجارة المجتمع الحربي إلا في أعقاب الهجرة. و هنا انفرد الوحي بجملة من القرارات التي لها سلطة سيادية و سلطات رقابة ( بتعبير فوكو ). و بالتالي لم تكن تصوفية إلا بمقدار تصوف بداياتها، في المرحلة السابقة على تشكيل الدولة و اقتصاديات المدن.
و مع أن المؤلف بذل ما بوسعه لتحديد منشأ اسم هذه الفرقة و معناه يمكن أن نستنتج من عموم كلامه نقطتين هامتين :
1 – التصوف في أصله مرآة تعكس طبيعة الصراع المؤثر بين الأفكار المحدثة و العقل العربي الكلاسيكي.
2 – و هو يدخل ضمن الدائرة الدامية التي حرضت صدام شرق - غرب حول مضمون الحضارة الإسلامية في عصر الدولة. و هو يدين بكل أساليبه و شروطه لثقافات منشأها شبه القارة الهندية حيث أن الثقافة هناك معقدة و لها مخزون و ذخيرة من الأسرار و الرموز ( ص 81 ).
و هذا أيضا هو شأن الاعتزال فهو موقف سياسي له صبغة تقاعد من العمل العسكري. و لكن المعتزلة ليسوا من فئة واحدة. و على الأغلب إنهم مجموعتان. الأولى تعود لفترة موقعة الجمل و قد وقفت على الحياد. و الثانية لم ترفع السيف لا بوجه الحسن و لا بوجه معاوية. و لهؤلاء يعود الفضل ( كما يذكر حسين مروة ) في اشتراط حرية الإرادة لتبليغ الواجبات أو التحرر من سلطة و قيود النص ( ص 640 – ج1 – النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية ).
بخصوص الموضوع الثاني. تداول السلطة . ينوه المؤلف بطريقة غير مباشرة إلى أن عناصر تماسك الدولة تعكس بنفس الوقت اختلافات طبيعة الخطاب الموجه للعامة، و في طبيعة البنية التي تترجم دور و عمق المحرضات . فالدولة الأموية في شتى أحوالها استندت لمصادر من الفكر الغربي الكاثوليكي ( و هو توليفة معقدة من سلطة الكنيسة و تراتبية المجتمع ) و كانت هذه بدورها تستند على إرث و حكمة اليونان. غير أن الدولة العباسية اعتمدت على إعادة إنتاج و بلورة العقل المشرقي و لذلك كانت راعية للتصوف و الفكر الباطني. و هذا يدل أن الصراع الداخلي بين الأطراف المتنازعة يختصر مجمل المشكلة الوجودية التي نجمت عن حضارتين لهما ظروف خاصة.. الحضارة الشمسية المادية، و الحضارة القمرية التي تحيل لمزيد من الخرافة و الفانتازيا و التأويل السحري. و هذا يعني أن الصدام هو بين عقل من خصائصه التركيب و عقل من أهم خصاله التفكيك.
و قد اجتهد المؤلف و أطلق على بني أمية اسم أهل الظاهر، و كأنه يحجزهم وراء حدود و أسوار النص و ثقافة التداول. و اختار لبني العباس اسم أهل الباطن، و كأنه يعتقد أن دعوتهم السرية مشابهة لكل وقائع بعثة الرسول ( ص ) . فقد كان الهدف منها ضم الشمل تحت رايات التوحيد التي نشأت أولا برعاية من الإرادة و النضوج النفسي. و لكن ليس تحت مظلة القوة و لا واقع الحال. و بلغة المؤلف إن الثورة العباسية ( و أنا أحبذ أن أقول إنها انقلاب ) لها هدف واحد و أساسي و هو البحث عن شرعية النظام، و لتجاوز كل عيوب المجتمع الطبقي المثقل بظلم الشعوب ( ص 68 – 69 ).
و بهذا الصدد يطيب لي أن أشير كم أصاب المؤلف في الكشف عن عمق الخلاف في مستوى المصالح بين طبقات السلطة القبائلية ، و لكن ليس في بنية و اتجاه الخطاب.
لقد نفذ العباسيون انقلابا دمويا ضد بني أمية، و لم يبدلوا شيئا من طبيعة النظام، و إن بزوغ فجر الدولة العباسية الدامي ليس إيذانا بالعودة لتداول السلطة عن طريق ديمقراطية النخبة أو الشورى. و قد وقف عند حدود استبدال الأرستقراطية الحاكمة ، و هذا يعني أن الهزيمة التي ألحقها الأمويون بروح الثورة الإسلامية وجدت من يعمقها و يحولها إلى نكبة.
لقد وضع العباسيون آخر مسمار في تابوت نظام الخلافة العادلة و في نظام جباية الأموال لإنشاء دائرة اقتصاد و شؤون اجتماعية قوية و متوازنة. و هذا دليل آخر على موت أخلاق دولة المدينة و العودة لأخلاق دولة أم القرى ، مكة ، التي سمحت بالتناحر بين العوائل و بعودة شريحة الأرقاء.
و في الموضوع الثالث يؤكد المؤلف أنه خلال القرنين الثالث و الرابع للهجرة دخلت بوادر الانحطاط للدولة، و بالمقابل صعدت بذور و ثمار الجهد العقلي للمسلمين ( ص 73 ).
و مع أنه لم يذكر الأسباب الداعية لهذا الترابط المعكوس نستطيع أن نستوعب أن نقاط ثقافة الدولة كانت تنمو في ظل تفكير أحادي و غير متسامح و لا يساعد على فتح الباب لكل أساليب التعبير.و لذلك غلبت على عصر ازدهار الدولة نشاط الفئات التي يسميها شريعت كرابي ( أهل الارتهان – ص 74 ). و هم جماعة تتشكل من أفراد ليس لهم حظ من العلم و المعرفة ( ص 75 ). و ساعد على انتشار هذا التيار بساطة عقائده و سهولة استيعاب العامة له ( ص 75 ). و هذا يفسر لماذا كان حظ الفلسفة و العرفان أضعف و لماذا انتشر غالباداخل الفرق المناوئة للسلطات الحاكمة ( ص 70 ).
و هنا يسجل المؤلف كيف ظهرت حاجة مثلث الحضارة: المجتمع و العقل و الدولة للتحديث. و نفهم منه أن العقل العربي فتح الباب لأول عصور الحداثة من خلال نشاط الفقهاء شبه المستقل. و الغاية إيجاد الحلول الناجعة للأسئلة التي حيرت القلوب. و هو بالذات ما نسميه بمفردات الفكر المعاصر بالقياس و الرأي ( ص 77 ). غير أن المؤلف يجتهد و يقول عنه إنه ( تحديد الوظائف – ص 77 ). و هذه هي المهمة الأساسية التي أخذها المعتزلة على عاتقهم. فقد استعملوا العقل لتفسير الذات. و بتعبير المؤلف وظفوا العقل لفهم الدين و للإجابة على الأسئلة ( ص 78 ).
و يبدو و كأنه يؤكد ( مع ميثم الجنابي ) أن عصر بني أمية كان للفتوحات و العمل العسكري، و عصر بني العباس للسياسة و لعلوم المنطق ( مقالته : افتراق الأمة بين التاريخ و السياسة – صحيفة المثقف – عدد : 2049 – 2012 ).
و هذه هي النقطة الحاسمة التي دشنت أول خلاف بين خطوط رجعية و تقدمية في الإسلام. و كانت السبب الحقيقي لظهور محاكم تفتيش العقائد.
و في هذا المضمار يقدم المؤلف خطوة جريئة أخرى، و يربط الحركات السلفية الراهنة بأسلافهم الأشاعرة. و هم كما يقول لهم عقيدة ترى أن العقل لا يرقى في معطياته لتحليل و تفسير خصائص الوجود عند المسلمين ( ص 80 ). و هم لا يصغون لأحكام العقل و يدبرون لها العراقيل و الشروط ( ص 81 ).
و على هذا الأساس أصبح من الممكن فرز خلاصة نشاط الحضارة الإسلامية إلى ست تيارات ، و هي :
1 – التصوف الذي اعتمد على الاتصال الروحي مع الحقيقة التي تتلخص في الذات الإلهية أو في اسمها. و كان لهؤلاء رديف من الشيعة الذين أرسوا دعائم فلسفة الإلهيات.
2 – المدرسة السلفية بزعامة أبي حسن الأشعري و قد نظرت للعقل و كأنه مجرم مشبوه ينافس النص و الشريعة.
3 – بعض الشخصيات القلقة ( بتعبير المرحوم عبدالرحمن بدوي ) و التي حاولت تفسير الظواهر الوجودية بالاحتكام للعقل مع الاحتفاظ بالفكرة الداعية لتساوي الله تعالى و النفس في موقع الأزلية. و كان في مقدمة هؤلاء الرازي الذي وصل به الأمر إلى حد إنكار النبوة و إنكار ضرورة الوحي ثم نفي الشريعة، و ذلك ضمانة للوصول إلى عالم الحقائق و تحقيق السعادة ( ص 97 ).
و لكن المفكر حسين مرة يتحفظ على هذه الصورة المجحفة، و التي يرى أنها قراءة ظنية ، لأن مؤلفات الرازي أصلا غير متوفرة حاليا. و يعود ذلك برأيه لعدة أسباب من أهمها: لأنه مناوئ للفكر الذي تعهد نظام تلك الفترة بتسويقه. و لأنه اتصف بالصراحة و الجرأة تجاه كليشهات الخطاب الرسمي، و بالأخص فكر الإمامة الإسماعيلي. و كان يومذاك في ذروة مجده إبان قيام الدولة الفاطمية ( ص 545 – النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية).
4 – و التيار الآخر يمثله المعلم الثاني أو الفيلسوف المؤسس الفارابي. و من خلال العرض المسهب لأهميته نتوصل مع المؤلف لمسألتين.
الأولى، أنه احتكر في أواخر القرن الثالث للهجرة تفسير دور الوحي في الاختيار. و هو نفس الدور الذي قامت به البعثة المحمدية في أول مراحلها.
الثانية، أنه ركز على دور العقل في إضفاء صفات مادية على الميول و الرغبات.
و مع ذلك يعتقد أن الفارابي لم يتنازل عن فكرة دور الخالق في توجيه الفكر و العاطفة حيث أن الدين لم يعد مجرد رعاية عاطفية للذات و لكنه أيضا هو انعكاس لدور الفضيلة و السعادة و مقياس لتحديد الواجبات ( ص 102 ). و هو يجزم أن الفارابي أول منعطف حداثي في تاريخ هذه المنطقة. و هذا يفسر لماذا لم يكن من طرف التصوف الاستشراقي و لماذا انحاز بشكل واضح للتصوف الغربي المادي. فقد كان يضع الحقيقة حصرا في مجال النظر و التعقل ( ص 119 ). و كان يرفض فكرة إلغاء العالم و السعي إلى بطلانه بتصور أنه الطريق للسعادة الحقيقية. و يرى أن هذا من خصائص أهل المدينة غير الفاضلة ( كما ورد في الكتاب – ص 119 ). و لذلك إن طريق السعادة يمر من وسط المجتمع ( ص 120 ). و يمكن بشيء من التساهل أن نرى ذلك و كأنه من خصائص العقل الفعال ( بمفردات الخديوجيم – ص 121 ).
و يرى المؤلف أن مصادر الفارابي يونانية. و هذا دليل على أنها من فلسفة خاصة بنشوء و تطور المينة. و قد ركزت على مقدار الاتفاق بين حقائق الدين و حقيقة الفلسفة ( ص 105). و هكذا حل بضربة واحدة الصدام المزعوم القائم بين العدل و الاختيار ( ص 106). و من هنا لم يتعرض لنفس المستوى من النقمة التي انصبت على الرازي و أدت إلى إتلاف كل تراثه الغزير.
و هنا من المفيد أن نسجل إضافات حسين مروة لما سلف. فهو يقول إنه وقفت وراء أسطورة نبوغ الفارابي عدة عوامل وضعته في صف الموظفين الرسميين الذين حصدوا ثمرات اعتماد و رضا البلاط عليهم.
فهو من ناحية اجتماعية ينتمي لأرستقراطية الأتراك السنة ( ص 506 ) و التي لم تؤمن بدور المعرفة في إعادة صياغة الدولة. و بالعكس اقتصرت على العصبية ( و التغلب بالمصطلح الخلدوني ) لتمرير حزمة إجراءات فرّغت الثورة الإسلامية من مضمونها.
و من ناحية مهنية لم يتجاوز دور التكنوقراط. و كانت تطلعاته للتجديد لا تشكل أي خطر على دواعي الرفاهية و الرخاء التي أسبغتها العائلة المالكة على النخبة. و كذلك لم يرفع الشعارات الإسلامية المعروفة التي تدعو لمحو الفوارق بين الطبقات. حتى أنه لم يرتدع عن تصنيف الناس حسب منبتهم الطبقي في المجتمع و بحسب قدراتهم على التكسب ( ص 506 – النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية).
و أعتقد أن المؤلف ( و بشكل غير مباشر ) حرص على الرد على هذه التهمة. لقد أقر أن الفارابي هو الحارس لجملة من الثوابت التي دعمت شمولية الحاكم و وضعت بيده كل مصادر السلطات. و هي تتلخص في سلطة الإبلاغ بالحقيقة و كأنه الوحي الناطق باسم علة الوجود أو الروح القدس. و سلطة تنفيذ هذه الحقائق بواسطة أداتين لا ثالث لهما و هما الإرادة و الاختيار. و لكنه قاد معركة نظام المعرفة المتحول ضد نظام العقل المحافظ. و ارتبط ذلك عنده بالعمل الجاد و الدؤوب لنفي شكل الحضارات من جهة، أو لدمجها و توحيدها سواء هي نهرية و زراعية، أو من نمط إنتاج مائي و بري. لقد كانت الحضارات بالنسبة له لا تختلف على مبدأ التوحيد و لا على جوهره. و لكن الخلاف تركز في شكل التعبير عن هذا المبدأ: هل هو مادي و مختص بقوى فوق طبيعية، أم أنه حلولي يعتمد على الفيض الإلهي و التقمص.
5 – اليتار الخامس، و هو الذي انتشر بعد موت الفارابي، حيث كان الاتجاه لصالح تدوين سياسة إيران القديمة و تبرير السائد على أساس النموذج الذي كان معروفا قبل الإسلام ( ص 228). و هنا يترك المؤلف لنا مسافة بين السطور. و هي عبارة عن فواصل و صوامت. و يمكن أن نفهم منها أن ثورة العقل المتوسطي ( القائم على أنقاض ثورة بسطاء الجزيرة العربية ) كان جسرا ضروريا لتعبر عليه الحقائق الأساسية لفكرة اليونان القدماء عن علاقة الإنسان بالطبيعة و ما فوقها. و لكن بعد موت الفارابي تحول ذلك لحركة إصلاحية ضعيفة اعتمدت على الرموز و التلميح و ربما أيضا على مناهج حكم بها الهنود و الإيرانيون مشرق العالم.
و يدخل تحت هذا البند تعريف " أبو" حسن العامري للسياسي الناجح. فهو برأيه كل من سار على خطوات بوذرجمهر ( ص 243 ). و هو عند مسكويه كل من اقتدى بأردشير الملك الصحيح ( ص 275). لقد فتح موت الفارابي الباب للصراع بين الأجيال أو بين الكليات و الجزئيات ( ص 239 ). و بين رموز االشريعة و العقل ( ص 239 ).
و هذا يوجب الانتباه كيف انتقلت العلاقة بين الدين و العقل إلى علاقة بين الدين و حق الملك ( بتعبير مسكويه). و قد رجحت كفة الميزان لطرف التفسير الأبوي لتاريخ السلطة ( ص 270 ). الأمر الذي لم يخدم سلطة المركز بمقدار ما برر لبعض الأمراء رغبتهم بالاستقلال ثم اغتصاب العرش. و هو ما عبر عنه مسكويه بصراع مفاهيم : التغلب ( القوة ) و العدالة ( النظام و السنن ). و يبدو أنه كان في ذهن المؤلف خلال استعراض أزمة الصراع بين المذاهب و تطبيق العبادات أكثر من خط يربط الصورة الحالية للواقع السياسي بمصادره. و يمكن لنا أن نستخلص أن الانقسام الملحوظ بين الحركات السلفية و جماعة الإخوان المسلمين في هذه الأيام مصدره طبيعة الذهن الإسلامي الموزع أصلا بين علماء لهم علاقة بالتفسير الاجتماعي لأصول الدين، و علماء يتمسكون بالمضمون الروحي للعدالة الدينية حتى أصبح للحاكم منصب إلهي كما ورد عند الغزالي ( ص 316 ). فالعدالة ليست أساسا للنظام السياسي و إنما هي سبب فقط لتثبيته ( ص 317 ). و إن لم يكن للمسلمين يد في اختيار شخصية النبي ، لماذا تكون لهم صلاحيات في تعيين أو اختيار الملك ( ص 316 ) ، ناهيك عن عزله. فالملك غير مسؤول أمام الخلق و لكن أمام الله تعالى ( ص 317). و لا يوجد أي إجراء بشري لمؤاخذته على مظالمه ( ص 317).
و يجزم المؤلف أن هذا بالضبط هو الدور الذي أنيط بثلاث شخصيات في التاريخ السني المتأخر و هم : الماوردي و الغزالي و بدر الدين بن جماعة، و الذين تتراوح تواريخ وفاتهم بين 450 – 732 للهجرة ( ص 283 ). حيث أنهم حولوا ذهنية الأغلبية دفعة واحدة إلى تابع للواقع السياسي الحاكم ( ص 299 ).
6 – التيار السادس و الأخير. و هو ظاهرة ابن خلدون حيث أن الفكر الغربي لعب دورا حاسما في تأسيس علم اجتماع بقوانين موضوعية بعيدة عن ألعاب المنطق و التلاعب بالكلام و الرموز و الافتراضات. و كما يقول المؤلف وقفت وراء ذلك عدة أسباب لا جدال حولها، و هي:
- نهاية الصراع الدامي بين السنة و الشيعة أو تجاوزا بين أنصار الغرب و أنصار المشرق في آسيا الوسطى و بلاد الرافدين و إيران، و إلحاق الهزيمة بالسلجوقيين و المغول.
- ثم الانتقال التدريجي و المتمهل من رواسب الفكر المشرقي نحو أفكار غربية معاصرة تعهد بنشرها تيمورلنك ثم العثمانيون. فقد كان تراث الفرس و الكلدانيين و السريان قد احترق بأوامر الخليفة العادل عمر بن الخطاب بعد الفتوحات، و لم يتبق قيد التداول غير أفكار اليونان ( ص 359 ) التي تصدى لمهمة حمايتها الخليفة المأمون.
- بعد ذلك خروج الغرب من مرحلة القرون الوسطى و الدخول في عصر جديد، و تأثير دانتي و بوكاتشيو على طريقته في جمع المعلومات و سردها، ثم التمهيد في أواخر حياته لصناعة الطباعة.
و في النهاية يدعو المؤلف للانتباه من مخاطر ملفات التنوير و النهضة، و لا سيما الجهود الرامية لتنظيف واقع الأمة السياسي و واقع التشريع و الفقه من الاستبداد بالدعوة للانتقال إلى دولة مدنية عادلة أو دستورية على النمط الغربي ( كما هو حال الكواكبي ) أو على النمط العثماني المتأثر بالطرز الحديثة ( و لا سيما المدنية الغربية التي دخلت مع المحرك البخاري و الديناميت).
و في هذا السياق يرى أن الاستبداد في هذه العصور لم يعتمد على النموذج المعروف للتعصب القبلي، و لكن على الاستعمار الذي هو أقبح مظاهر الحضارة الغربية. و هذا يفرض علينا البحث عن الأدوات الخاصة لدراسة الواقع الحاضر بشكل مستقل ( ص 404 ).
صالح الرزوق – حلب - 2012
08-أيار-2021
مقتطفات من : كافكا في المحاكمة الأخرى بقلم : إلياس كانيتي ترجمة : |
17-نيسان-2021 |
03-تشرين الأول-2020 | |
12-أيلول-2020 | |
22-آب-2020 | |
20-حزيران-2020 |
22-أيار-2021 | |
15-أيار-2021 | |
08-أيار-2021 | |
24-نيسان-2021 | |
17-نيسان-2021 |